المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

من يُسعف شارون وينقذه من مأزق الفوز المعلن؟

ما يحير المراقبين السياسيين اليوم، هو انه على الرغم من ان رئيس الحكومة أرييل شارون لم يف بأي وعد من وعوده وانه لا يطلق حاليا اي وعد جديد ولا يضيء شمعة في عتمة النفق، وانه خلال فترة حكمه القصيرة لم يترك اي شكل من اشكال الكوارث والمصاعب والازمات الاقتصادية والسياسية والامنية بل حتى النفسية، إلا وأنزلها بالمجتمع الاسرائيلي، فانه لا يزال يحظى بتأييد ملحوظ وشعبية تصل حتى 62%، في حين ان عميرام متسناع الذي يطرح حلا واضحا ومتكاملا وشبه نهائي لا يحظى بتأييد أكثر من 24% من الجمهور.
والمفارقة التي تدعو الى الاستغراب أكثر أن هذا الجمهور المنحاز نحو اليمين، يفصح في الوقت نفسه عن ميل سياسي لتبني مواقف اليسار، مثل تأييد اقامة دولة فلسطينية واستئناف التفاوض مع السلطة الفلسطينية.

وقد وجد أحد الكتاب في صحيفة "هآرتس" تعبيرا مناسبا لهذا الوضع من التعقيد والغموض والتيه، حين قال ان الجمهور الاسرائيلي ميال الى حل محسوب على اليسار، شرط ان يتولى اليمين تنفيذه. واليمين في هذه الاوضاع لا يمكن ان يمثله غير شارون نفسه الذي نجح في التمثيل، ولكنه فشل في التنفيذ. ومثلما ان هذا الجمهور اليميني بأغلبيته الساحقة، سبق ان غفر لبيغن وعده الكاذب بأربعين سنة من الهدوء منذ غزو لبنان عام 1982، فانه غفر لشارون عشرين عاما من الضحايا والتضحيات، في حروب ومعارك ضارية لا يستفيد منها سوى المستوطنين وغلاة النزعة الصهيونية العنصرية الشوفينية، وخصوصا دعاة الترحيل (الترانسفير).

والمتأمل في المشهد السياسي الامني الراهن في اسرائيل، يجد ان لا مجال فيه بتاتا للعقلانية، بل الذي يديره هو حب الانتقام وغريزة الثأر. وفي مقابل الضربات الامنية القاصمة التي تلقاها الاسرائيليون من الداخل والخارج، فانهم لا يجدون بديلا يدعو الى الثقة لارواء غليلهم وطمأنة غرائزهم المتوفرة أكثر من شارون المعروف بتاريخه الدموي الرهيب الذي وعد ووفى بأنه لم يتغير ولن يتغير في هذا المجال. من اجل ذلك لا يسع شارون ان يفوّت أية فرصة تسمح له بتعزيز اوضاعه ورصيده الامني والعسكري إلا وانتهزها، وفي هذا السياق جاءت عمليات اغتيال مسؤول كتائب شهداء الاقصى ومسؤول كتائب عز الدين القسام في جنين بعمليات استخباراتية استعراضية عززت من شعبيته، ووعدت بالمزيد، في وقت يؤدي كل هذا الى تراجع في صورة منافسه "الحمائمي" الجنرال عميرام متسناع، الذي كان قد طالب بيغن بإقالة شارون من وزارة الدفاع اثناء اجتياح لبنان، وما يزال الرجلان يضمران لبعضهما البعض حتى اليوٍم شعورا بالامتعاض والتنافر، في حين يكرر متساع مواقفه الثابتة مثل قوله: "ان البلاد تسير الى الهاوية ولا نبصر اي نور في نهاية النفق"، وقوله: "ان القوة وحدها لا تقودنا الى أي مكان"، واعِداً باستئناف المفاوضات في أسرع وقت مع من يراه الفلسطينيون مناسبا لتمثيلهم "حتى لو كان ياسر عرفات".

ان أرييل شارون الذي كان قد اتهم اليسار وحزب العمل بنوع خاص بإعاقة "احرازه النصر" على حد قوله في لبنان، هو نفسه الذي شارك في الدعوة الى انسحاب من طرف واحد من جنوب لبنان، وهو نفسه ايضا الذي يعاني حاليا من عوارض العجز والخيبة في فلسطين، لكن من دون ان يتمكن هذه المرة من ان يعلق فشله على مشجب أحد.

ان الكثير من الناخبين الاسرائيليين، خصوصا ممن يُعتبرون من فئة "الاصوات العائمة"، مشغولون حاليا في حيرتهم ما بين إلقاء ورقة بيضاء في صناديق الاقتراع وبين انتخاب قائمة اسرائيل اخرى، يبحثون عنها فلا يصدقون انها موجودة لدى حزب العمل المفكك والضعيف والمحكوم بالصراعات الاثنية من رأسه وحتى أخمص قدميه.

صحيفة "هآرتس" لجأت الى الصورة الساخرة والمعبرة عن وضع الجمهور الاسرائيلي المأساوي في هذه الاثناء، عندما شبهت سلوكه بسلوك المرأة التي يضربها زوجها حتى استنزافها، ومع ذلك فهي تصر على العودة الى أحضان الرجل العنيف، شارون، الذي يزداد جبروتا ودموية اثر اية عملية عنف يمارسها او تمارَس عليه.

هذا السلوك الجماعي الغريب يزيد من مرارة وإحباط القوى التي تحلم بالاستقرار والامن على جانبي "الخط الاخضر"، وليس من شأنه سوى ان يزيد من عناد وإصرار المستوطنين الذين هم في أغلبيتهم من المتدينين الحريديم المتعصبين ومن القوميين العلمانيين المعادين لدعاة الليبرالية والتسوية ممن لا يجدون في الأفق من أمل او بديل سوى انتظار ما ستسببه حكومة اليمين الصرفة المقبلة للمجتمع الاسرائيلي برمته من جوع وبطالة ومعاناة نفسية واجتماعية. وعندها فقط، سيدرك أغلب الناخبين الاسرائيليين كنه العلاقة الحقيقية ما بين الاحتلال في نابلس والجنود والضباط القتلى في الخليل والبطالة في بلدة سديروت في الجنوب.

*

العبوة الناسفة التي زرعتها المقاومة الاسلامية في الجنوب اللبناني وأودت بحياة اكبر قائد عسكري اسرائيلي في الشريط المحتل، اريز غرشتاين ومرافقيه، ومراسل الاذاعة الاسرائيلية ايلان روعيه، ساعدت الجنرال ايهود باراك على ان يطلق وعدا صريحا وصارما بالتزام الانسحاب من الشريط المحتل حتى ولو من طرف واحد ومن دون شروط اذا فاز بالانتخابات، وقد فاز باراك ووفى بوعده. فما الذي يسعف شارون وينقذه من مأزق الفوز الذي هو أقسى وأصعب من مأزق الفشل؟! الجواب هو واحد في أمرين: الجمهور الأحمق او نتيجة شبيهة بمصرع غرشتاين.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, هآرتس, الصهيونية, باراك

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات