الحوانيت والدكاكين والمصالح التجارية الممتدة على جانبي الشارع الرئيسي في سخنين كانت مغلقة، تلبية للإضراب الذي أعلنت عنه ودعت إليه لجنة المتابعة للجماهير العربية. في الواحدة ونيّفٍ من الدقائق أعلن "صوت إسرائيل" بالعبرية عن عملية تفجيرية في مطعم "لندن" في مركز نتانيا التجاري. الكثير من الكاميرات والصحفيين حملوا عِدَدهم واتجهوا جنوبًا نحو نتانيا. لم تتبقَ الكثير من وسائل الاعلام لتغطي المظاهرة الحاشدة التي جمعت ما لا يقل عن 25000 متظاهر، وما لا يزيد عن الثلاثين ألفًا. بمفهوم معين وساخر قليلا، يمكن القول إن هذه العملية لم تكن في صالح الجماهير العربية في هذا اليوم أيضاً!
علاء حليحل
مظاهرة "يوم الأرض" السابع والعشرين، التي جرت في سخنين اليوم (الأحد 30 آذار)، كانت مُشمسة. الحوانيت والدكاكين والمصالح التجارية الممتدة على جانبي الشارع الرئيسي في سخنين كانت مغلقة، تلبية للإضراب الذي أعلنت عنه ودعت إليه لجنة المتابعة للجماهير العربية. في الواحدة ونيّفٍ من الدقائق أعلن "صوت إسرائيل" بالعبرية عن عملية تفجيرية في مطعم "لندن" في مركز نتانيا التجاري. الكثير من الكاميرات والصحفيين حملوا عِدَدهم واتجهوا جنوبًا نحو نتانيا. لم تتبقَ الكثير من وسائل الاعلام لتغطي المظاهرة الحاشدة التي جمعت ما لا يقل عن 25000 متظاهر، وما لا يزيد عن الثلاثين ألفًا. بمفهوم معين وساخر قليلا، يمكن القول إن هذه العملية لم تكن في صالح الجماهير العربية في هذا اليوم أيضاً!
الحاجّة النشيطة، التي كانت تطلق الشعارات بصوت عالٍ وتسير بين الشبان والصبايا، لم تتوخَ "الحذر الدبلوماسي" المرتجى في مثل هذه المواقف. صرخت بأعلى صوتها: "الله يمحى إسرائيل". كما أن مجموعة أخرى من المتظاهرين الشباب لم تتوخَ الحذر أبدًا وقامت بإحراق أكثر من ثلاثة أعلام إسرائيلية في المظاهرة. حتى المسنين من المتظاهرين لم يستطيعوا أن يتذكروا متى كانت المرة الأخيرة التي أحرق فيها علم اسرائيل في مظاهرة للعرب الفلسطينيين فيها. من جهته، كان النائب عصام مخول ("الجبهة") حذرًا ودبلومسيًا في إجابته لـ "المشهد الاسرائيلي" عن حرق الأعلام: "نحن نرفض حرق العلم الاسرائيلي. الألوف المؤلفة التي اجتمعت هنا اليوم هي الصوت الحقيقي للجماهير العربية، ونحن نعتقد أن إحراق العلم هو محاولة للفت الأنظار وهو يصب في النهاية في خدمة مصالح شارون وحكومته".
بينما كان مخول يتحدث وهو واقف إلى جانب قبور شهداء "يوم الأرض" وشهداء "أكتوبر"، إلى جانب النصب التذكاري في سخنين، كان المتظاهرون ما زالوا يهتفون بشعاراتهم العالية. بعض الأمثلة: "أمريكا راس الحية/ هادي بَدهة حتمية"؛ "يا جماهير إنضموا إنضموا/ شعب فلسطين ضحى بدمو"؛ "يا إم الشهيد تمردي/ الموت ولا المذلتي"؛ "كل العالم محتارة/ رصاصة دبت طيارة". وهكذا دواليك. الملاحظ في هذه المظاهرة أن المتظاهرين العرب خلعوا القفازات الحريرية إلى الأبد. بالنسبة لهم فإن إسرائيل وأمريكا والأنظمة العربية هي سواسية، كلها ضد العراق وضد شعبه. الحناجر التي هتفت في السنتين والنصف الأخيرتين لنصرة أبناء شعبها الفلسطيني، هتفت يوم الارض 2003 لنصرة أبناء الشعب العراقي أيضًا. وكما نتلمس الأمور حاليًا، فإن الشعوب الأخرى عَالجّرار!
* * *
حسن عاصلة، والد أسيل عاصلة من عرابة الذي قُتل في "أحداث أكتوبر"، غير راضٍ عن المظاهرة. على صدره حمل شعارًا بالانجليزية كتب عليه: “Hitler Bush- Same shit- different assholes”. لماذا أنت غير راضٍ عن المظاهرة، سألتُه. عاصلة: "من الممكن أن تكون المظاهرة أفضل بكثير، وهذا نابع من إهمال في تجنيد جماهيرنا، علمًا أن الواقع والعدوان على العراق يجب أن يكونا محفزًا لحضور كثيف للجماهير". من الذي أهمل، سألتُه، لجنة المتابعة؟.. "سأقول فقط القيادة العربية.. القيادة هي التي أهملت". ولكن شوقي خطيب، رئيس لجنة المتابعة، وعبد عنبتاوي، مدير المكتب، لا يوافقانه أبدًا. الاثنان بديا سعيدين وراضيين عن الحضور وأكدا ذلك على مسمع مني، وبقناعة تامة.
من وراء عاصلة كان "قسم أبناء البلد" في المظاهرة يرفع أعلام فلسطين ويردد الشعارات النارية. أمامه، كان قسم "الجبهة" و"الحزب الشيوعي" يرفع الأعلام الحمراء ويردد شعاراته الخاصة. أمامه بقليل كانت فرقة طبول فرع الشبيبة الشيوعية في عرابة تدقها عاليًا وحماسيًا في وجه الأمريكان. أمامهم وبشكل مبعثر برزت الأعلام البرتقالية الخاصة بـ "التجمع" والخضراء الخاصة بـ "الحركة الاسلامية". ولكن الغلبة من ناحية الحضور والأعلام والنشاط كانت بادية لـ "الجبهة والحزب الشيوعي". عضو الكنيست محمد بركة بدا راضيًا جدًا: "نحن راضون عن المظاهرة والعدد، وفخور بأن هذا الوريد يصرّ على أن يلتحم بذلك الوريد". سألته عن الحضور المكثف لنشطاء حزبه: "كالعادة. نحن في ‘الجبهة‘ و‘الحزب‘ متلازمان وننشط دائمًا في إحياء فعاليات شعبنا. وهذا واجبنا نقوم به دائمًا".
* * *
بعد إنتهاء كلمة رئيس بلدية سخنين، مصطفى أبو ريا، التي قال فيها إن هذه الحرب هي من أجل الاستيلاء على العراق وهم يحرقون الأخضر واليابس، جاء دور الشيخ علي أبو ريا. وبعد مقدمته عن ذكرى يوم الأرض، إنتقل إلى الحديث عن العراق والأمريكان. المتجمهرون من حوله إلى جانب الأضرحة فتحوا أيديهم ورددوا من ورائه "آمين" وهو يتلو الأدعية بغزارة: "اللهم زلزل عروشهم.. وَدُكّ حصونهم.. ولا تُبقِ أحدًا منهم.. وفرّق تحالفهم.. واهزم أمريكا وأحزابها وحلفاءها.. ورُدّ الغزاة إلى نحورهم.."... والكثير من الأدعية الأخرى ضد بوش وأعوانه. والكثير من الـ "آمين" الصادقة المتضرعة.
منذ سنتين يشارك الكثير (نسبيًا للسابق) من اليهود في مسيرات "يوم الأرض". بالأساس من حركة "تعايش" العربية اليهودية. تستطيع أن تميّز الكثير من الأوجه التي كان بالامكان رؤيتها في المظاهرات على الحواجز الاسرائيلية في قلنديا وسالم، بعد الاجتياح الاسرائيلي. فهم لا يكلّون. تراهم ينامون في كفر قاسم وعرعرة أمام البيوت المهددة بالهدم؛ ينقلون المعونات الغذائية ويذهبون للتضامن مع "سكان المُغُر" في جبال الخليل الذين يطردونهم من بيوتهم باستمرار. في السبت الماضي جمع نشطاء "تعايش" الكثير من المواد الغذائية وذهبوا إلى سلفيت بسبب التخوف من حصار قادم ومخطط (يمكنكم قراءة المزيد عن هذا اليوم في مقال للزميل هشام نفاع في هذا الموقع، في مكان آخر). يبدو أن تيارًا جديدًا من "اليهود العرب" بدأ بالتشكل مؤخرًا. ليس بين اليهود الشرقيين "العائدين إلى جذورهم"، بل من اليهود الأشكناز اليساريين...
* * *
المتمعّن في الأعلام التي رُفعت في المظاهرة إستطاع أن يلمح بعض الأعلام العراقية. جيفارا البديري من "الجزيرة" حاولت أن تحرج عضو الكنيست مخول، كيف أنه عضو في الكنيست الاسرائيلي ويمشي في مظاهرة ترفع الأعلام العراقية. مخول: "ربما يأتي رفع العلم تعبيرًا عن التضامن مع الشعب العراقي.. نحن نعتقد أن هذه الجريمة ضد الشعب العراقي هي محاولة عودة إلى نازية القرن الواحد والعشرين..". من ورائه كان الجمع يحاول أن يجد والد أحد الشهداء القدامى (من سنة 1976) لتسأله الصحافة بعض الأسئلة. لم يجدوا. وحده والد أحد شهداء "أكتوبر" (الجدد) كان يقف إلى جانبها وينظر إلى قبر إبنه المشبع بمطر الأمس ويحاول أن يتجاهل عدسة الكاميرا الموجهة عليه بوقاحة، وهو يقرأ الفاتحة على روح ضناه الحبيب، شهيد الجماهير العربية.
(حيفا، يوم الارض 30 آذار 2003)