يقدّم "المشهد الإسرائيلي" رأيين حول ما بعد أنابوليس لباحثين إسرائيليين. ويكمن القاسم المشترك للمقالين في عدم التعويل على أن يسفر هذا اللقاء عن أي نتائج حقيقية في اتجاه التسوية، لأسباب تعود إلى الأوضاع في إسرائيل وإلى الرؤية الإسرائيلية للتطورات الأخيرة في الجانب الفلسطيني
الإسرائيليون والفلسطينيون بعد "أنابوليس"...
وفقاً لما صرّح به رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، يمكن تقسيم العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين إلى مرحلتين تاريخيتين منفصلتين: قبل أنابوليس وبعده. الأسابيع الأخيرة في الفترة السابقة لـ "أنابوليس" تميَّزت بموجة هائلة من التكهنات المتضاربة حول مسألة: ما هي الغاية أو النتيجة المرجوة من اللقاء وما هي فرص نجاحه؟؟
معظم التكهنات استندت إلى أسس موضوعية هشة للغاية، لكنه كان في وسع المحللين، المحبطين من الضبابية وعدم الوضوح الذي ساد قبل اللقاء، أن يمنوا أنفسهم على الأقل بالأمل في أن ينقشع الضباب بسرعة وأن تنجلي، بعد اللقاء، الأمور على حقيقتها.
هذا الأمل تحقق بدرجة ضئيلة فقط.
يمكن القول إن لقاء أنابوليس دشن عملية جادة في إدارة النزاع. فقد جدد الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني التزامهما بخريطة الطريق التي أعلنت في العام 2003 (والتي تجاهلها الجانبان من ناحية عملية منذ ذلك الوقت) ووافقا على تشكيل لجنة أميركية- فلسطينية- إسرائيلية لتتولى الإشراف على تطبيقها، وهو ما يعزز من فرص تنفيذ الطرفين لالتزاماتهما قولاً وعملاً. علاوة على ذلك فإن مشاركة دول من الشرق الأوسط والعالم في لقاء أنابوليس تؤكد وجود تأييد واسع أكثر للجهود الرامية لإقامة مؤسسات فلسطينية وتقديم مساعدات مالية وأشكال أخرى من المساعدات الهادفة إلى تقوية الرئيس عباس في صراعه ضد حركة "حماس"، وتحويله إلى مُحاوِر يتمتع بهيبة وفاعلية حيال إسرائيل، وفي الواقع فإن الكثير من الغموض ما زال مرتبطاً بهذه المكونات في إدارة الصراع. على سبيل المثال، فيما عدا تعيين الجنرال جيمس جونز كمراقب وحكم أميركي، فإنه لا توجد أية إشارة تبين كيف ستعمل اللجنة بالضبط وكيف ستكون النتائج إذا وجد جونز أن هذا الطرف أو ذاك لا يفي بتعهداته والتزاماته. فضلاً عن ذلك، لا توجد أية معايير واضحة تساعد في تحديد ما يشكل عدم تنفيذ لالتزام معيّن أو التزامات. الأحكام بشأن وقف بناء المستوطنات الإسرائيلية يمكن أن تستند إلى أدلة أو إثباتات تجريبية (رغم أن هناك خلافا فيما يتعلق بالحالات الشاذة المتصلة بـ "النمو الطبيعي" في المستوطنات القائمة)، ولكن الأحكام إزاء ماهية الجهود الصادقة التي يقوم بها الفلسطينيون لوقف التحريض ومنع الإرهاب، ستبقى ذاتية بالضرورة وستأخذ بُعد الاعتبارات السياسية، بما في ذلك اعتبارات الولايات المتحدة.
ربما ستجند أموال إضافية في مؤتمر آخر للدول المانحة، وربما ستعرض مساعدة واستشارة فنية من قبل طوني بلير باسم "اللجنة الرباعية"، لكن أنابوليس لا يقدم أي توجيه جديد فيما يتعلق بالعامل الأكثر حسماً في تحسين أداء الحكومة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، أي مساهمة السلطة الفلسطينية نفسها.
على الرغم من هذه النواقص والثغرات فإن التعهد بإنشاء أطر دعم فعالة أكثر لبناء وتوطيد مؤسسات السلطة يشكل إحدى نتائج أنابوليس الجديرة بالتنويه، ولا سيما على أرضية الفشل في إدارة النزاع خلال السنوات الأخيرة.
في المقابل، ليس من الواضح على الإطلاق بأن أنابوليس أطلق أيضاً عملية حقيقية لتسوية النزاع. فعلى الرغم من موافقة الطرفين على الشروع بمفاوضات متواصلة ابتداء من منتصف شهر كانون الأول الجاري، إلا أنه لم يحدث شيء في أنابوليس يعطي ولو مجرّد تلميح بشأن كيفية التغلب على الفجوات الجوهرية في المسائل الرئيسة، وخاصة الحدود واللاجئين والقدس. وفي الحقيقة فإن إعلان التفاهم المشترك لم ينجح حتى في الإشارة إلى هذه المسائل بأسمائها، وذلك كما يبدو بغية تلافي ملامسة حساسيات سياسية وتجنب تهديد استمرار وجود الائتلاف الحاكم في إسرائيل.
هذه الحقيقة تشير إلى العقبة الكبيرة الأولى التي خيمت فوق المشاركين في لقاء أنابوليس، والمتمثلة في السياسة الداخلية لدى الطرفين. فقد وقف رئيس الحكومة إيهود أولمرت قبل خروجه إلى أنابوليس أمام تهديدات بالانسحاب من جانب شركائه في الائتلاف إذا ما وافق على تقديم تنازلات في هذه المسائل (أو حتى إذا وافق على بحث بعضها)، وهذا الواقع سيواصل تأثيره على مواقف أولمرت في المفاوضات. من جهة أخرى فإن الرئيس عباس يقبع في موقف أكثر هشاشة وضعفاً، نظراً لأنه خسر غزة لـ "حماس" ولأنه يواجه معارضة واسعة في الضفة الغربية أيضاً، ترفض التوصل إلى أي نوع من السلام مع إسرائيل. وقد وجدت هذه المعارضة تعبيراً مكثفاً لها في المظاهرات الصاخبة ضد مشاركة عباس في مؤتمر أنابوليس والتي (أي المظاهرات) يمكن أن تكون فقط محفزاً لشهية أنواع أخرى من النشاطات، ومن ضمنها تصعيد "الإرهاب"، التي قد تحاول حركة "حماس" والأطراف الراعية لها القيام بها، كي تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على عدم جدوى أو فائدة أنابوليس.
لعل هذه الهشاشة السياسية الداخلية (لدى إسرائيل والجانب الفلسطيني) تفسر أيضاً إخفاق أنابوليس في خلق أجواء مصالحة حقيقية. وعلى الرغم من أن أولمرت عبر عن تفهمه لمعاناة الفلسطينيين، فإن الرئيس عباس لم يرغب، أو لم يكن قادراً على الرد عليه بنفس العملة قاصراً حديثه على أقوالٍ مطمئنة بشأن مزايا السلام وتكرار المطالب الفلسطينية القديمة المعروفة.
لقد نجح لقاء أنابوليس في عدد من المهمات والوظائف الأخرى، ومن ضمن ذلك ترميم المكانة المركزية للولايات المتحدة في دبلوماسية الشرق الأوسط، وتجنيد جوقة كبيرة من الدول والمنظمات، غابت عنها إيران وانضمت إليها سورية، ولو بصورة خجولة مترددة. هذه الإنجازات لا يجوز الاستخفاف بها- حتى لو ثبت أنها إنجازات مؤقتة أو آنية- وذلك في ضوء الجهود المتواصلة لتنظيم رد على التحدي الذي تقوده إيران ضد النظام الإقليمي والدولي.
ولعل هذه الجهود لها وزن إستراتيجي أكثر من مجرد إحراز تقدم على المسار الإسرائيلي- الفلسطيني. بيد أنها تظل ثانوية بالنسبة لما كان يشكل ظاهرياً بؤرة المؤتمر أو نقطة تمحوره: السعي لإحراز اتفاق سلام إسرائيلي- فلسطيني من خلال المفاوضات. وخلافاً لجهود ومساع سابقة لم يرد في هذه المرة ذكر أو تحديد موعد نهائي لاستكمال المفاوضات، حيث استعاضوا عن ذلك بالالتزام بمحاولة للتوصل إلى اتفاق حتى نهاية العام 2008. ولعل ذلك يعكس الإقرار بعدم منطقية التحديد المسبق للفترة الزمنية المطلوبة من أجل استكمال المفاوضات. وهذا يعكس بالتأكيد تقديراً سليماً لمدى جسامة وكبر المهمة ومدى محدودية الفهم بشأن كيفية إنجازها.
______________________
* باحث كبير في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصة.
ديناميكية ما بعد "أنابوليس"- "حماس" كلاعب أساس...
بقلم: عنات كورتس *
لعبت حركة "حماس"، التي تغيب ممثلوها عن مؤتمر أنابوليس، دوراً مهماً في تمهيد الطريق أمام انعقاد المؤتمر. لقد جسدت سيطرة الحركة على قطاع غزة تعاظم قوة المعسكر الإسلامي المتشدد في الساحة الفلسطينية، ومن هنا اعتبرت بمثابة تهديد. بيد أن هذا التطور خلق تمييزاً واضحاً بين المعسكر الفلسطيني المؤيد للحل القائم على دولتين وبين المعارضة التي تناضل من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ولذلك اعتبر هذا الأمر أيضاً بمثابة فرصة سانحة. فالعملية السياسية التي دشنها لقاء أنابوليس تعكس رغبة في تقليص التهديد وتعظيم طاقة الفرصة الكامنة. وقد اعتبر الشرخ الذي تعرضت له السلطة الفلسطينية مدخلاً لعزل "حماس" واستئناف الحوار بين "فتح" وإسرائيل، وفرصة لدفع تحقيق تفاهمات إسرائيلية- فلسطينية سواء كأهداف في حد ذاتها أو كوسائل لبلورة جبهة مضادة لمحور الدول والمنظمات الإسلامية الذي تشكل حركة "حماس" جزءاً منه. هذه التطلعات تشاطرت فيها الولايات المتحدة وباقي أطراف الرباعية الدولية إضافة إلى الدول الأعضاء في الجامعة العربية، والتي رأت في استئناف العملية السياسية على المسار الإسرائيلي- الفلسطيني وسيلة لدفع "مبادرة السلام العربية".
دور "حماس" في إملاء الأجندة الإسرائيلية- الفلسطينية بشكل خاص والأجندة الإقليمية بشكل عام لم يقتصر على الدور الذي لعبته الحركة في حفز العملية التي قادت إلى أنابوليس. فبالإضافة إلى ذلك، باستطاعة "حماس" تأجيل مناقشة القضايا الجوهرية- ولعل ذلك يخدم معارضي التسوية في الجانبين- وبالتالي تشويش النية لترجمة روح أنابوليس، كما تجلت في الخطاب الذي ألقاه الرئيس بوش في جلسة افتتاح المؤتمر، بتحقيق تقدم جوهري نحو التسوية.
وقد شكلت التحركات التي قامت بها "حماس" تمهيداً لمؤتمر أنابوليس، إضافة إلى انتقادات متحدثيها اللاذعة لمضامين الخطب التي ألقيت خلال المؤتمر، دليلاً على ما تستشعره الحركة من تهديد لمكانتها وطريقها، والذي نبع من التصميم الأميركي على دفع العملية السياسية قدماً ومن التأييد الإقليمي لهذه العملية والذي عبر عن نفسه في المشاركة العربية الواسعة في المؤتمر. كذلك لم يكن باستطاعة زعماء "حماس" تجاهل جدية نوايا رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في إخراج العملية السياسية من الطريق المسدود الذي تراوح فيه منذ عدة سنوات. عقب التخلي عن خطة الانفصال (التجميع/ الانطواء) الأحادية الجانب، تجدد في إسرائيل الأمل في أن تحريك العملية السياسية سيساعد في مواجهة التحديات الأمنية الآنية، والتحديات الأمنية والديمغرافية والسياسية بعيدة الأمد. "سيأتي يوم ينهار فيه الحل القائم على دولتين[...] إذا ما حصل ذلك، ستكون دولة إسرائيل منتهية"- هكذا قال رئيس الحكومة إيهود أولمرت في ختام لقاء أنابوليس.
حركة "فتح" من جهتها لديها حاجة ملحة جداً لعملية سياسية (سلمية). فهذه العملية تشكل الأساس القانوني والسياسي لإدعائها بالزعامة الوطنية. "هذه الفرصة لن تتكرر"- قال الرئيس عباس في كلمته أمام المشاركين في أنابوليس، وقد كان كلامه هذا موجهاً كما يبدو لأبناء شعبه بشكل خاص، وذلك كنوع من التهيئة للتنازلات المطلوبة من أجل دفع التسوية.
ما الذي ستفعله "حماس" لمنع أولمرت وعباس من التقدم نحو حل النزاع؟
سوف تسعى الحركة أيضاً إلى تحويل التهديد إلى فرصة، وستحاول تعزيز مكانتها على حساب حركة "فتح" عن طريق عرقلة وإفشال العملية التي أطلقها مؤتمر أنابوليس. لن تستطيع "حماس" إثارة عصيان مدني في "المناطق"، ذلك لأن طاقة الجمهور الفلسطيني استنزفت منذ وقت بعيد، لكنها ما زالت تمتلك وسيلة مُجَرَّبة لإحباط أية انطلاقة في العملية السياسية، وهي تصعيد جبهة المقاومة ضد إسرائيل وجبهة الصراع الداخلي في الساحة الفلسطينية. ومن وجهة نظر "حماس" فإن ذهاب إسرائيل وحركة "فتح" إلى أنابوليس وحد هاتين الجبهتين في جبهة واحدة.
فتصعيد المقاومة ضد إسرائيل من شأنه أن يحرج حكومة "فتح"، وكما حدث في الماضي فإن الهجمات ستكون دليلاً على ضعف حركة "فتح" وستؤكد صحة التحذيرات التي أطلقتها مؤخراً محافل أمنية إسرائيلية والقائلة بأنه في ضوء انعدام الاستقرار الأمني لا يمكن التقدم في مسار مباشر نحو التوصل إلى تسوية. كذلك فإن من شأن الصدامات بين نشطاء فتح وحماس، والتي من المتوقع تصاعدها كلما ازدادت وتيرة الجهود الرامية للتقدم في العملية السياسية، أن تعيق تنفيذ الخطط الهادفة إلى إعادة تنظيم الأجهزة الأمنية الخاضعة لسلطة الرئيس عباس وتحسين قدرتها على مواجهة عناصر المعارضة المتطرفة.
من جهة أخرى فإن تصعيد العنف من جانب حركة "حماس"، والتي تعتمد على الأسلحة والوسائل القتالية المهربة عبر الحدود الجنوبية لقطاع غزة، سيستمر في إذكاء التوتر بين إسرائيل ومصر، بما يتناقض مع التغيير في المناخ الذي استهدف لقاء أنابوليس إحداثه.
إن وقوع موجة من الهجمات سيجعل من الصعب على إسرائيل التمسك بنيتها المعلنة القيام بخطوات تخفف العبء الواقع على كاهل سكان "المناطق" وتساعد أبو مازن في حشد الدعم والتأييد للعملية السياسية وفي مواجهة المعارضة الإسلامية.
تشديد الحصار والإغلاق على "المناطق" رداً على هجمات، واستمرار إغلاق قنوات التصدير (من قطاع غزة)، وعدم إزالة الحواجز العسكرية في الضفة الغربية، كل ذلك من شأنه أن يدعم ويعزز إدعاء معارضي العملية السياسية، وفي مقدمتهم حركة "حماس"، بأن إسرائيل لا تتجه إلى التسوية، الأمر الذي سيبرر تأييد المواقف المتشددة للحركة.
على أية حال فإن أي تصعيد في الهجمات وما سيترتب عليه من رد إسرائيلي قاس، سيؤدي إلى تجميد الاتصالات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وبذلك ستعود العملية السياسية إلى نقطة اللامخرج التي حاولت الإدارة الأميركية إخراج العملية منها بواسطة اللقاء الدولي في أنابوليس.
في هذا السياق يطرح أيضاً السؤال: ما هي فرص التوصل إلى تفاهم جيد بين حركتي "فتح" و"حماس"، ربما في إطار حكومة وحدة وطنية، كالتي سعت مصر والسعودية إلى إقامتها كجزء من مساعيهما لدفع "مبادرة السلام العربية"؟
أثناء سيطرة "حماس" على قطاع غزة فُتِحَ حساب دامٍ بين حركتي فتح وحماس. حالياً تبدو الفرصة لإعادة المياه إلى مجاريها بين الحركتين ضعيفة أكثر من أي وقت مضى. وحتى لو حل هدوء في الصراع بين الحركتين وتجدد التنسيق بينهما، فإن ذلك لن يكون بالضرورة إشارة تؤذن باستئناف العملية السياسية. يذكر أن الرئيس عباس، وفي سبيل بلورة مبادئ لحكومة الوحدة الوطنية، تراجع عن مطلبه بأن تمتثل "حماس" للمطالب التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية كشرط للحوار. بناء على ذلك ستكون العملية السياسية ضحية للصراع بين فتح وحماس وفي الوقت ذاته ضحية أيضاً للمصالحة بين الحركتين (والتي تبدو فرصها معدومة حالياً).
معنى ذلك هو أن "حماس" هي التي سترجح كفة العملية السياسية، وفي كل الأحوال لجهة السلب والتعطيل. ولأجل حرمان "حماس" من هذا الإنجاز يتعين على قوى "فتح" العمل ضدها بحزم فيما يتعين على الحكومة الإسرائيلية أن تتحلى بضبط النفس حتى في حال حصول تصعيد في الهجمات. لأجل ذلك تحتاج كل من "فتح" وإسرائيل إلى حوافز متبادلة وطاقات سياسية، وهي عوامل من المشكوك فيه أن تكون متاحة أو متوفرة.
______________
* باحثة في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمة خاصة.