الهزّة التي تعصفُ بمنطقة الشَّرق الأوسط منذ بداية هذا العام تصلُ في هذه الأيام إلى ذروتِها. فتيار الإسلام السياسيّ أصبح قوةً مهيمنةً ليس على السّاحة السياسيَّة في مصر القريبة فحسب، وإنما أيضًا في كل من تونس، وليبيا، والمغرب. وترى إسرائيل بصورةٍ رسميَّة في التحوّل التاريخي الذي يجري في المجتمعات العربيَّة تهديدًا. وقد جزم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في خطابه أمام الكنيست مؤخرًا، بأن العرب "لا يتقدّمون إلى الأمام في اتّجاه التقدّم والرُّقي، وإنّما يسيرونَ إلى الخلف".
وكان إسقاط الرئيس حسني مبارك عبر الانتفاضةِ المدنيَّة في مطلع هذا العام أثارَ في إسرائيلَ مشاعر الذّهول والخوف. والذّهول من الانتفاضة المدنيّة شديدة الوقع امتزجَ بالخوف من إمكان أن يؤدي استيلاء الإسلاميّين المتطرِّفين على دفّة السُّلطة إلى انهيار اتفاقيَّة السَّلام مع إسرائيل. كما أن فوز الأحزاب الإسلاميَّة في الانتخابات يُنظر إليه على أنّه تحقيق لسيناريو الرّعب الذي كان متوقَّعًا مسبقاً كما يبدو.
ولا شكّ في أنَّ هذه الأحزاب تطمحُ لتطوير أجندة وطنيَّة تختلف كليًّا عن أجندة الأنظمة التي تمّ إسقاطها، في قضايا المجتمع والاقتصاد، مثلما هو أيضًا في السياسة الخارجيَّة والأمن القومي. وإنجازات ومكاسب حزب "الحريَّة والعدالة" في الانتخابات البرلمانيَّة تحتمُّ على قياديي الإخوان المسلمين ترجمة شعارهم التاريخي "الإسلام هو الحل" إلى خطواتٍ عمليَّةٍ في مختلف مجالات التَّشريع والسياسات.
هذه الوضعيَّة تثير قلقًا شديدًا لدى قطاعات هامَّةٍ أخرى في المجتمع المصري، بما في ذلك الأقليَّة القبطيَّة الكبيرة وتشكيلة واسعة من المجموعات التي تتمسّك بوجهات نظرٍ ليبراليَّة ويساريَّة. هذه القوى لعبت دورًا حاسمًا في ثورة 25 يناير ولا يزال لها تأثير على التّطورات على السّاحة السياسيَّة. المؤسّسةُ الأمنيَّةُ القويّة، والجيش في مقدِّمتها، تدير شؤون مصر في المرحلة الانتقاليَّة وتأثيرها على التّطورات سوف يتواصل أيضًا في المستقبل.
الإنجازات والمكاسب التي حققتها القوى الإسلامية ستزيد من حدة الصّراع بين القوى المتصارعة على السُّلطة في المجال السياسي حول القضايا المصيريَّة بخصوص صياغة الدستور الجديد والانتخابات الرئاسيَّة المرتقبة في مطلع الصيف القادم. حتى ثورة 25 يناير سيطرت مؤسّسة الرئاسة والأجهزة الأمنيَّة بقبضةٍ من حديد. والصِّراع بين القوى يجري الآن بين أربعة مراكز: البرلمان، والرِّئاسة، والمؤسَّسة الأمنيَّة، وقوى غير برلمانيَّة.
إن الافتراض بأنَّ فوز التيار الإسلامي في الانتخابات البرلمانيَّة هو جوهر كلّ شيءٍ يتجاهل هذا الواقع السياسي. فالصراع الأصعب هو حول صياغة هوية المجتمع المصري وسياسة الحكومة، وقد دخل الآن مرحلة خطيرة. وإقامة النظام الجديد سوف تستغرق فترة طويلة ولا يمكن التنبؤ متى وكيف سوف تكتمل.
مسألة إسرائيل واتفاقيّة السَّلام معها لا تحتلُّ الصّدارة في سلم الأولويات الوطنيَّة المصريَّة. والتوقُّعات من القيادة المنتخبة الآن كبيرة جدًا، وهي مطالبة بعرض خطط عمليَّةٍ لإصلاح الأوضاع الاقتصاديَّة والماليَّة المترديَّة، وحلّ مشاكل البطالة وضائقة الخدمات العامَّة. وحتى قيادة الإخوان المسلمين تدرك حقيقة أنّ اتفاقيَّة السَّلام مع إسرائيلَ تنطوي على شبكةٍ من المصالح الأمنيَّة، والاقتصاديَّة والسياسيَّة، التي تصبّ في مصلحة الدّولة المصريَّة.
ويمكن الافتراض أنّه في المستقبل المنظور سيتواصل التزام مصر باتّفاقيَّة السّلام، إلاّ أنَّ علاقات الدولتيْن من شأنها أن تتدهورَ إلى الحضيض. القيادة المنتخبة برئاسة الأحزاب الإسلاميَّة بمقدورها أن تطلبَ إعادة النظر في الاتفاقيّات السياسيَّة والاقتصاديَّة الموقّع عليها، وزيادة اهتمام مصر بالملف الفلسطيني، بما في ذلك فتح معبر رفح بصورةٍ منتظمة، وتطبيق اتِّفاق المصالحة بين الفصائل الفلسطينيَّة والحصول على اعترافٍ دوليٍّ بحماس.
وللمواقف الإسرائيليَّة إزاء التطورّات الدراماتيكيّة في مصر تأثيرٌ كبيرٌ على العلاقات بين الدولتيْن. وبالإضافة إلى عددٍ كبير من النّقاشات والاستعدادات المتوقّعة من الأجهزة الأمنيَّة، هناك تصريحات يتم إطلاقها من قِبل النّاطقين باسم الائتلاف وأعضاء الحكومة تدلّ على أنّ هؤلاء يجدونَ في التحوّلات التي تمرّ بها المنطقة فرصةً لتعزيز الأجندة الأيديولوجيّة لليمين في إسرائيل.
كما أنَّ مواقف الحكومة الإسرائيلية التي تعارض إمكانية انطلاق عمليَّة السّلام مع الفلسطينيين وتدعم التّشريعات القوميّة المتطرفة غير المسبوقة والخطيرة في الكنيست، أضيف إليها الآن تقديرات لا أساس لها ووفقًا لها فإنّ مصر سوف تتحوّل إلى إمارةٍ إسلاميَّة متطرِّفة. وبحسب ما ادعى رئيس الحكومة في الكنيست فإن "مَن لا يرى ذلك يدفنُ رأسه في الرّمل". وعليه فإن نتنياهو وحكومته يبلوران الآن صيغةً حديثةً لنظرية "الجدار الحديدي" التي عرضها زئيف جابوتينسكي قَبل تسعين عامًا.
إن التحوّلات الدراماتيكيَّة التي تهزُّ المجتمعات العربيَّة تهدّد بأن تتحوَّلَ إلى شتاءٍ رجعي في إسرائيل. ويبدو أن الصيغة الجديدة لمفهوم "الجدار الحديدي" الذي يفصل بين إسرائيل والعرب ستجعله أكثر سُمكًا وارتفاعًا.
_________________________
(*) رئيس "مركز حاييم هيرتسوغ للدراسات الشرق أوسطية والدبلوماسيَّة" في جامعة بن غوريون- بئر السّبع. مقـالة خـاصة.