المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 1369

الكتاب: "عرب جيدون- المخابرات الإسرائيلية والعرب في إسرائيل: عملاء ومشغلوهم، متعاونون ومتمردون، أهداف وأساليب"
المؤلف: د. هيلل كوهين
الناشر: منشورات "عيفريت" و"كيتر"- تل أبيب، 2006، 308 صفحات.
في العام 1948 تحول العرب الفلسطينيون، الذي بقوا في المناطق التي قامت فيها دولة إسرائيل على أنقاض وطنهم، من سكان أصلانيين إلى مواطنين من درجة دنيا وإلى "طابور خامس" في نظر السلطات الإسرائيلية. وأصبح التعامل مع العرب، الذين تحولوا إلى أقلية، من خلال أجهزة المخابرات على أشكالها، من الشين بيت وقسم الأقليات في الشرطة وحتى الدوائر العربية في الأحزاب العربية. وكانت السلطات الإسرائيلية تتطلع إلى تحقيق أكبر قدر من تعاون العرب معها، حتى أكثر من تعاون اليهود مع مؤسسات الدولة.

وطالما أن تعامل المؤسسة الإسرائيلية مع العرب على هذا النحو، فإنه ليس صدفة أن يختار الباحث الإسرائيلي هيلل كوهين أن يسرد تاريخ الأقلية العربية في إسرائيل من خلال وثائق أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة. ويوضح كوهين، في كتابه "عرب جيدون - المخابرات الإسرائيلية والعرب في إسرائيل: عملاء ومشغلوهم، متعاونون ومتمردون، أهداف وأساليب"، التأثير البالغ لأجهزة المخابرات الإسرائيلية على كافة نواحي الحياة للمواطنين العرب في فترة الحكم العسكري الذي فرض عليهم منذ العام 1948 وحتى العام 1967.

ويقول كوهين في بداية كتابه إنه فور قيام دولة إسرائيل بدأت الجهات الأمنية الإسرائيلية بإنشاء شبكات تجسس ومتعاونين بين العرب لتحقيق هدفين: الهدف الأول منع مشاركة مواطني إسرائيل العرب وانضمامهم للنشاطات المخابراتية والعسكرية التي تنفذها دول عربية. والهدف الثاني هو سيطرة أجهزة الأمن الإسرائيلية على الأجهزة السياسية والاجتماعية للعرب في إسرائيل. وتم تكليف الجواسيس العرب بمهام محلية وخارجية، بينها مراقبة تنظيمات سرية مسلحة والإبلاغ عن المواطنين الذين يقيمون علاقات مع أجهزة مخابرات عربية وتزويد أجهزة الأمن الإسرائيلية بمعلومات عن متسللين من الدول العربية إلى إسرائيل، وجمع معلومات حول الميول السياسية لدى سكان القرى والمدن العربية وحتى جمع معلومات عامة حول الحياة السياسية والاجتماعية في التجمعات التي يسكنها هؤلاء الجواسيس والعلاقات بين السكان وعلاقات العائلات. وأضاف كوهين أنه تم تكليف جواسيس عرب من إسرائيل بتجنيد متعاونين من مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة وبتنفيذ عمليات اغتيال واعتداءات خارج حدود إسرائيل. ويكشف كوهين عن أن ضباط مخابرات إسرائيليين قتلوا جواسيس عرب لدى عودتهم من مهامهم خارج إسرائيل.

ويتوجب الإشارة هنا إلى أن كوهين في كتابه الجديد، كما في كتابيه السابقين "جيش الظلال - متعاونون عرب في خدمة الصهيونية" و"الغائبون الحاضرون"، اعتمد اعتمادا كليا على وثائق ومدونات خصوصا في أرشيفات أجهزة الأمن الإسرائيلية التي تعاملت مع العرب. ووجد الكاتب في هذه الأرشيفات، كما يتبين من الكتاب وهوامشه، كميات كبيرة من الوثائق والمذكرات التي تلقي الضوء على كافة أشكال تعامل السلطات الإسرائيلية مع العرب في شتى نواحي حياتهم.

وفي الناحية السياسية وجد كوهين وثائق تشير إلى وجود تيارين أساسيين هما التيار السياسي العربي المتعاون مع السلطة وخصوصا مع حزب مباي الذي كان الحزب الحاكم طوال الفترة التي يتحدث عنها الكتاب، والتيار الثاني هو التيار الوطني الرسمي الذي عمل بين الأقلية العربية وهو الحزب الشيوعي الإسرائيلي، على الرغم من أن هذا كان حزبا عربيا - يهوديا. وعمدت السلطات الإسرائيلية، من خلال أجهزة مخابراتها، إلى تعزيز قوة قادة التيار المتعاون معها مستخدمة عدة أساليب، بدءا من الاستجابة لطلبات يقدمها المتعاونون من أجل إصدار تصاريح تنقّل بين القرى والمدن العربية لمؤيديهم، خصوصا بهدف العمل، وحتى استجابة السلطات لطلبات عودة نازحين إلى البلاد بعدما كانوا قد نزحوا أثناء الحرب إلى الدول المجاورة. كذلك كانت الزيارات التي يقوم بها الحكام العسكريون أو ضباط الشرطة والمخابرات لبيوت المتعاونين معهم في القرى والمدن العربية على مرأى من السكان تعزز من مكانة المتعاون، الذي غالبا ما يكون قد تم تعيينه مختارا لقرية او لحي كبير وحتى رئيس بلدية. وتتعزز هذه المكانة خصوصا بسبب الأوضاع الاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة، حيث كان يتم منع العرب من التنقل إلا بموجب تصاريح يصدرها مكتب الحاكم العسكري، مثلما يتم ترتيب وتنظيم كل شيء يتعلق بنواحي الحياة المختلفة من خلال السلطات، بما في ذلك التوظيف، وهنا كانت تمنح السلطات المتعاونين معها قوة ونفوذا لتنعكس في الانتخابات بقوة سياسية على شكل التصويت للحزب العربي الذي يدور في فلك حزب مباي ليتحول بعض المتعاونين من قادة محليين إلى قادة سياسيين لكل العرب، أو لطوائف، في البلاد. وبحسب كوهين فإن بعض هؤلاء قاموا بإقناع آلاف من العرب بالنزوح من البلاد إلى الدول المجاورة أو باعوا مساحات واسعة من الأراضي بملكية عربية إلى مؤسسات الدولة اليهودية وخصوصا "كيرن كييمت ليسرائيل" (أو الصندوق الدائم لإسرائيل).

ويشير كوهين إلى أن سيطرة السلطات الإسرائيلية على التمثيل السياسي للمتعاونين معها كان يهدف إلى إعادة "بلورة الوعي والهوية للعرب في إسرائيل". وهذا كان الدور المركزي الذي على المتعاونين أن يؤدوه. وفي المقابل كانت جهات قومية عربية صغيرة نشطت من أجل الحفاظ على الهوية العربية الفلسطينية والحفاظ على مقاومة الدولة العبرية. واعتبرت السلطات الإسرائيلية حفاظ العرب على الهوية العربية الفلسطينية خطرا ولذلك حاولت اقتلاع هذه الهوية وإنشاء هوية أخرى مكانها هي "عربي إسرائيلي". وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحزب الشيوعي الإسرائيلي كان موقفه في الوسط من هذه المسألة كونه يعرف نفسه على أنه حزب يهودي - عربي. رغم ذلك فقد كان الحزب الشيوعي رأس الحربة في مواجهة السلطات الإسرائيلية من أجل تحصيل الحقوق للعرب في إسرائيل ومنع مصادرة أراضيهم وخصوصا في إحياء الثقافة العربية بين العرب. ومن جانبهم، اعتبر المسؤولون عن الدوائر العربية في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن هوية "عربي إسرائيلي" ستمكن العرب في إسرائيل من تقبل الدولة اليهودية وحتى أنه يمكن أن يقبلوا بصمت مكانتهم كأقلية. وكان يأمل هؤلاء المسؤولون بأن الجيل الجديد من العرب في إسرائيل الذي ولد بعد النكبة الفلسطينية، لن يرتبط بماضي أبائه وتراثهم الفلسطيني.

وفي مواجهة السلطات الإسرائيلية وممارساتها القمعية ضد الأقلية العربية في إسرائيل والمتعاونين مع السلطة برز نشطاء الحزب الشيوعي الذين كانوا الوحيدين تقريبا الذين خاضوا نضالا جماهيريا من أجل الأقلية العربية في إسرائيل ومكانتها. وتناول كوهين بإسهاب نشاط الشيوعيين في السنوات الأولى بعد قيام الدولة ومقاومتهم للمتعاونين مع السلطة وأحزابهم - "أذناب السلطة" - ومقاومة سياسة سلب الأراضي، كما أن الشيوعيين كانوا الوحيدين الذين طالبوا بإلغاء الحكم العسكري المفروض على العرب وطالبوا بالمساواة بين المواطنين العرب واليهود. وأشار كوهين إلى أن السلطات الإسرائيلية سمحت لشخصيات بالعودة إلى البلاد بعد قيام إسرائيل، رغم أن هذه الشخصيات كانت في صفوف القيادة الفلسطينية قبل النكبة وممن كانت تربطهم علاقات وطيدة مع الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني وحتى أن بعضهم كانوا يمثلون اللاجئين الفلسطينيين في مفاوضات مع إسرائيل بعد النكبة، بهدف تشكيل أحزاب وقوى سياسية تقف في مواجهة الشيوعيين. وقد أمر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دافيد بن غوريون الضباط والمسؤولين في الحكم العسكري بـ"منع سيطرة الشيوعيين على العرب" في إسرائيل.

وأشار كوهين إلى موقف السلطات الإسرائيلية وعلاقاتها المركبة مع الشيوعيين. فإلى جانب كون الشيوعيين رأس الحربة في مقاومة سياسة السلطات ضد العرب كان الحزب الشيوعي قد أيد قرار التقسيم الأمر الذي وضع الشيوعيين العرب في مكانة الموافقة على وجود دولة يهودية في المنطقة ومعارضة دخول الجيوش العربية إلى المنطقة التي أقيمت فيها إسرائيل وهذا ما وضع الشيوعيين في مكانة خاصة بنظر الجمهور اليهودي. إضافة إلى ذلك فإن الشيوعيين اليهود ساعدوا منظمة "الهاغناه" على إنهاء صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا والتي اعتبرت في حينه صفقة مصيرية كرست تفوق القوات اليهودية ومكنتها في ربيع العام 1948 من الانتقال من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم

وتناول كوهين مكانة العرب الدروز في إسرائيل. ويشير في البداية إلى أن الدروز رفضوا التجند إلى الجيش الإسرائيلي. وقال إن مواجهات وقعت بين الشبان الدروز في قرى الجليل وموظفي الحاكم العسكري الإسرائيلي الذي حضروا إلى هذه القرى لتوزيع أوامر تجنيد على هؤلاء الشبان. كذلك داهمت قوات الشرطة قرية دالية الكرمل لتوزيع أوامر التجنيد على الشبان الدروز الرافضين للخدمة العسكرية. وفي المقابل لفت كوهين إلى العلاقة الوطيدة بين السلطات الإسرائيلية وعدد من "وجهاء الطائفة". وعلى ضوء هذه العلاقة، مثلا، تم جمع الأسلحة الموجودة في حوزة الدروز من خلال لجنة تنسيق وبتفاهم متبادل على أن يبقى في أيدي الدروز كميات من السلاح أكبر من كمية السلاح التي تم إبقاؤها في أيدي الطوائف الأخرى. وأضاف كوهين أن توزيع السلاح لم ينبع من احتياجات أمنية فقط. فقد كانت في أساس ذلك نية أعمق تمت صياغتها من جانب لجنة التنسيق الأمنية الإسرائيلية كالتالي: "توزيع السلاح على أبناء طائفة معينة فقط من شأنه أن يعود علينا بالفائدة، وسينشئ التوتر المطلوب بين الأجزاء المختلفة من السكان وسيمكننا من السيطرة على الوضع". وعلّق كوهين على ذلك بأنه "ما كان يبدو أنه نظرية المؤامرة تبين أنه في الواقع قرار لجنة رسمية".

يتوقف الكتاب عند العام 1967، رغم أن حرب حزيران في العام ذاته واحتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة كان له التأثير الكبير في مجرى الأحداث وتأثيرها على المواطنين العرب في إسرائيل. فاحتلال الضفة والقطاع أدى إلى عودة التواصل بين الفلسطينيين على جانبي ما يسمى بـ"الخط الأخضر" وإلى انفتاح العرب في إسرائيل على العالم العربي بنواح عديدة لعل أهمها الثقافية والسياسية والفكرية، بعد انقطاع 19 عاما. ومن مؤشرات التغيير الذي مرّ به العرب في إسرائيل كان بارزا غياب الأحزاب العربية التي تدور في فلك السلطة بشكل مباشر بعد مرور سنوات قليلة على الاحتلال وظهور أحزاب عربية وطنية. غير أن الأهم كان فشل إسرائيل في إنشاء هوية "العربي الإسرائيلي"، بل إنه يمكن القول إن العرب في إسرائيل أصبحوا أكثر تمسكا بفلسطينيتهم وبعروبتهم الآن، مع إدراك مكانتهم كمواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية. ولعل أحداث تشرين الأول من العام 2000، التي تزامنت مع انتفاضة الأقصى، ومقتل 13 مواطنا عربيا برصاص الشرطة الإسرائيلية يدل بوضوح على شكل العلاقة بين المواطنين العرب ودولة إسرائيل، فهؤلاء عبروا عن فلسطينيتهم والدولة عبرت عن عدائها لهم.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات