أوصى مستشار لجنة الداخلية البرلمانية، مخطط المدن أديب داوود، في تقرير قدمه الى اللجنة (الأربعاء 15.02.06)، بإقامة مدينة عربية جديدة داخل الخط الأخضر، قائلا ان بناء مدينة جديدة سيسهم بشكل ملموس في تطوير الحياة الثقافية والاقتصادية والعمل ومستوى المعيشة على مستوى بلدي عال.
وتم طرح هذه التوصية أثناء قيام داوود باستعراض تقرير أعده حول أوضاع البناء في الوسط العربي، أمام لجنة الداخلية البرلمانية التي ناقشت مشاكل البناء في الوسط العربي. وقد تبنت لجنة الداخلية هذه التوصية، لكن لم يتقرر المكان الذي ستقام فيه، علما ان تنفيذ هذا القرار سيحتاج الى الكثير من الإجراءات قبل المصادقة عليه في الكنيست.
ومن المشكوك فيه أن يخرج هذا القرار الى حيز التنفيذ في ضوء التجربة التي مرت بها الجماهير العربية في الداخل في كل القرارات المتعلقة بها. وقد سبق للحكومة الإسرائيلية أن اتخذت الكثير من القرارات التي تحدثت عن مساواة المواطنين العرب في مجالات عدة، لكنها بقيت حبرا على ورق في أدراج المؤسسات السلطوية التي تضع القرارات المتعلقة بالمواطنين العرب في آخر سلم أولوياتها.
أشار التقرير الذي أعده المخطط داوود الى ظاهرة البناء غير المرخّص في الوسط العربي، والتي تعود بغالبيتها الى غياب التخطيط ومساحات البناء في البلدات العربية، والى ظاهرة القرى غير المعترف بها من قبل السلطات الإسرائيلية.
ومن خلال مراجعة لما نشر عن فحوى النقاش الذي أجرته لجنة الداخلية البرلمانية بهذا الشأن، يتضح انه غاب أو غيب عن النقاش الموسع الذي أجرته اللجنة حقيقة أن اتساع ظاهرة البناء غير المرخص ترجع إلى السياسة العنصرية التي تنتهجها السلطات الإسرائيلية، سواء في رفضها الاعتراف بهذه القرى وحل الضوائق التي تعانيها البلدات العربية بسبب عدم إقرار خرائطها الهيكلية أو توسيع مناطق نفوذها والمصادقة على تحويل أراض زراعية لأغراض البناء، خلافا لما يحدث في الوسط العبري، حيث يجري اتخاذ القرارات بشأن إقامة بلدات ومستوطنات جديدة وتحويل الأراضي الزراعية الى مناطق للبناء بكل سهولة.
وقد أكد رئيس اللجنة، عضو الكنيست العمالي غالب مجادلة، في كلمته أن المواطنين العرب لا يبنون بدون تراخيص لأنهم يهوون ذلك، كما تصور السلطات الأمر، وقال إن السلطات تضطرهم الى ذلك بسبب تأجيل المصادقة على التراخيص والتأشيرات المطلوبة للبناء. لكن مجادلة، كما يبدو، ليس مطلعا بما فيه الكفاية على حجم الضائقة والمعاناة التي يعيشها سكان القرى غير المعترف بها والعرب في المدن المختلطة، بل وحتى في البلدات العربية، ويعتقد أنه يمكن بجرة قلم "تجميد البناء غير المرخص لمدة سنة، يتم خلالها اتخاذ كافة الإجراءات المطلوبة للبناء القانوني" على حد تعبيره.
أشك بأنه لا يعرف بأن أصحاب هذه البيوت يصارعون السلطات منذ سنوات في أروقة المحاكم دفاعا حتى عن خيمة او بيت من الصفيح بنوه لإيواء عائلاتهم على أرض توارثوها أبا عن جد، لكن السلطات تسعى الى سلبها منهم لمواصلة مخططاتها الاستيطانية.
لقد رفضت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حتى منتصف التسعينيات من القرن الماضي التعامل مع ظاهرة البناء غير المرخص والقرى غير المعترف بها إلا بلغة الهدم والتشريد والمصادرة والتقارير التي دعت الى هدم عشرات القرى والأحياء الإسكانية في الوسط العربي ورفض الاعتراف بأي منها. ولم يطرأ التغيير على توجهها هذا إلا بعد مبادرة لجنة الأربعين التي تأسست في العام 1988 إلى إعداد مخطط هيكلي بديل لإسرائيل، دعا الى الاعتراف بهذه القرى وربطها بشبكات الخدمات وإنهاء المعاناة التي يتكبدها سكان هذه القرى. وقد أجبرت مهنية ذلك المخطط السلطات على تغيير تعاملها وفرضت عليها الاعتراف بعدد من القرى، وصل مؤخرا إلى 20 قرية في الجليل والنقب.
لقد تطرقت لجنة الداخلية في نقاشها إلى الوضع المأساوي لظاهرة البناء غير المرخص في النقب، حيث يعيش عشرات آلاف المواطنين العرب في قرى ترفض السلطات الإسرائيلية الاعتراف بغالبيتها، وحين قررت الاعتراف، كما فعلت في السنوات الأخيرة، فرضت على هذه القرى مجلسا إقليميا تديره هيئة معينة من شخصيات حكومية، تواصل، بشهادة عرب النقب أنفسهم، سياسة تركيز المواطنين العرب في سبيل مصادرة أراضيهم لصالح مخططات الاستيطان.
وقد صادقت الحكومة الإسرائيلية مؤخرا على أكبر مشروع للاستيطان في النقب، تجاهل وجود المواطنين العرب هناك بشكل مطلق، ولم يطرح أي حل لمشكلتهم، ناهيك عن أن الحلول التي تسعى السلطات الى طرحها كانت وما زالت تفرض على المواطنين العرب دون إشراكهم لا في الحلول ولا في التخطيط ولا في التنفيذ. وقد أشار المخطط داوود في كلمته أمام اللجنة الى غياب الحوار بين السلطات والمواطنين العرب في النقب، بشكل واضح، وهذا ليس لأن المواطنين يرفضون الحوار، وإنما لأن السلطات ترفضه بل وتتجاهل وجود العرب في كل مخطط إستراتيجي حتى حين يكون العرب طرفا فيه.
إن الادعاء بأن انتشار ظاهرة البناء، خاصة في لواء حيفا (الذي يضم منطقة وادي عارة) ينجم عن الاستهتار بسلطات التنظيم والبناء وبسلطات القانون لا يمت إلى الحقيقة بصلة. فسلطات التنظيم والبناء وسلطات القانون الإسرائيلي لا تتعامل مع هذه الظاهرة إلا من خلال جرافات الهدم والدوريات الخضراء/ السوداء، واليد الحديدية للشرطة. لم تطرح السلطات الإسرائيلية أي مخطط لحل هذه الظاهرة من خلال إشراك السكان او الأخذ برأيهم، بل على العكس، حتى في غالبية القرى التي صدرت أوامر الاعتراف بها ما زال الوضع كما هو عليه، بسبب إصرار السلطات على إعداد مخططات تكاد لا تكفي لسد الاحتياجات الحالية لهذه القرى، ما يعني أنها لا تريد لهذه القرى التطور والتوسع، وتضع سدا منيعا أمام هذه الإمكانية منذ الآن. وهذا يعني بالتالي، أن الأجيال القادمة لن تتمكن من البناء ومواصلة العيش في قراها وإنما ستضطر إلى الانتقال الى مدن وبلدات أخرى، وهو ما تسعى إليه السلطات في إطار مخطط تركيز المواطنين العرب في اقل عدد ممكن من البلدات وإحكام حصارها بالمستوطنات والمناطر الإسرائيلية.
ومن يتابع الخارطة الهيكلية التي يجري إعدادها لقرية عرب النعيم في الشمال،على سبيل المثال، يدرك ما أقصده، وكذلك الأمر بالنسبة لخارطة عين حوض، وخرائط غيرها من القرى التي مضى عقد من الزمان على الاعتراف بها ولم يتم حتى الآن المصادقة على خرائطها بفعل سياسة التضييق والخناق التي تسعى السلطات لفرضها على هذه القرى.
أمر آخر أشار إليه تقرير داوود يتعلق بالنقص الكبير في الخدمات في هذه القرى وحتى في البلدات العربية المعترف بها، خاصة فيما يتعلق بالمؤسسات والمنشآت الرسمية، حيث يضطر الكثير من المواطنين العرب الى الاعتماد على مؤسسات قائمة في بلدات يهودية مجاورة أو بعيدة لتحصيل هذه الخدمات. والأمر ذاته ينسحب على البنى التحتية التي تكاد تكون معدومة في الوسط العربي، وان وجدت فهي لا تلبي أدنى الشروط الحياتية.
لقد دعا مستشار لجنة الداخلية البرلمانية في توصياته إلى إجراء إصلاح شامل في قانون التنظيم والبناء خاصة ما يتعلق بالأرض، الملكية وسياسة المصادرة وتخصيص ميزانيات لإعداد خرائط هيكلية مفصلة وإزالة العوائق وتسريع عملية المصادقة على الخرائط. لكنني أظن أن المستشار يعرف أن توصياته هذه قد تبقى حبرا على ورق، أيضا، مثل الكثير من التوصيات التي تعاملت معها الحكومة الإسرائيلية باستهتار رغم تبنيها لها. ولن نبعد كثيرا حتى نأتي بأدلة تثبت ما نقول، إنما نذكر بتوصيات تقرير أور، الذي لم يخرج منه إلى حيز التنفيذ أي حرف، حتى التوصيات المتعلقة بقتلة المواطنين العرب بدم بارد في ما عرف بـ"أحداث أكتوبر 2000".
إن المطلوب ليس توصيات وليس قرارات تتخذها هذه اللجنة البرلمانية أو تلك، وإنما إجراء تغيير مطلق في نظرة وتعامل الحكومات الإسرائيلية مع المواطنين العرب وحقوقهم. وطالما كانت حكومات إسرائيل تتعامل مع المواطنين العرب كطابور خامس وكجمهور معاد، وتسمح لأمثال العنصري ليبرمان بالتحريض عليهم صباحا ومساء، دون أن يقوم من يخرسه، وتسمح بتمرير جريمة مقتل الشبان العرب في أكتوبر 2000، وما تبعها من عمليات قتل بدم بارد، دون معاقبة المسؤولين، طالما تواصل هذا النهج فمن المشكوك فيه أن تنفذ توصيات لجنة الداخلية، لا في مجال بناء مدينة عربية جديدة، ولا في مجال التخطيط للعرب.