تعريف:
يصدر قريبًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار" كتاب المؤرخ الإسرائيلي موطي غولاني "الحروب لا تندلع من تلقاء ذاتها" بترجمة عربية أعدّها نبيل خليل أرملي. ولا يعتبر هذا الكتاب دراسة تاريخية بل رحلة شخصية إلى ما يسميه المؤلف "مسار القوة الإسرائيلية". وفي انتظار صدور الكتاب ننشر هنا مقدمة المؤلف التي ظهرت في الأصل تحت العنوان "دليل القراءة".
هذا الكتاب هو رحلة في محطات خمس، هي محطة واحدة. رحلة فرد في مسار متغير. يمكن الانضمام إليها، بوتيرة شخصية، بحركة من محطة إلى محطة. يمكن البدء من المحطة الثالثة أو الثانية والإنهاء بالأولى. يمكن البدء من النهاية والانتهاء في البداية. يمكن اختيار محطة واحدة والبقاء فيها. كل مسار جيد، إذا تم اختياره.
إنها رحلة واحدة محتملة في طريق القوة الإسرائيلية.
كتب المؤرخ يعكوف طلمون بأن "الحقيقة التاريخية مركبة ومتعددة الوجوه. مشبعة بالازدواجية ومليئة بالتناقضات والتضاربات، بالصراعات والمواجهات. الحقيقة هي كل شيء، أي مسألة تصنيف، تدريج وتضارب مصالح، الطموح والعقلية لكل الأطراف في الصراع التاريخي". حتى المؤرخ، على طريقته، هو جزء من ذلك التفاوض اللانهائي في الطريق لبلورة "الحقيقة التاريخية". قد لا تنتهي هذه الرحلة أبدا، لكن كينونتها آسرة.
ساعتي الذاتية هي التي أمرتني بالتوقف والتأمل، التوقف للحظة عن عملي البحثي المعتاد، أن أرفع رأسي عن الأوراق، أن أُبلّغ الأرشيف بأني لن أصل اليوم، سأعود غدا. ذهبت إلى حديقة البيت، إلى غرفة عملي، إلى الحديث مع الأصدقاء، إلى حوادثي العائلية وإلى شتى أنواع المقاهي، هنا وهناك، وصَدَر ما صدر.
قال لي مرة زميل لبيب إنه لنا فقط، نحن المؤرخين، ممنوع إبداء رأينا في القضايا التي نعمل بها، لكي لا نخطئ ظاهريا بتوجه غير مهني. هاكم خطيئتي، أفكاري حول ما يقع على خلفية مواد بحثي وما وراءها.
يبحث هذا الكتاب في اختيار القوة، نموّها وكينونتها- عندي وعند الجميع، هنا في إسرائيل، في مجتمع المهاجرين الذي يحاول منذ أواخر القرن التاسع عشر أن يتحول إلى مجتمع "أصلاني" لا خلاف على وجوده هنا. لقد احتاج هذا الجهد وما زال يحتاج، حرفيا، إلى مقدار كبير من القوة. يمتد الصراط في رحلتي إلى القوة وإلى اختيارها من الشخصي عندي إلى التاريخي عندنا. وجدت أنه هكذا يصح عرض الأمور. هذا هو اختياري.
لسنا وحدنا في تعاملنا مع اختيار القوة هذا ومع نتائجها. هذا الكتاب سيكون مكتملا أكثر لو كُتبت إلى جانبه قصة مشابهة عن الكينونة العربية الفلسطينية، التي لها أيضا لقاء معروف مع القوة وثمنها. على الرغم من اختلاف الخلفية والأحداث، إلا أن الطرف العربي اختار القوة، كأحسن طريق لحل الصراع مع الصهيونية. هذا الاختيار يُلقي بالمسؤولية عن الصراع المتواصل في فلسطين وفي الشرق الأوسط على كل الأطراف المشاركة فيه: على العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وعلينا نحن الإسرائيليين- اليهود- الصهيونيين. في نهاية المطاف، ترد الأطراف على مفاهيمها وعلى مخاوفها هي أكثر مما ترد على فعل أو عدم فعل الطرف الثاني. "مساهمة" العرب والفلسطينيين لسلطان القوة في روح الشعب الإسرائيلي، لا تعفينا من واجب مراجعة مساهمتنا نحن بهذه الروح. الإنسان قريب من نفسه. أكتب عني وعنا وأبحث عن زميل عربي ليكتب عنه وعنهم.
هذه الرحلة شخصية. لذلك فهي لا تتوقف عند محطات النزاع المتواصل بيننا وبين العرب. عندها محطات أخرى، لا تقل أهمية في حساب القوة. لا أستطيع أن لا أذهب إلى المكان الذي جئت منه، ما سُمي مرة بـ"الاستيطان العامل". حسابي مع كينونة الكيبوتس العنيفة هو حساب عسير وموجع مثل أي حساب للإنسان مع آبائه، بيئته التي تربى فيها وفي النهاية مع ذاته أيضا. هذا الحساب عسير أكثر لأن الحديث يدور هنا عن كينونة محتضرة. "الاستيطان العامل" هو مشروع كان في بدايته مشروعًا ذا نوايا حسنة. تركت له شيخوخته، بشكل عام، الشر الذي كان فيه منذ شبابه وقليلا من الخير فقط. يبدو لي أن الفشل الكبير لهذه الكينونة يكمن في تعاملها العنيف مع من لم يُناسب خطوطها الإيديولوجية. وبما أن المثالي غير قائم أصلا، عانى معظم أبناء "الاستيطان العامل" الكيبوتسي بالأخص، من ضربة الفرق الشاسع بين ما أراد آباؤهم أن يكون وبين ما هي النتيجة في الواقع. كبر الكثير منا وهم يطمحون إلى حياة متوازنة، في الوقت نفسه الذي وعظ فيه المجتمع الذي تربينا داخله للحرب بهذه الطبيعية. نعم، الحرب، ليس أقل.
سوية معي، بدون أي تنسيق مشترك، بدون حديث موجه، تعمل وتكتب مجموعة صغيرة تدير معركة الآباء ذوي الإنجازات الكثيرة والذنوب الكثيرة أيضا. شخصيات أحببتَها وما زلتَ تُحبها. محاربتهم هي مهمتك، لأنك لا تريد غير ذلك، لأنك لا تستطيع غير ذلك. تطوف حول هذه المجموعة الصغيرة والمتألمة دوائر لمشاركين ظاهريا في انتقاد الماضي. ظاهريا فقط، لأنه ينقصهم الشوق إلى أولئك ذوي الحساب المكشوف، الثاقب والقاسي. هؤلاء الذين يحملون معهم الشماتة. أولئك هم الراقصون على خراب الحركة الكيبوتسية، فرحة غريبة تعم جماعات مختلفة في المجتمع الإسرائيلي. لكن كذلك هم رامو الوحل على العاملين في الأمن في إسرائيل، أو على الذين يقدسونهم، وأيضا على إسرائيل نفسها وعلى الصهيونية. بدل الشماتة أقترحُ حساب النفس الثاقب. لا يحتاج إلى هذا الحساب أبناء الكينونة الكيبوتسية فقط. أضر الصراع المتواصل مع العرب، بشكل طبيعي، بأقسام أخرى في المجتمع الإسرائيلي بأجياله المختلفة.
توقفت في هذه الرحلة لبرهة في إحدى المحطات التي هي أيضا محطتي. محطة أبناء من وصلوا إلى كينونة الكيبوتس من "هناك"، بعد الكارثة في أوروبا، وامتصوا أذى المجتمع المُقاتل. مقاتل بمعنى الكلمة: بذاته، بهم، بالعدو العربي. الحرب هي الحرب هي الحرب، وهي واحدة بغض النظر عن العدو. المناخ الجبروتي هو ثمن استعمال القوة طيلة سنوات عديدة.
"القوة" وأخوها "الجبروت" لا يؤذيان الحياة الرسمية فقط، ولا يؤذيان العلاقات بين الإنسان ورفيقه فقط. تأثيرهما في النفس عميق جدا، إذ يمنعانها من مراجعة طريقها، تلك التي تستطيع أن تؤدي إلى الحصرية في الحساب مع الآخر، إلى السهولة المعروفة للـ"أبيض- أسود"، "جيد-سيء"، إلى الكراهية. النسبية المنطقية ضرورية في رأيي كي نتمكن من العيش على هذه الأرض. إلا أنها تستصعب العيش في حيز واحد مع من يحصر حياته في حقيقة واحدة مُطلقة. التخبط الأخلاقي المبني على الاختيار أحسن من الأحادية الضيقة الآخذة بالتفاقم والتعزز في إسرائيل بأقنعة مختلفة من اليمين واليسار.
تسير هذه الرحلة من الشخصي إلى العام. يتمحور الجزء الأول من الكتاب في كتابات شخصية. يلتقي الجزء الثاني مع الشخصية "التسابارية" (*) المبدئية، الأسطورية. أعانق، أركل، أعانق... الجزء الثالث هو في جوهره نص عن الطريق إلى واقع القوة الإسرائيلية حتى عشية إقامة الدولة. يعالج الجزء الرابع مظاهر القوة في 1948، استعمالها سنة 1956، نجاحها الباهر سنة 1967، واستنفادها المؤلم سنة 1973، والقليل عن عملية تطورها بين تلك التواريخ المعروفة. يحلل الجزء الخامس قضية الاحتفاظ بـ"ثقافة القوة"، هنا، حتى الآن، في يومنا هذا. من رحلات الشبيبة إلى بولندا إلى ردود المستوطنين في الجليل على أحداث تشرين الأول 2000.
يصعب جدا أن لا نضع بعض الأنواع من المعدات في جعبة السفر قبل الانطلاق في الرحلة. وهي معدات معروفة وثقيلة مثل: ما بعد- الصهيونية، الضد- صهيونية، الصهيونية الجدلية، الحائرة، السلبية، وألقاب أخرى مثل "مُلوّثي إسرائيل" وغيرها. أدعو القارئ الذي يريد الانضمام إلى هذه الرحلة إلى تجاهل هذه التعريفات.
تعود الخاتمة إلى الشخصي. يرى هذا الكتاب النور في زمن عصيب. الضباب كثيف. لا نرى الكثير. القليل الذي يمكن رؤيته لا يبشر كثيرا. يسهل عليّ أن أُسقط من هذا الكتاب على ما يحدث الآن. من المغري هذه الأيام مشاهدة الإثبات القاطع للعلاقة السهلة والمريحة التي للجمهور الإسرائيلي مع الإنجازات التي يقف وراءها منطق واحد بسيط وواضح: "طريق القوة". مغرٍ لكن غير مسؤول. إذ إنه من الضروري رؤية الأشياء من منظور تاريخي صحيح في كل الاتجاهات. ربما نكون قد غرقنا مجددا في الجبروت القديم والشرير. ربما لا.
في الكلام الآتي نجد بعض البحث، بعض الفكر وبعض الرواية. في الغالب أدخلت الملاحظات في حالات الاقتباس المباشر، ولأنه يصعب التخلي عن العادة. للراغبين في التوسع، أرفقت قائمة مراجع مختارة تتعلق بالقضايا التي يعالجها الكتاب.
_______________________________
(*) التسابار (الصابرا)- هو لقب يُطلق على اليهودي الصهيوني الذي وُلد في فترة الييشوف (ثم في إسرائيل ) أو وصل إليه وهو ما زال طفلا وتربى على مبادئ الصهيونية والاستيطان.