خطر الإغلاق يتهدّد دائرة السياسة والحكم في جامعة "بن غوريون" بسبب توجهاتها النقدية
وضعت لجنة مراقبة الجودة في مجلس التعليم العالي الإسرائيلي مؤخرا على مائدة هذا المجلس مشروع قرار يدعو إلى عدم السماح بفتح التسجيل لدورات تنظمها دائرة السياسة والحكم في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع، وذلك في السنة الدراسية القادمة.
ويشكل هذا "القرار" خطوة حاسمة في الطريق إلى إغلاق الدائرة المذكورة.
إن الدافع العلني، ولكن غير الرسمي، للتحرك في مجلس التعليم العالي ضد هذه "الدائرة" هو دافع سياسي. فوزير التربية والتعليم غدعون ساعر، وكذلك أحد الممثلين في اللجنة، والذي كان ناشطا في تصعيد لهجة التقرير الصادر عن اللجنة، البروفسور ديسكين من الجامعة العبرية في القدس، مقربان من حركة "إم ترتسو" (اليمينية المتطرفة) أو متماثلان معها. ورئيس اللجنة الفرعية لمراقبة الجودة، التي ترجمت توصيات أعضاء اللجنة الدولية إلى توصية بعدم السماح بالتسجيل للدائرة في السنة المقبلة، هو البروفسور ماؤور، عضو "مركز تراث بيغن" وأحد رجال اليمين المعروفين.
بعض التبريرات والحجج التي ساقتها بيانات المتحدث باسم مجلس التعليم العالي، وإن لم ترد في التقرير ذاته، كانت سياسية خالصة (كغياب التعددية وما شابه). كذلك فإن الظروف التي تجري فيها الحملة ضد الدائرة، والتي تحول بفضلها التهديد بإغلاق الدائرة إلى تهديد ملموس، هي ظروف سياسية بامتياز. وتعمل السلطة ومحافل اليمين المرتبطة بها على دفع مبادرات في سائر المجالات والأطر المؤسسية من أجل إقصاء عناصر اليسار عن مواقعها ومراكزها ومكتسباتها، وتكريس مواقع النفوذ والسيطرة التي تستأثر بها (السلطة ومحافل اليمين)، وهو ما حصل ويحصل في المحاكم والنيابة العامة للدولة، والمستوى المهني في وزارة التربية والتعليم، وكذلك في سلطة البث، والصحف، وفي مجلس التعليم العالي ذاته، الذي قلص فيه عدد ممثلي الجامعات وفي الوقت ذاته تمت زيادة عدد ممثلي الكليات والجمهور الذين ينتمي كثيرون منهم إلى اليمين.
بالإضافة إلى ذلك فإن الخطوة الحالية في مجلس التعليم العالي ذات سياق أكاديمي جلي لا يقل خطورة عن السياق السياسي العلني.
فقد أقيمت دائرة السياسة والحكم في جامعة "بن غوريون" كبديل لما اعتبر في البلاد كتيار سائد (تقليدي) في العلوم السياسية، وهو تيار بحثي وضعي وكمي يسيطر على جميع الدوائر الأربع الأخرى للعلوم السياسية في إسرائيل. ومن ناحية عملية فقد كان تمحيص الدائرة في جامعة بن غوريون في التوجهات والمواضيع البحثية الشرط الذي وضعه مجلس التعليم العالي قبل أكثر من عشر سنوات حين أقيمت الدائرة. وبذلك فقد انتهج مجلس التعليم توجها تعدديا صحيحا. هذا في حين أن الدوائر الأخرى للعلوم السياسية ليست تعددية نظرا لأنه لا توجد فيها سوى أقلية ضئيلة من الباحثين الذين ينتهجون توجها تحليليا، تاريخيا ونقديا، وهؤلاء يحتلون بصورة عامة مكانة هامشية في الدائرة. ولا تتبنى دائرة السياسة والحكم في جامعة بن غوريون توجها تعدديا نظرا لعدم وجود تمثيل كاف فيها للبحث الكمي والوضعي ولكن بفضل قرار مجلس التعليم العالي الذي أتاح إنشاء الدائرة، أضحت خريطة البحث في المجال السياسي في البلاد أكثر تعددية حين انضمت إليها شعبة متخصصة في التوجه التاريخي النقدي. وفي الواقع فقد تبلورت داخل الشعبة مجموعة من الباحثين والباحثات الممتازين الذين تنتهج غالبيتهم توجهات - متباينة- تنتمي على المستوى الواسع للتوجه التحليلي- التاريخي في العلوم السياسية. وإحدى السمات المهمة لهذا التوجه، ولا سيما في التيارات الانتقادية، تتمثل في حقيقة أنه وخلافا للجزء الأكبر من البحث في العلوم السياسية، فإن الدولة- الدولة القومية في صورتها التاريخية الحالية- لا تحدد منظومة الخطوط التي يدور البحث داخلها، وإنما توضع هي نفسها كموضوع أو هدف للبحث. ولعل ذلك هو السبب في أن الدائرة - الشعبة- لا تسمى دائرة العلوم السياسية وإنما دائرة السياسة والحكم، والفرضية هنا هي أن الدولة تمثل شكلا متغيرا للسياسة والحكم، اللذين يشكلان الركائز أو الأسس التي يجب أن ينطلق منها البحث. بمعنى أن إشكالية الدولة القومية ليست نتاجا لتفكير ما بعد صهيوني على وجه التحديد وإنما نتاج توجه تاريخي ونقدي للدولة ومؤسساتها.
إن في إمكان الباحث بالتأكيد إتباع مثل هذا التوجه وأن يكون في الوقت ذاته صهيونيا (وهناك في دائرة السياسة والحكم في جامعة بن غوريون باحثون على هذه الشاكلة)، وإن كانت للأيديولوجيا الصهيونية في مثل هذه الحالة بالطبع عدة سمات مهمة تميزها عن أيديولوجيا اليمين الصهيوني.
لقد عين مجلس التعليم العالي لجنة فحص (تقصي) لا ينتمي أحد من أعضائها إلى التوجه التاريخي النقدي في بحث الدولة والسياسة. وفي أي مجلة تعنى بهذا المجال، سواء كانت مركزية أو هامشية، لم يكن ليخطر في بال المحررين أن يرسلوا للتحكيم لأحد أعضاء اللجنة مقالة لباحثين يعملون في الدائرة، لكنهم اجتمعوا جميعا للبت في مصير دائرة كاملة لا تعمل من الناحية العملية في مجال بحثهم. وقد تعلل التبرير النقدي الحاسم في التقرير الأصلي للجنة بغياب التعددية البحثية في الدائرة. كذلك فإن التحفظ الوحيد الذي كتبه الباحثان الدوليان اللذان عينا لمراقبة تنفيذ التقرير من قبل الدائرة، يكرر الاتهام ذاته للدائرة بأنها تصر على الانشغال في مجال يمثل منطق وجودها. يتهمونها بأنها لا توازن بين التوجهات البحثية، كما لو أن التوازن في العلم شأنه شأن برنامج أستوديو في التلفزيون. ووسط كل ذلك يتدخلون بصورة سافرة في السلوك الأكاديمي لجامعة بن غوريون. إن مجلس التعليم العالي يخل بذلك، ليس فقط بالتفويض الممنوح إليه بموجب قانون المجلس، وإنما أيضا بمبدأ الحرية الأكاديمية.
وإذا كان ثمة مجال لتصحيح انعدام التوازن بين التوجهات البحثية المختلفة، فهذا شأن الكلية والجامعة.
وهنا ينبغي العودة إلى موضوع الظروف السياسية. فهذا التشويه أو الانحراف الخطير في سلوك مجلس التعليم العالي وفي علاقاته مع جامعة بحثية في إسرائيل يمكن أن يحصل ليس فقط بسبب الملاحقة المنهجية للدائرة من قبل مجموعات من عناصر اليمين التي وصمت دائرة السياسة والحكم بـ "اللاصهيونية" أو "ما بعد صهيونية" أو "يسارية"، وإنما أيضًا في ظل الظروف السياسية التي تحولت فيها مثل هذه الملاحقة إلى قاعدة متبعة. وإذا ما أقر مشروع القرار بشأن منع جامعة "بن غوريون" ومنع دائرة السياسة والحكم من فتح التسجيل لدوراتها في السنة المقبلة، فإن ذلك سيمهد الطريق أمام صوغ برامج التدريس في الجامعات الإسرائيلية من قبل الساسة والأكاديميين الذين يخدمون إلى جانبهم، ويتماهون مع نهجهم السياسي.
لقد حصل ذلك في الكثير من الأنظمة الظلامية، ويمكن أن يحصل هنا أيضا.
إنها لحظة حاسمة لمستقبل التعليم العالي في إسرائيل، مما يستوجب من جميع أعضاء السلك الأكاديمي في الجامعات الإسرائيلية قاطبة التجنيد من أجل منع إغلاق دائرة السياسة والحكم.
يتعين علينا أن نطالب إدارات جامعاتنا بعدم التخلي عن جامعة "بن غوريون" وتركها لوحدها في المعركة، وأن نقود معا وسويا النضال ضد مشروع القرار الأخرق المذكور.
ولا بد من الإيضاح والتأكيد أن مجلس التعليم العالي سيفقد شرعيته الأكاديمية في إسرائيل والخارج إذا ما أقدم على التصديق على هذا المشروع، وأن ذلك يشكل تحطيما للقواعد في العلاقات بين السلطة والأكاديميا، الأمر الذي يستوجب اتخاذ خطوات تتناسب مع الوضع الجديد، بدءا من قطع العلاقة مع مجلس التعليم العالي وحتى تعطيل جهاز التعليم بأكمله.
_________________________________
(*) بروفسور في "معهد كوهن للتاريخ والفلسفة" و"مركز منيرفا للآداب" في جامعة تل أبيب. ترجمـة خاصـة.