تركّز الباحثة الجامعية الإسرائيلية تانيا راينهارت (1) في كتابها الموسوم بـ"أكاذيب عن السلام" (2)، بصورة تكاد تكون جوهرية، على وسائل الإعلام الإسرائيلية وأدائها المبتور وعلى أزمة اليسار الإسرائيلي الصهيوني، الذي وقف من خلف "فكرة أوسلو".
وهي تؤكد في مقابلة خاصة أدلت بها لمحرر الكتاب، أمير روتم، أن اعتمادها الرئيس في تأليف فصوله كان على وسائل الإعلام الإسرائيلية في سيرورة أريد لها، على حدّ قولها، "تخليص الحقائق من ربقة المزاعم الأساسية، والفصل بين الحقائق وتلك المزاعم في سبيل تشييد تفسير متجدّد للحقائق".
تتبنى الباحثة الفكرة القائلة إن هيمنة اليمين على المؤسسة السياسية الإسرائيلية، والتي على ما يبدو لن تجد هذه المؤسسة لنفسها فكاكًا منها حتى إشعار آخر، راجعة في العمق إلى تبدّد "البديل اليساري" شذر مذر. ولغرض توكيد الفكرة فهي تستعيد الأجواء التي جرت فيها المنافسة في الانتخابات الإسرائيلية للكنيست السادس عشر (كانون الثاني 2003) بين "الليكود" (يمين) بزعامة أريئيل شارون وبين "العمل" (يسار) بزعامة عمرام ميتسناع.
"رويدًا رويدًا- تكتب- أصبح ميتسناع غير مختلف كثيرًا عن شارون (بالذات بالنسبة للموقف من مستقبل المناطق الفلسطينية). وفي اللحظة التي يكون فيها الخيار الماثل أمام المترددين هو بين يمين واضح وبين نهج مماثل متبّل ببلاغة يسارية (جوفاء) فإن ذلك يسعف في إقناع هؤلاء بأن طريق اليمين هي الطريق الوحيدة عمليًا. أما إذا كتب علينا أن نحارب الفلسطينيين وأن نسعى إلى طردهم أو حبسهم فإن في وسع شارون أن يفعل ذلك أفضل من ميتسناع بكثير".
وتضيف: "من ناحية أخرى فهم شارون الوجهة التي تميل الأكثرية نحوها ووعد بالخروج من المناطق (الفلسطينية). وقد دلت استطلاعات الرأي، عشية الانتخابات، على أن نسبة المؤيدين لشارون، حوالي 60 بالمائة، تؤمن في الوقت ذاته بأنه سيخرج من المناطق ويفكك مستوطنات. معنى ذلك أن شارون ذرّ رمادًا يساريًا في العيون ودارت دعايته الانتخابية حول إنهاء الاحتلال (وإن لم يتم ذلك من خلال هذه التعابير تحديدًا) وإخلاء مستوطنات، بينما في برنامج ميتسناع انزاح جانبًا الخروج من المناطق، وكفّ هو ذاته عن الحديث حول انسحاب فوري مكررًا أنه ينبغي التفاوض. وبدا أن البرنامجين متماثلان. بل إن ميتسناع بدأ بالحديث عن الجدار. ولا شك أن فعل عكس ما يفعله شارون يحتاج إلى شخص آخر، مغاير".
ينطوي كتاب راينهارت، زيادة على ما ذكر، على تعميق لجانب واحد من المشهد السياسي الإسرائيلي الراهن ترى أنه جانب شديد الأهمية وبالغ الدلالة. ذلك هو دور العسكر (الجنرالات) في ترسيم حدود السياسة الإسرائيلية. وهي تشير في هذا الخصوص إلى أن المنظومتين العسكرية والسياسية في إسرائيل كانتا على الدوام منضفرتين ببعضهما البعض. وطبقًا لأقوال "مصدر أميركي في الكونغرس" فإن الذي يقرّ في إسرائيل الإستراتيجيات وسلم الأولويات القومي، باعتبارهما موضوعًا يقف في صلب الإجماع (الوطني)، ليس هيئات تتولاها تعيينات سياسية وإنما أشخاص في البزات العسكرية.. وجميع حكومات إسرائيل السابقة أولت اهتمامًا هائلاً للاقتراحات التي طرحها الجيش حيث أنه يمثل "الحكومة الدائمة"، حسب أقوال المصدر الأميركي نفسه. مع ذلك- تؤكد المؤلفة- فلم يكن للجيش دور مركزي في السياسة الإسرائيلية يضاهي الدور الذي يقوم به منذ فترة إيهود باراك وكما كان دوره في ظل حكومة أريئيل شارون.
وثمة تركيز استثنائي على باراك وعلى جوهر أدائه في فترة توليه رئاسة الحكومة. وهو تركيز أريد له أن يسند الخلاصة التي تتوصل إليها المؤلفة، والذاهبة إلى أن باراك لم يتطلع إلى تحقيق مصالحة مع الفلسطينيين في قمة كامب ديفيد، ولم يحاول تقريب النزاع من نهايته، بحق وحقيق. والتأويل الأكثر معقولية لما أقدم عليه باراك في كامب ديفيد هو أنه "بادر إلى هذه القمة بهدف إفشالها عن طريق العمد، وبذا يثبت أن الفلسطينيين هم الطرف الرافض". وهذا ما يفسّر، بكيفية ما، استمرار تباهيه بكونه "الذي كشف عن الوجه الحقيقي لعرفات". وتحيل المؤلفة قراء الكتاب إلى "سوابق باراك" في ممارسة الخديعة، وأبرزها سابقة المفاوضات مع سوريا التي حصلت قبل القمة في كامب ديفيد.
كما أنها، على صلة بذلك، تحشد سيلاً من البراهين لكي تثبت أن باراك هو الوجه الآخر لشارون وأن هذا الأمر هو تحصيل حاصل تاريخ التعاون الطويل بينهما، من جهة ومحصلة مفهومهما المشترك، من أخرى.
من ذلك أنه عشية الانتخابات الإسرائيلية في كانون الثاني 1999 (تنافس فيها باراك مقابل بنيامين نتنياهو) نشر أمير أورن، معلق الشؤون الأمنية في جريدة "هآرتس"، نصّ وثيقة هامة جرى تسريبها إليه (على ما يبدو من طرف أ. شارون) هي عبارة عن مذكرة شخصية وجهها، في آذار 1982، الجنرال إيهود باراك، رئيس شعبة التخطيط في هيئة أركان الجيش، إلى وزير الدفاع شارون، وذلك في سياق إعداد إسرائيل لغزو لبنان. في هذه المذكرة يحضّ باراك شارون على توسيع نطاق الغزو المرتقب إلى درجة "شن هجوم واسع النطاق على سوريا". وقد تجوهر أورن، في معرض تحليله لتلك المذكرة، في كيفية فهم باراك للديمقراطية.. وطبقًا لما كتبه بالحرف الواحد فإن المذكرة "تكشف عن جانب خطير في شخصية باراك، هو جانب الاستعداد (غير المحدود) للمشاركة في مؤامرة غايتها أن تخدع ليس فقط الأعداء وإنما أيضًا المواطنين والجنود والمنتخبين... وباراك متهم بذلك بسبب تقديره لفهم أريئيل شارون العسكري، فكلاهما استمرار جليّ لأبي سلالة الجنرالات السياسيين موشيه ديان".
أي تفصيل في شخصية باراك يعتبر معينًا لتقييم أدائه كرئيس حكومة. وما تفعله راينهارت، على امتداد صفحات الكتاب كافتها، هو محاولة وصل ما انقطع بين هذا الأداء وبين ما كان عليه في مختلف المناصب التي تدرّج فيها، كعسكري وسياسي.
وثمة تفاصيل عديدة داخل النتيجة النهائية التي تتوصل إليها وأشرنا إليها فيما سبق. ويتعين علينا أن نتوقف، بقدر مناسب من التوسع، عند بعض هذه التفاصيل:
* نقطة التحول الحاسمة في كامب ديفيد تمثلت في مطلب باراك أن يوقع الطرفان على "اتفاق نهائي" يترافق مع إعلان فلسطيني بشأن "نهائية النزاع". وتؤكد راينهارت أنه لو أن الفلسطينيين وقعوا على إعلان كهذا لكانوا سيفقدون حقهم القضائي في أية مزاعم مستقبلية تستند إلى قرارات الأمم المتحدة.
وتضيف موضحة:
الأساس القانوني للمفاوضات كان ولا يزال قرارات الأمم المتحدة، وخصوصًا قرار 242 الذي اتخذ (من قبل مجلس الأمن) في 22 تشرين الثاني 1967 وطالب بـ"انسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من (ال) مناطق (التي) احتلت في النزاع الحالي". ولكن أيضًا قرار 194 من 11 كانون الأول 1948، الذي يتطرق إلى حق العودة للاجئين الفلسطينيين وقرارات أخرى اتخذت على مدار السنوات. وإذا ما أعلن الفلسطينيون عن "نهاية النزاع" ووقعوا على اتفاق نهائي، حسب طلب باراك، عندها يكون الاتفاق الجديد هو، بصورة رسمية، الأساس القضائي الملزم للمستقبل الآتي وتفقد قرارات الأمم المتحدة التي سبقته مفعولها.
* مسألة القدس: "التنازل التاريخي" الكبير الواقف خلف استعداد باراك لما اصطلح على توصيفه بـ"تقسيم القدس" لم يكن أكثر من "استعداد لدراسة الوفاء بتعهد إسرائيلي قديم يتعلق بأبو ديس". وتؤكد راينهارت أن سحب تعهدات سابقة وعرضها كما لو أنها اختراقات جديدة شكل سياسة مثابرة انتهجتها إسرائيل منذ أوسلو.
وفيما يخص الحرم الشريف تلفت أن إسرائيل اتبعت، طوال سنوات الاحتلال منذ 1967، سياسة التقليل من أهمية ما يسمى "جبل الهيكل". وفقط حفنة من المتطرفين طالبت بالسيطرة الإسرائيلية عليه. ومع أن الجماعة المسيانية المعروفة باسم "أمناء جبل الهيكل" خططت لوضع حجر الأساس للهيكل الثالث، إلا أنه في كل مرة حاول أعضاء هذه الجماعة فعل ذلك سدّت عليهم شرطة إسرائيل الطريق أو جرّتهم إلى الخارج. وحتى وقت قريب اعتبر مصطلح "جبل الهيكل" جزءًا من القاموس المسرنم لمتدينين أصوليين متطرفين. بالاستناد إلى ذلك فقد كانت الحكومة العلمانية برئاسة باراك هي الحكومة الأولى التي غيّرت السياسة الإسرائيلية حيال هذا الموقع وجعلت السيادة عليه موضوعًا مركزيًا في مباحثات كامب ديفيد.
* يقرأ الكتاب سياسة الاستيطان الإسرائيلية في مناطق 1967 في سياق النية البعيدة المدى لركل حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
تعتقد المؤلفة، في هذا الشأن، أن هناك مستويين للتعاطي مع حل مشكلة اللاجئين. الأول هو المستوى العملي والثاني المستوى الرمزي. ويتعلق الثاني بـ"الناراتيف" الخاص بموضوع اللاجئين، حيث أن أي زعيم إسرائيلي يتطلع إلى المصالحة على المستوى الرمزي يتعين عليه بداية، من وجهة نظرها، الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن نشوء المشكلة. غير أن السلطة في إسرائيل لم تحظ حتى الآن بزعيم كان معنيًًا حقًا بإنهاء النزاع. والأمر الأكيد أن باراك لم يكن كذلك. وفي سبيل التشديد على هذه المسألة تحديدًا فهي تعلن، منذ مقدمة الكتاب، دون تأتأة أو مواربة، أن الأرض التي أنشئت عليها دولة إسرائيل تم الحصول عليها بواسطة تطهيرها العرقي من سكانها الأصليين- الفلسطينيين. وتتابع: لو أن إسرائيل توقفت عما اقترفته (من تطهير عرقي) في العام 1948 لكان الافتراض المعقول "أنني أستطيع العيش مع ذلك"، غير أن الأمر استمر وبلغ الذروة في 1967. وفي 1993 بدا أن الاحتلال من 1967 يقترب من نهايته. وآمن كثيرون بأن اتفاقات أوسلو، التي جرى التوقيع عليها في واشنطن في 13 أيلول من تلك السنة، ستؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة وإقامة دولة فلسطينية. لكن الأمور لم تسر على هذا المنوال. ويتبين الآن أن القيادة السياسية لمعسكر السلام الإسرائيلي حولت روح أوسلو التصالحية إلى وسيلة جديدة أكثر إحكامًا لمواصلة الاحتلال. يضاف إلى ذلك أن قيادة إسرائيل العسكرية تعتبر الحرب الحالية ضد الفلسطينيين "النصف الثاني المكمّل لحرب 1948". وقد استعمل المستوى العسكري الإسرائيلي هذا التوصيف فورًا بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، منذ تشرين الأول 2000. ولا شك الآن أن قصدهم من هذه المقايسة هو أن مهمة التطهير العرقي نفذت في 1948 بنصفها الأول فقط. ولا يمكن تفسير سياسة إسرائيل المنهجية في إصابة الفلسطينيين كدفاع عن النفس أو كرد فعل تلقائي على الإرهاب. إن ذلك هو ممارسة من التطهير العرقي- عملية يجري فيها طرد مجموعة إثنية من مناطق تتطلع مجموعة إثنية أخرى إلى السيطرة عليها. وفي مكان يحظى باهتمام عالمي كبير مثل إسرائيل/ فلسطين يستحيل اقتراف تطهير عرقي عبر عملية مفاجئة من الذبح المكثف وإخلاء الأراضي. ولذا تجري عملية مثابرة هدفها إجبار الناس، رويدًا رويدًا، على الموت أو الهرب لكي ينجو بجلودهم.
* تكرّر راينهارت ما أصبح معروفًا عن "مبادرة" إسرائيل، في كل مرة يسود فيها هدوء أو هدنة، إلى عملية عسكرية بسوء نية. وهي تؤكد أن الفلسطينيين لم يمنحوا البتة أية فرصة لتحويل نضالهم إلى مقاومة مدنية، وهو ما كانوا راغبين به مرات كثيرة. كما تؤكد أن خطط القضاء على السلطة الوطنية وعلى المجتمع الفلسطيني أعدت قبل انتفاضة أيلول 2000.
* كما سلفت الإشارة توجه راينهارت نقدها الشديد إلى "اليسار الصهيوني" المتمسك بالاحتلال. وإذ تؤكد أن القيادة السياسية لمعسكر السلام الإسرائيلي صاحبة تجربة ومراس طويلين في تسيير وجهة معظم المعارضين للاحتلال نحو طريق الحفاظ على الوضع القائم، فإنها تلفت إلى أن هؤلاء الأشخاص هم نفسهم الذين كرزوا في أثناء سنوات أوسلو إلى أن الاحتلال انتهى عمليًا وإن ما تبقى هو بضع سنوات من المفاوضات فقط. وهم خبراء في إقناع كل من هو مستعد للإنصات لهم بأن الملك ليس عاريًا وأن المشكلة كامنة فقط في عيوننا. وإذا لم تقف الأكثرية في إسرائيل بالمرصاد لهم فالاحتمال الأقوى هو أن ينجح هؤلاء الخبراء في مهمتهم مرة أخرى. مع ذلك فإنه للمرة الأولى منذ أوسلو نشأت حركة سلام إسرائيلية آخذة في التوسع وهي عصية على طوع القادة السياسيين لمعسكر السلام. والنواة الصلبة لهذه الحركة مؤلفة من مجموعات احتجاج محلية عديدة أصبحت فاعلة منذ بدء الانتفاضة. وتذكر الباحثة منها حركات "يوجد حد" و"شجاعة الرفض" و"نيو بروفايل" و"ائتلاف النساء من أجل سلام عادل" و"تعايش" و"كتلة السلام" و"الغسيل الأسود". والمبدأ الأساسي الهادي لهذه المجموعات هو أن الكفاح من أجل السلام وضد الاحتلال هو كفاح إسرائيلي- فلسطيني مشترك.
يمكن إدراج كتاب تانيا راينهارت في عداد المنجز البحثي النقدي للسياسة الإسرائيلية حيال النزاع مع الفلسطينيين في سنواته الأخيرة. وفضلاً عن تقديمه مواد معرفية ذات أهمية فائقة، فإنه يعيد الاعتبار لـ"الحقيقة الجافة"، التي تتواصل المحاولات لتغييبها وتسميمها في المناخات السياسية الإسرائيلية الرائجة.
_____________________________
(1) توفيت البروفيسور تانيا رينهارت مؤخرًا في نيويورك على أثر أزمة قلبية مفاجئة عن عمر يناهز الـ63 عامًا.
(2) تانيا رينهارت: "أكاذيب عن السلام- حرب باراك وشارون ضد الفلسطينيين". إصدار: منشورات "سفري تل أبيب"- تل أبيب، 2005. الترجمة عن الانجليزية: غاليا وورغن.