المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بعد صدور الحكم بتسعة مؤبدات وثلاثين سنة على إبراهيم وياسين بكري، برزت مرة اخرى قضية العلاقة المشحونة بين الفلسطينيين مواطني إسرائيل، وبين الدولة التي تقتل وتحتل أبناء شعبهم وتميّز ضدهم. مرة أخرى يُوضع المواطنون العرب على المحك، والقضايا الجديدة التي تتهمهم بالضلوع فيما تسميه إسرائيل بـ "الارهاب"، تقودهم مرة إخرى إلى الزاوية البعيدة، في ظل هذا "الإجماع الصهيوني" على الاحتفاظ بهم دائماً هناك، في "قفص الاتهام"...

فراس خطيب

في الأسبوع الماضي، صدر الحكم بحق إبراهيم وياسين بكري، بعد اعترافيهما بالضلوع بالعملية التفجيرية التي وقعت في الحافلة رقم (361)، يوم الرابع من آب السنة الماضية (2002)، على مفترق "ميرون" المؤدي الى مدينة صفد، والذي راح ضحيته تسعة أشخاص، وجرح ما لا يقل عن (51) شخصًا.

قبل صدور الحكم بدقائق معدودة قال حسن بكري (والد ياسين) كلمة أخيرة الى القاضي في المحكمة: "ابناء العائلات قُتلوا مرة واحدة في الانفجار، لكنني اقتل كل يوم". وأضاف: "قمت بتربية اولادي أحسن تربية ولديَّ الكثير من الاصدقاء اليهود". جاء هذا الحديث طلبًا لرحمة القاضي قبل صدور الحكم. كما تحدث يسرائيل رويفمان، صديق عائلة بكري للقاضي: "انني اعرف ما هي التربية التي رباها حسن بكري لأبنائه، لأن اولادي وأولاده كبروا سويا". لكن القاضي لم يحرك ساكنًا بالمرة، وأجابهما: "مَن يمد يد العون للقتل وللألم والمعاناة والدمار، ومَن يفضل الموت على الحياة للآخرين، لا يستحق نيل رحمة المحكمة". وحكَم على الاثنين بتسعة مؤبدات اضافة الى ثلاثين عاما لكل واحد منهما، جاعلاً من قراره سابقة في الحكم الأمني الاول من نوعه من حيث طول المدة بحق مواطنين عرب في اسرائيل. بعد النطق بالحكم تصاعدت صرخات الانكسار من عائلة بكري، ومن جهة اخرى تنفس ذوو الضحايا الصعداء.

يوسيفا جولدشتياين، التي فقدت ابنتها خلال الانفجار، أكدت على أن هذه المرة الاولى منذ ثمانية أشهر تشعر بأنها تتنفس بشكل طبيعي، وأضافت: "هذا الحكم عبارة عن بداية، وأنا أنوي مع العائلات الثكلى تقديم شكاوى مدنية ضد كل من كان له ضلع في هذه العملية".

لا تبدو الحالة الان في بيت حسن بكري والد ياسين بأحسن صُوَرها، بل على العكس تمامًا. لا يختلف هذا البيت كثيرًا عن بيت العزاء بقهوته "السّاده" واستقبال اهالي القرية لتخفيف الألم عن أصحابه، بعد مصابهم الأكبر. فعلى الرغم من التوقعات بقساوة الحكم الا ان صدوره خلق توترًا لا يوصف، وبات يعرقل مسار العائلة بشكل صعب وقاس.

لا ينفي حسن بكري أنه يشعر بفقدان وألم كبيرين، لكنه يضع المسؤولية الكبرى على الحكومة الأسرائيلية، "التي تدق الاسافين في مسيرة السلام" كما يقول. وفي حديث الى "المشهد الاسرائيلي" قال إن العملية التي جرت هي قضاء وقدر، "وأنا متأثر جدًا على الابرياء الذين قتلوا من دون ذنب، لكن ابني أيضًا ضحية الارهاب والتطرف، فهو شاب في مقتبل العمر وليس مثلي، انا أب في جيل متقدم، ومن الصعب عليه ان يزين الامور ويتحمل أعباء الدولة كما تحملتها أنا، فعلى الرغم مما جرى انا لست مستعدًا الآن لتذنيبه، لأنه ليس المسؤول الحقيقي عن هذه العملية، وهو يبقى ابني ويكفيه ما أصابه. انا إنسان يحيا الواقع وهذه الحكومة تزرع الكراهية في الشباب حتى توصلهم الى طريق مسدود.

"قالوا لي في برنامج اخباري اسرائيلي إن إبني قاتل، لكنني لم أسكت ابدًا على ماقالوه عنه، وصرخت في وجهه وقلت له إن ابني ليس قاتلا.. ليس قاتلا، الحكومة هي التي قتلته وقبرته. اشعر بتحطم وتذمر لكنني دائما اتروى، لم أعرف ماذا جرى لابني إطلاقاً، وايماني بالله اكبر من وطنيتي، واتمنى من الله ان يحفظه، فهو الذي خلقه وهو الذي يدبره في الحياة".

روحية بكري، والدة ياسين، قالت ودموعها تنهمر من عينيها: "بغياب هذا الصبي اشعر ان البيت قد انهار. لقد كان ياسين يبعث الروح والدفء بيننا. لا ادري ماذا جرى وكيف اقدم على هذه الفعلة. انا متأكدة من أن طيش الشباب جرَّه الى هناك، فهو شاب يعشق الحياة بكل ما تحمِل، إسأل من أردت من أهالي القرية وسيحدثونك عن ياسين ومن هو. كان دائماً يجمع إخوته الصغار ويمضي الى البحر والى الصيد وكثيرًا ما قال لي إنه لا يود أن يعيش أخوته الصغار الحياة كما عاشها هو. حتى قبل هذه الحادثة بيوم واحد أخد اخوته وذهب الى رأس الناقورة، وفي اليوم التالي، قبل العملية بساعة واحدة، لم يستيقظ الا بعد عشر مكالمات لهاتفه الخليوي.. أنا متأكدة من أنه تردد، كان مترددًا.

"ياسين لم يعرف عن العملية الا قبل وقوعها بيوم واحد، ونحن تفاجأنا جداً من الشخص الذي قام بهذه العملية، هذا الشخص معروف في القرية، إنسان خجول جدًا. وسكن هنا عند عائلة ابراهيم بكري سبع سنوات، لم يتبين خلالها اي سوء ولا نوايا بأنه يود القيام بمثل هذا العمل. انا متأكدة من أنه لم يفكر بالعواقب ابدًا، ولم يعرف ما تخبئ له الاقدار، وأنا اعلم بأن ياسين اراد اثبات رجولته بعد ان طلبوا مساعدته".

- ألم يحدثك عن أمور ضايقته في الفترة الاخيرة قبل وقوع العملية؟

"أنا وياسين تربطنا علاقة حميمة، نحن لسنا مجرد ام وابنها. كان ياسين عبارة عن صديقى الوفي اشكو له همومي، ويشكو لي همومه. لم يكن هناك ما ضايقه في تلك الفترة أبدًا. فهو كل يوم في بلد آخر، في طبريا وايلات والبحر يوميًا، يذهب الى الصيد كل يوم، لم يشكُ لي ابدًا عما كان يدور في رأسه. كان يحب النوم كثيرًا، كل القرية تعرفه أنسانًا بعيدًا عن العنف، ولم يتربَّ أبدا على هذه الطريقة. ولكن ماذا يفيد هذا الكلام الان، الله يصبرنا ويصبر أهالي الضحايا، فانا فقدت ابني مثلهم بالضبط ورحلتنا مع العذاب قد بدأت، ولا اعلم ما تخبئه الاقدار لي في هذه العائلة. اصبحت اخاف من كل كبيرة وصغيرة على ابنائي، حتى من زيارة ياسين في سجن الرملة خوفًا من سياقة ابني الاكبر، لانني اخاف عليه كثيرًا من هذه السياقة وسأبقى على أعصابي لانه لو جرى له مكروه فسيدمر البيت بكامله".

محمد بكري، والد ابراهيم، ما زال في السجن البيتي هو وزوجته. هناك أكد لي والد ابراهيم: "أنا أصلا لا استطيع تصديق هذه القضية، ابني ابراهيم تلقى تربية بعيدة عن العنف كل البعد، وانا دائمًا كنت حريصًا وخائفاً من الاقتراب من أمن الدولة. كان ابراهيم مستقلاً جدًا في حياته، صحيح انه يسكن معنا في نفس البيت الا انه يسكن في شقة لوحده بإمكانك ان تشاهدها الان. لم يحرم نفسه من الحياة، ففي كل يوم يذهب الى مكان آخر. لا اعلم اذا كان هو مسؤولا عن هذه العملية. أنا شخصياً لا اصدق، كان موفقًا في عمله، فهو يعمل مع اعمامه في شركة جديدة، ويملك سيارة جديدة من العمل. قال لي قبل فترة إنه يود التعلم في كلية "ياد نتان". قلت له إفعل ما تشاء. دخل الكلية ولكنه قرر بعد ذلك العودة الى العمل. سافر الى شرم الشيخ والى الكثير من الاماكن هنا في البلاد، كان سعيدًا جدًا في حياته ولا أدري ما اذا كان هذا هو الشخص الحقيقي الذي فعل ما فعل. ربيته على الإنسانية".

محمد بكري وصف لنا حالة الدمار التي وصلت اليها العائلة بعد الحادثة: "لا يوجد اي مصدر للرزق في هذا البيت، اولادي صغار يحتاجون الحليب والطعام، وأنا ممنوع من العمل ومسجون في منزلي، وهكذا زوجتي بالضبط ممنوعة هي ايضا من الخروج. واذا اردنا اي شيء من الدكان، يقوم الجيران او الاهل بتلبية إحتياجاتنا. طريقة الاعتقال التي قامت بها الشرطة كانت طريقة مخيفة جداً. فقد دخل الى البيت ما لا يقل عن خمسين ملثمًا من جهاز الامن العام "شين بيت" الاسرائيلي. كان البيت في سكون تام، دخلوه يوم 8/8/ 2002، ووصلت بهم الوقاحة الى تهديد ابني الصغير الذي لم يتعدَّ السنوات الأربع برشاش كبير في رأسه، وهو الى اليوم يعاني من التبويل ليلاً. غطوا رأسي بقطعة قماش كبيرة وحتى تلك اللحظة لم أعرف ما هي القضية".

مَلكَة بكري، والدة ابراهيم، لا تكف عن وصف الحكم بأنه ظالم. "لم يمر عليّ في حياتي مثل هذا الحكم.. (300) سنة؟!.. لكن ‘منهن لربهن الظالمين‘، واطلب من الله ان يصبّره على ما أصابه، أنا لا أصدق أن إبني قام بهذا الفعل أبدًا، لا اصدق. ما اصعب الظلم، ما اصعب الحكم، هل هذا ما ينتظرني؟.. أن أربي إبني 22 سنة وفي لحظة واحدة أفقده؟!. أنا متأكده من أنه لم يفعل شيئاً، فليحاسبوا من هو المسؤول.. إبني ليس مسؤولاً عن هذا أبدًا، وحتى الان أنا أشك في أن هذا الشاب الذي قيل انه قام بالعملية هو نفسه الذي قام بتفجير نفسه.. أنا لا أصدق ابدًا، لم ينقص إبراهيم شيء، لم ينقصه شيء على الاطلاق حتى ينجر الى هذه الطريق، أنا لا أصدق، لا أصدق.."

الدكتور محمد بكري، رئيس مجلس البعنة السابق، ناقم جدًا على الدولة وعلى الاعلام الاسرائيلي اللذين تعاملا مع القضية بشمولية، بحيث لم يقتصر اتهامهم لابراهيم وياسين فقط، بل لكل العائلة. وقال لـ "المشهد الاسرائيلي": "هناك العديد من العمليات التي تورط بها عرب من الداخل، لكن لأول مرة يقوم الاعلام الاسرائيلي بالتحدث عن العائلة وكأنها كلها اشتركت في هذه العملية. ولم يكف هذا الاعلام عن وصف العائلة على صفحاته بـ "عائلة الموت" وغيرها من هذا التعصب الاعمى. نحن في عائلة بكري غالبيتنا الساحقة تؤيد الحزب الشيوعي الذي يتبع الطرح الأممي والتعايش ونحن غير متعصبين أبدا لقوميتنا.

"أنا اعتقد أن ابراهيم وياسين لا يختلفان ابدًا عن الضحايا الذين وقعوا في هذه العملية، لأن الطرفين أصلا ضحيتان لسياسة الحكومة الغاشمة والإحتلال، الجميع ضحايا الجو العام في المنطقة. انا لا ابرر، فهذه عملية قتل فيها ابرياء ونحن ضد هذه العمليات، لكن ضحايا العملية بالإضافة الى ياسين وابراهيم والشعب العربي عامة في هذه البلاد، هم ضحايا الاحتلال. ويجب ألا ننسى كمواطنين عرب في هذه الدولة أحداث "أكتوبر 2000" الذي وقع ضحيته 13 شابًا في مقتبل العمر، ولن ننسى دير ياسين وكفر قاسم، ويوم الارض... كل هذه الظروف ادت الى خلق جو يوقع ياسين وابراهيم وغيرهما في مثل هذه المطب. اعود وأكرر: أنا لا أبرر هذه العملية ولا أبرر قتل المدنيين".

- ما رأيك في قرار المحكمة؟

"قلنا منذ البداية إننا لا نؤمن في الشرطة الاسرائيلية و‘الشاباك‘ الاسرائيلي، وقلنا إننا نؤمن بالقضاء الاسرائيلي... ولكن الحكم قد صدر وانا لا أود التعقيب على قرار الحكم، لكنني اتوجه للشعب الاسرائيلي طالبا منه منح الثقة لمن يستحقها من اجل السير نحو السلام. فالشعب الاسرائيلي هو من أعطى اليمين الاسرائيلي الثقة التي أدت الى هذه الحالة الصعبة التي نحياها. واذا استمرت اسرائيل في هذا النهج المتبع فلن يتوقف العنف أبداً.. وجود انسان مثل شارون على كرسي رئاسة الحكومة لن يؤدي الا إلى زيادة العنف في المنطقة، ويجب ان يتوجه هذا الشعب الى السلام ونناشدهم كي نضع أيدينا بأيديهم".

- كيف من الممكن ان تتوجه انت الى الشعب الاسرائيلي بعد عملية مثل هذه؟

"لا توجد لدي أية مشكلة في أن أتوجه للشعب الاسرائيلي من وجهة نظر سلمية أبدًا. ما فعله ابراهيم وياسين لا يمكن أن يكون عائقا أمام توجهاتي نحو السلام. فقد قتلت الحكومة الاسرائيلية 13 شابًا في ريعان شبابهم في "أكتوبر 2000"، بالاضافة الى ضحايا يوم الارض والقدس وغيرها من المجازر، وانا ما زلت أنادي بالسلام، فهذه العملية لن تمنعني ابداً عن استمراري في هذه الطريق. انا رجل سلام".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات