المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1940

في نطاق "الموضة" الجديدة لخطب الزعماء في الشرق الأوسط، والتي استهلها الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه في القاهرة، ألقى رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل خطاباً في الخامس والعشرين من حزيران الماضي رد فيه على خطابي أوباما ورئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو. وتكمن أهمية خطاب مشعل في أنه عرض الرؤية السياسية الكاملة والمحدَّثة لحركة "حماس"، وحسم بذلك أيضاً الجدل الدائر داخل الحركة ذاتها بين الذين يوصفون بالمعتدلين وأولئك الذين يوصفون بالمتطرفين، لصالح معسكر المعتدلين.

 

ظاهرياً بدت مبادئ وأسس الرؤية السياسية للحركة، كما استعرضها مشعل، غير بعيدة عن المواقف الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات مع إسرائيل منذ انطلاق عملية أوسلو. وفقاً لهذه المبادئ فإن "حماس" مستعدة لقبول حل سياسي بإقامة دولة فلسطينية في حدود العام 1967 وعاصمتها القدس مع حق العودة للاجئين الفلسطينيين. هناك بطبيعة الحال عدد من الفوارق المركزية بين مواقف منظمة التحرير الفلسطينية حسبما تطورت خلال المفاوضات وبين هذه الرؤية التي تتبناها حركة "حماس". فأولاً توافق منظمة التحرير على أن الحل السياسي يشكل نهاية النزاع في حين لا تقبل "حماس" ذلك. وطبقاً لتصريحات أدلى بها مسؤولون في الحركة في مناسبات أخرى، فإنهم يتركون مسألة إنهاء النزاع للأجيال المقبلة.

ثانياً، أبدى الجانب الفلسطيني خلال المفاوضات مرونة فيما يتعلق بشكل التطبيق لجزء من المبادئ، كالاستعداد على سبيل المثال لقبول أن تكون الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية مستندة إلى خطوط 1967 مع تعديلات محدودة ومتبادلة، وهذا يعني ضم كتل المستوطنات القريبة من خطوط 1967 إلى إسرائيل وأن يحصل الفلسطينيون على مقابل مماثل من الأراضي الإسرائيلية في نطاق تبادل أراض. وقد كان الخلاف في جوهره حول حجم الكتل الاستيطانية وهو ما تطلع الفلسطينيون إلى تقليصه قدر ما أمكن.

 

كذلك أيضاً في مسألة اللاجئين، فعلى الرغم من أن المفاوضين الفلسطينيين لم يتنازلوا رسمياً قط عن حق العودة، إلاّ أنهم أبدوا استعداداً لبحث حلول عملية لا تعود في إطارها الأكثرية الساحقة من اللاجئين إلى إسرائيل، وهو ما يستشف أيضاً من تعبير "حل متفق عليه" لمشكلة اللاجئين، في مبادرة السلام العربية. من جهته رفض خالد مشعل قبول كل هذه المرونة في الموقف الفلسطيني، بل عبر عن رفضه أيضاً لمبدأ قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، والذي طرح في خطاب نتنياهو كمطلب مركزي لإسرائيل، هذا في الوقت الذي أبدى المفاوضون الفلسطينيون استعداداً لقبول قيود على تسلح الدولة الفلسطينية العتيدة. كما انضم خالد مشعل إلى الموقف الفلسطيني العام الرافض لمطلب نتنياهو الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية معتبراً إياه مطلباً عنصرياً. كذلك لم يتنازل مشعل عن الكفاح المسلح كوسيلة مشروعة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني.

في السنوات الأخيرة، ومنذ أن دخلت "حماس" كلاعب فاعل إلى الساحة السياسية الفلسطينية الداخلية، كرر متحدثون مختلفون باسم "حماس" هذه الخطوط والمبادئ السياسية مراراً من خلال طرح فكرة "الهدنة" لفترة طويلة، إلا أن ذلك اعتبر موقفاً للتيار المعتدل داخل "حماس"، كما ساد فهم بأن هذه التصريحات موجهة لأغراض خارجية (علاقات عامة) فقط. غير أن مشعل طرح هذا الموقف (في خطاب حزيران) كموقف رسمي لحركة "حماس"، وكان حديثه موجهاً للجمهور الفلسطيني والعربي. من الصعب الافتراض أنه كان سيفعل ذلك من دون موافقة "مجلس الشورى"، الهيئة القيادية العليا في الحركة. ويدحض خطاب مشعل أيضاً التقسيم المألوف بين متطرفي "حماس" المتواجدين في دمشق وبين معتدليها في قطاع غزة. وعلى ما يبدو فإن هناك متطرفين ومعتدلين في المكانين (غزة ودمشق) وأن خالد مشعل نفسه لا ينتمي بالضرورة إلى جناح المتطرفين. ولعل النقطة المهمة هنا هي أنه توجد لدى حركة "حماس" آلية اتخاذ قرارات منظمة، حتى وإن كانت بطيئة وتستند إلى بلورة إجماع. والإجماع الذي تبلور في السنوات الأخيرة داخل الحركة يدور حول المواقف التي عرضها مشعل في خطابه.

المغزى الرئيس هو أن "حماس" مستعدة لقبول عملية تفاوضية مع إسرائيل، مثلما أبدت استعدادها لذلك حين قبلت وثيقة الأسرى والتفاهمات التي أدت إلى إقامة حكومة الوحدة الوطنية في بداية العام 2007. هناك صعوبة بطبيعة الحال في استئناف المفاوضات حول التسوية الدائمة وسط تجاهل كل ما حدث في هذه المفاوضات منذ أن بدأت. من جهة أخرى فإن مواقف "حماس" توفر حيزاً لمرونة معينة للتباحث حول اتفاقيات جزئية لا تلزم الحركة بقبول إنهاء النزاع وتتيح لإسرائيل أيضاً تأجيل اتخاذ القرارات حول المواضيع الحساسة.

لقد استهدف خطاب مشعل مساعدة "حماس" في الصراع الداخلي مع السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس وسلام فياض، وفي الوقت ذاته أيضاً اغتنام الفرصة الناشئة في أعقاب خطاب الرئيس أوباما للحصول على شرعية دولية لـ "حماس" وإقامة حوار مع الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. على صعيد الصراع الداخلي يقدم خطاب مشعل حركة "حماس" للجمهور الفلسطيني على أنها مستعدة للقبول بعملية سياسية (تسووية) ولكن مع التمسك بالمواقف الوطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي يشذ عنها أبو مازن ورجاله. وقد تضمن الخطاب أيضاً الانتقادات والمواقف الهجومية المعتادة على السلطة الفلسطينية وسط التركيز على تعاون وعمل السلطة مع الفريق الأمني الأميركي بقيادة الجنرال دايتون. ويمكن الاستنتاج من ذلك أن نجاح عملية بناء قوات الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية بمساعدة بعثة دايتون يُقلق كثيراً حركة "حماس".

حيال الدول الغربية كان هدف الخطاب الإقناع بأن "حماس" طرف يمكن التحاور معه. إذ يمكن للخطاب أن يسهل على جهات ومحافل في أوروبا الغربية وكذلك داخل إدارة الرئيس أوباما، والتي (أي تلك المحافل) تؤيد الحوار مع "حماس"، في دفع مواقفها قدماً.

في المقابل تجري مفاوضات برعاية ووساطة مصرية بين "حماس" والسلطة الفلسطينية بهدف التوصل إلى اتفاق يتيح إعادة إعمار قطاع غزة. وقد تنازلت الأطراف الثلاثة المشاركة في الحوار في هذه المرحلة عن هدف "المصالحة الوطنية" الشاملة بين "حماس" ومنظمة التحرير الفلسطينية/ حركة "فتح"، وهي تتباحث الآن حول إمكانية إقامة لجنة مشتركة لإدارة قطاع غزة وتمكين الجهات الإقليمية والدولية من ضخ المساعدات التي جرى التعهد بتقديمها لإعادة إعمار القطاع. هذه التسوية تمكن أيضاً من التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى يؤدي إلى إعادة الجندي غلعاد شاليت. وإذا ما توصل الطرفان ("حماس" والسلطة الفلسطينية) إلى اتفاق فإن هذا الأمر سيؤثر بدرجة كبيرة على توجه الأطراف الدولية في موضوع الحوار مع "حماس"، وسيضعف المطلب بضرورة التزام الحركة بالشروط الثلاثة التي حددتها "الرباعية الدولية" وهي: الإعتراف بإسرائيل ونبذ العنف وقبول الاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.

_______________________

(*) الكاتب باحث بارز في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات