المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 2600

يقع جهاز القضاء الإسرائيلي، وخاصة المحكمة العليا، منذ حوالي عقدين من الزمن، تحت مجهر اليمين المتشدد بدءا من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وكذا أيضا لدى المتدينين المتزمتين "الحريديم".

وظهرت على مدى السنين محاولات لتقييد صلاحيات المحكمة العليا، ومنها ما نصّت عليه اتفاقيات الائتلاف الحكومي القائم، إلا أنها نقطة خلافية في الائتلاف ذاته.

وفي الآونة الأخيرة، تصاعد الهجوم أكثر على بعض القضاة، فقط لأنهم أصدروا أمرا احترازيا يؤخر هدم بيت أحد الناشطين الفلسطينيين، ما فتح ملف العلاقة بين جهاز القضاء والسلطة التنفيذية، بمستوى أقوى من ذي قبل.

في الأسبوع الماضي نشر ملحق صحيفة "هآرتس" الأسبوعي تقريرا مطولا حول التطورات التي طرأت على المحكمة العليا، والانطباع السائد عن تركيبة وخلفيات قضاتها الـ 15.

والعنوان الأبرز الذي يستنتجه التقرير أن المحكمة العليا باتت "محافظة أكثر، وتتجنب الصدام مع الحكومة". ومعنى هذا أن المحكمة باتت تبدي شأنا أقل في التدخل في قوانين وقرارات حكومية، بعكس ما كان قائما بالذات في فترة رئاسة القاضي أهارون باراك، منذ العام 1995 وحتى العام 2006.

ويفتتح الصحافيان غيدي فايس وشارون فولبر تقريرهما بوصف حالة القاضي عوزي فوغلمان، الذي اضطرت الأجهزة الأمنية إلى فرض حراسة مشددة عليه، منذ خروجه من بيته، وحتى وصوله إلى المحكمة العليا وبالعكس، وأيضا في تنقلاته الأخرى، بعد أن ظهرت ضده حملة تحريض قاسية قادها وزراء ونواب في الائتلاف الحاكم، فقط لمجرد استصداره أمرا احترازيا لبضعة أيام يمنع الهدم الفوري لبيت أحد الناشطين الفلسطينيين. وهو إجراء قضائي متبع وعادي جدا، ردا على التماسات ضد تنفيذ إجراء في حال لو تم ولم يكن قانونيا، سيسبب ضررا لا يمكن إصلاحه. وهذا ما كان قائما على مدى السنين، ومثل هذه الإجراءات لم تمنع لاحقا تدمير بيوت الفلسطينيين، فالمحكمة العليا وعلى مر السنين تساند الغالبية الساحقة جدا من قرارات وسياسات الاحتلال، والاستثناءات نادرة جدا.

إلا أن قرار فوغلمان، الذي صدر في أوج الهبّة الفلسطينية الأخيرة، لم يرق لأوساط اليمين المتطرف وقيادته في الحكومة. وكما يبدو فقد كان لهذا خلفيات تعود إلى قرارات استعرضها تقرير الصحيفة اعترضت على مبدأ الهدم، لكن التقرير يذكر أيضا أن فوغلمان كان مسؤول الالتماسات في العليا في نيابة الدولة من 1995 وحتى 2000، وكان يدافع عن موقف الحكومة.

وقد قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ردا على القرار موبّخا: "إن على المحكمة العليا أن تتحرك بسرعة". وقال وزير التربية والتعليم، زعيم التحالف الاستيطاني البرلماني "البيت اليهودي"، نفتالي بينيت: "حينما يُقتل الناس في الشوارع، فإن المحكمة العليا لا تستطيع أن تلوّح بإجراءات قضائية من شأنها أن تعيق الحرب على الإرهاب". وتبعه وزير السياحة من حزب الليكود ياريف ليفين قائلا: "إن هذا حضيض إضافي، وقرار منقطع عن الواقع".

أما النائب من كتلة "البيت اليهودي"، المستوطن موطي يوغيف، فقال: "إن فوغلمان وضع نفسه في صف العدو. وهو يدافع عن حقوق القتلة". وطالب يوغيف القاضي فوغلمان بأن يخلع عن نفسه زي القاضي، وأن ينضم إلى "القائمة المشتركة" التي تمثل المواطنين الفلسطينيين في الكنيست.

وكان يوغيف ذاته قد صرّح في وقت سابق بأنه يجب الزحف نحو المحكمة العليا بجرافة ضخمة.

ويقول التقرير إن التعامل مع فوغلمان يعود في خلفياته إلى التركيبة العامة لهيئة قضاة المحكمة العليا، التي تضم 15 قاضيا، أحدهم عربي هو القاضي سليم جبران، في حين أن أغلبية القضاة هي من "المحافظين"، حسب وصف التقرير. ومن بينهم ثلاثة من المتدينين، كما أن أحدهم على الأقل مستوطن، في حين أن 7 منهم يسكنون في القدس، دون الإشارة إلى أي شطر منها، بينهم القاضي العربي جبران. لكن كما يبدو أن بعضهم انتقل إلى القدس لاحقا بسبب عمله في المحكمة.

ويقول التقرير إنه حسب عاملين في المحكمة، فإن القضاة تحتد بينهم أحيانا خلافات ويرتفع الصوت في اجتماعاتهم إما الجزئية (تركيبة هيئة لقضية) أو العامة، وحتى أن أصوات الصراخ يمكن سماعها في أروقة المحكمة. وفي خلفيات بعضها آراء متناقضة في بعض القرارات الصادرة.

ويقول البروفسور في الحقوق مردخاي كريمنيتسر إن "فوغلمان يشكل نقطة ضوء في المحكمة العليا التي هي اليوم أقل ليبرالية من الماضي. وأن التعبير الأساس عن الاستنتاج أن المحكمة العليا محافظة أكثر، هو أن المحكمة ذاتها لم تتدخل في قضايا كان متوقعا منها أن تتدخل فيها، مثل القوانين المناهضة للديمقراطية".

ويقول البروفسور باراك مدينا "إن عدد القضاة المحافظين قد تزايد. وفي الماضي كانوا قلة، واليوم على الأقل نصف القضاة يحملون الآراء المحافظة، في حين أن التمييز بين القاضي الليبرالي والمحافظ ينعكس بمدى الدفاع عن حقوق الإنسان، في القرارات الصادرة عنه".

ويقول البروفسور عمانوئيل غروس إن القفزة التي حققها رئيس المحكمة الأسبق أهارون باراك آخذة بالتلاشي، منذ فترة الرئيس السابق آشر غرونيس، ورئيسة المحكمة الحالية مريام ناؤور، فهما محافظان أكثر، والمحكمة ترتدع حاليا عن التصادم مع السلطات التنفيذية، وبقدر أكبر تحرص على عدم التصادم مع السلطة التشريعية (الكنيست).

ويقول البروفسور أمنون رايخمان إن المحكمة العليا كمن وضعت نفسها في تحصين تحت الأرض، وهي في وضعية مفادها أنه إذا لا يوجد ما يلزمها، فإنها لا تتدخل بقرارات السلطة الحاكمة. وهي تتدخل فقط في حالة اللامفر، حينما لا تنفذ السلطة الحاكمة قرارات، ولا تطبق القانون. كما أن المحكمة عالقة أمام تهجمات ضخمة عليها، ومن الواضح أنه على ضوء تركيبة القضاة القائمة فإن مجال المحكمة محدود. وتحدث الآن أمور ما كانت ستحدث في عهد الرئيس باراك. ففي الآونة الأخيرة رفضت المحكمة التماسا طلب معرفة عدد الأذونات التي حصل عليها جهاز المخابرات العامة "الشاباك" ليجري تنصتا سريا. ومثل هذا الأمر ما كان سيتم لدى القاضي أهارون باراك.

كما طرح رايخمان عدة أمثلة أخرى، ظهرت فيها المحكمة العليا كمن ترفض الاعتراض على قرارات الأجهزة الأمنية والسلطة الحاكمة.

المراكز الحقوقية ترتدع

ويقول تقرير "هآرتس" إنه حتى صيف العام 2014، كانت المحكمة العليا الحلبة المركزية التي نشطت فيها مراكز حقوق الانسان متعددة الأسماء والتخصصات، في فترات الحروب والعمليات العسكرية. غير أنه إبان العدوان على غزة في صيف 2014، الذي أطلق عليه الاحتلال اسم "الجرف الصامد"، كانت أروقة المحكمة خالية، ولم تقدم سوى التماسات قليلة جدا.

ويقول المحامي دان ياكير، من جمعية حقوق المواطن، وهو من أبرز الحقوقيين الذين يقدمون التماسات تتعلق بحقوق الانسان للمحكمة العليا، إن المراكز والمنظمات الحقوقية لم تر في المحكمة العليا عنوانا ذا صلة، على الرغم من أنه في حروب سابقة كان يأتي هو والتنظيمات الأخرى إلى المحكمة تقريبا بصورة يومية.

ويقول المحامي البارز أفيغدور فيلدمان "إن عملية الجرف الصامد كانت عمليا حربا، للمرّة الأولى، من دون محكمة عليا. ففي المحكمة العليا تنشب أجواء باردة تجاه حقوق الإنسان، وكل القضايا الدستورية نزلت عن جدول الأعمال، رغم أنها كانت قضايا بارزة جدا في قرارات المحكمة العليا، في فترة رئاسة أهارون باراك، ولربما بعد فترته. والمحامي الذي يطرح أمام المحكمة مسألة قانون الأساس: احترام الإنسان وحريته، وهو عنصر أساس في قرارات المحاكمة، يواجه باستهتار (من القضاة) مثل: سمعنا، سمعنا".

وحسب التقرير، فإنه خلال ذلك العدوان على غزة، فحصت بعض الجمعيات إمكانية مقاطعة المحكمة العليا، في أعقاب الانطباع الذي طغى في تلك الأيام بأن المحكمة العليا ليست معنية بالتدخل.

ويقول وزير العدل الإسرائيلي الأسبق دانيئيل فريدمان إنه خلال حروب وعمليات عسكرية سابقة كانت المحكمة العليا تبحث في الالتماس تلو الآخر، وهذا بالأساس كان في فترتي رئاسة أهارون باراك ودوريت بينيش.

توجهات الحكومة للمحكمة العليا

إن المعركة من أجل الانتقاص من صلاحيات المحكمة العليا، أو من أجل زيادة وزن السياسيين في اللجنة التي تعين القضاة، لم تبدأ في فترة حكومات بنيامين نتنياهو الثلاث الأخيرة بما فيها الحالية. ورغم أن نتنياهو طرح مثل هذا الموقف في حكومته الأولى، 1996- 1999، فقد برزت هذه المعركة بشكل آخر في ظل حكومة حزب "كديما" برئاسة إيهود أولمرت، حينما كان وزير العدل حاييم رامون.

فقد تولى رامون وزارة العدل لعدة أشهر في العام 2006، واضطر للاستقالة منها في أعقاب قضية تحرّش جنسي، حينما قام بتقبيل جندية في مكتب رئيس الحكومة بغير إرادتها. ولكن الأشهر القليلة تلك كانت كافية للإعلان عن نواياه بتغيير أنظمة تعيين القضاة، ليكون الوزن أكبر للجهاز السياسي، ولكن ليس هذا فحسب، بل هو أيضا عبّر عن اعتراضه على مدى تدخل المحكمة العليا في القوانين التي يقرّها الكنيست.

ففي شهر أيار 2006، اعترضت المحكمة على القانون "المؤقت" الذي يحظر لم الشمل للعائلات الفلسطينية التي أحد الزوجين فيها من الضفة والقطاع المحتلين، أو من خارج البلاد، إذا كان فلسطينيا أو عربيا. ويومها قال رامون من على منصة الكنيست: "إذا المحكمة قالت إن هذا القانون عنصري، فأنا اعتز بهذه العنصرية".

وبعد اضطرار رامون للاستقالة تم استقدام المحامي والخبير الحقوقي البروفسور دانيئيل فريدمان، السابق ذكره في هذا التقرير. واتضح لاحقا أن فريدمان ذاته كان من الموجهين لرامون، وجاء ليكمل المهمة. ما يعني أن هذا المشروع كان أكبر من فكرة شخص في الحكومة. لكن حكومة أولمرت حلّت نفسها قبل إحداث أي تغيير.

ومنذ الأيام الأولى لحكومة نتنياهو قبل السابقة، في ربيع العام 2009، أبدى رئيسها نيته تغيير قوانين وأنظمة في جهاز القضاء، وبشكل خاص تقويض صلاحية المحكمة العليا في التدخل في القوانين. ورغم تشكيل حكومتين، وهذه الثالثة، إلا أن مثل هذه القوانين لم تحل بعد. لكن جرى تغيير طفيف في لجان تعيين القضاة. غير أنه قبل هذا، نجحت حكومة نتنياهو قبل السابقة بتغيير قانون تعيين رئيس المحكمة العليا، الذي كان يقضي بتعيين الأكبر سنا، شرط أن يكون عمره حتى 66 عاما، لكون القاضي يخرج للتقاعد بعمر 70 عاما، ومن يتم انتخابه رئيسا يبقى في منصبه حتى تقاعده.

وكان الغرض من تعديل هذا القانون هو السماح للقاضي آشر غرونيس، المحسوب على اليمين، بأن يتولى المنصب حينما يكون عمره 67 عاما فور استقالة دوريت بينيش، الذي اتبعت نهج سابقها "الليبرالي" أهارون باراك.

وفي اتفاقيات الائتلاف الحاكم، التي تم توقيعها في شهر أيار 2015، ظهر خلاف واضح في كل ما يتعلق بالتعامل مع جهاز القضاء. فقد اعترضت كتلة "كولانو (كلنا)" برئاسة وزير المالية موشيه كحلون، على بندين في الاتفاقية التي وقعها حزب "الليكود" مع الشركاء الثلاثة الآخرين: تحالف أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، والكتلتان اللتان تمثلان اليهود المتزمتين "الحريديم: شاس ويهدوت هتوراة. وقد نص البندان على ما يلي: الاتفاق على دعم مشروع قانون يسمح للكنيست بإعادة سن قانون رفضته المحكمة العليا، ما يعني تقليص صلاحيات المحكمة العليا في نقض قوانين؛ والاتفاق على تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، بحيث يرتفع وزن السياسيين فيها- أي ممثلي الحكومة- ما يجعل الجهاز القضائي خاضعا أكثر للجهاز السياسي.

ورفض حزب "كولانو" إدراج هذين البندين في الاتفاقية معه، وطلب الإشارة بوضوح إلى رفضه للبندين. وفي هذه الحالة فإن حكومة نتنياهو التي ترتكز على أغلبية هشة من 61 نائبا من أصل 120 نائبا، لن تكون لها أغلبية برلمانية، كما لن يسعفها دعم كتلة المعارضة "يسرائيل بيتينو" بزعامة أفيغدور ليبرمان، عدا عن أن اتفاقيات الائتلاف تنص على تقديم مشاريع قوانين متفق عليها، ويحق للأحزاب المشاركة في الحكومة طرح حق النقض على أي من القوانين.

لكن من الواضح أن "الحريديم" بالذات، ومن ثم المستوطنين، معنيون جدا بتغيير قوانين وأنظمة بغية تقليص صلاحيات المحكمة، ولكن هذا حتى الآن ليس بالمستطاع، والإثبات على هذا هو أن الحكومة رفضت مشروع قانون قدمه المعارض ليبرمان يلغي صلاحية المحكمة العليا بنقض قرار لجنة الانتخابات المركزية، في حال تم رفض ترشيح مرشح أو قائمة بأكملها للانتخابات البرلمانية، إذ أن لجنة الانتخابات مركبّة كلها من ممثلي أحزاب، باستثناء رئيس اللجنة الذي هو قاضي محكمة عليا.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات