تنشغل المحكمة الإسرائيلية العليا في السنوات الأخيرة مراراً وتكراراً بالتماسات ضد جدار الفصل، الجدار الذي قررت محكمة "الأغيار" [محكمة العدل الدولية في لاهاي] أن إقامته تشكل خرقاً للقانون الدولي. القرارات التي تصدرها المحكمة (الإسرائيلية) العليا تقضي أحياناً بزحزحة مسار الجدار قليلاً، وأحياناً لا...
ما يحدث هنا هو عودة حرفية تقريباً على قصة المستوطنات: إذ تطرح مجدداً الاعتبارات العسكرية وأن "الأمر مؤقت"، والتوازن بين الاحتياجات العسكرية والاعتبارات الإنسانية أو حتى اعتبارات حقوق الإنسان. غير أن النتيجة المتراكمة لهذه القرارات والأحكام هي مراجعة لفكرة الفصل، وإضفاء شرعية على الاحتلال بواسطة سلطة القانون، وتكريس الجدار كأمر واقع وفي الوقت ذاته تصوير المعارضة للجدار كمسألة فنية، غير مبدئية. انتهى الجدل والنقاش والمسألة باتت الآن مسألة مسار الجدار فقط، مسألة موضعية: يفقد الناس بيوتهم وحقولهم ومصدر رزقهم ولكن .. بصورة موضعية وحسب! هناك أناس لا يستطيعون زيارة أقاربهم، وأولاد لا يستطيعون الذهاب إلى مدارسهم، ولكن... بشكل محدود!
قبل عشرين عاماً كتبت عن قرار المحكمة العليا بشأن مستوطنة "ألون موريه" في العام 1979. قلت وقتئذٍ إن هذا القرار الدراماتيكي بالذات- والذي أوعز بإخلاء مستوطنة وأبهج قطاعاً واسعاً من الجمهور الذي تعرى على ضوء سلطة القانون ووليدها الغض، الاحتلال المتنور- كشف الدور الذي لعبته المحكمة الإسرائيلية العليا في تطبيع وتبييض وإطالة عمر الاحتلال.
في قضية "ألون موريه" لم يوعز قضاة المحكمة بتفكيك المستوطنة وحسب (أمروا بنقلها إلى تلة مقابلة) وإنما "لقنوا السلطات درساً" في كيفية مصادرة الأراضي كما يجب، وكيف يجب عرض ضرورة المستوطنة أمام المحكمة العليا حتى تتمكن هذه الأخيرة من تأهيلها وشرعنتها.
وهكذا، لم تقم في الواقع "ألون موريه" واحدة، وإنما بات هناك منذ ذلك الوقت ألف "ألون موريه" تلطخ وتشوه وتدوس تلال الضفة الغربية واحدة تلو أخرى.. وليس هذا وحسب، بل وصار لنا هناك جامعة أكاديمية أيضاً (المقصود الكلية التكنولوجية في مستوطنة أريئيل والتي قررت حكومة إيهود أولمرت مؤخراً تحويلها إلى جامعة- ملاحظة من المحرر) ومن يتذكر اليوم كيف عملت المحكمة الإسرائيلية العليا من أجل شرعنة المستوطنات؟
تعالوا بنا نستذكر بعضاً مما طواه النسيان.
إن أحد المسوغات القانونية (التي استخدمتها المحكمة) والذي يُشبه المسوغ الذي يستخدم الآن في تبرير جدار "الفصل"، تمثل في ما وصف على أنه "استيلاء مؤقت".
مسوغ قانوني آخر، لكنه مركزي، هو أن للمستوطنات أهمية أمنية.. وهذا بدعوى أن السكان المدنيين اليهود (المستوطنين) القاطنين هناك (في الأراضي الفلسطينية المحتلة) يساهمون في "الهدوء الأمني" ويقومون بأدوار مهمة في حفظ الأمن و"توفير الإنذار".
ثمة أشياء يصعب تصديقها؟! فيما يلي مقطع من قرار المحكمة الإسرائيلية العليا (التماس 606، 610/78) والذي بحث في إقامة مستوطنتين، واحدة في منطقة رام الله، والثانية في منطقة نابلس، وجاء في نص قرار الحكم الذي أُتخذ في هيئة مؤلفة من خمسة قضاة:
"لا خلاف على أنه إذا كانت إقامة المستوطنة لا تلبي احتياجات عسكرية، فإنه لا يجوز تبريرها من ناحية القانون الإسرائيلي... لكنه يتضح من بيان الجنرال أورلي أن مستوطنة مدنية مثل بيت إيل تهدف إلى الاندماج في نظام الدفاع الحيزي الذي يشكل جزءاً من الانتشار العسكري للجيش الإسرائيلي... من ناحية الاعتبار الأمني الخالص، لا يجوز التشكيك في أن تواجد مواطني الدولة-القوة- المسيطرة في منطقة مُدارة من المستوطنات- حتى لو كانت مستوطنات مدنية- يسهم مساهمة كبيرة في الوضع الأمني في ذات المنطقة ويسهل على الجيش القيام بمهمته. لا حاجة لأن يكون المرء خبيراً في الشؤون العسكرية والأمنية حتى يفهم أن العناصر التخريبية تعمل بسهولة أكبر في منطقة مأهولة فقط بسكان لا مبالين أو متعاطفين مع العدو، مما هو الحال في منطقة يتواجد فيها أيضاً أناس يمكن أن يراقبوا هذه العناصر ويبلغوا السلطات عن أية حركة مشبوهة. فلدى هؤلاء لن يجد المخربون مأوى أو مساعدة.. الأمور بسيطة ولا حاجة للتفصيل... إلى ذلك فإن المحكمة تتبنى الرأي [...] القائل إن الاستيطان اليهودي في منطقة مُدارة... يخدم احتياجات أمنية حقيقية".
صحيح أن هذا الأمر قيل مراراً، لكن لا بد من القول مجدداً: في مقابل الاحتلال والمنطق والمسوغات العسكرية التي تغلفه، انهارت حقوق الإنسان في المحكمة العليا وشوهت بشكل لا يوصف.
اليوم، وعندما يجرؤ أحد ما على القول إن إقامة الجدار تشكل خرقاً لحقوق الإنسان، يسارعون إلى التذرع ضده: "وماذا مع حقوق الإنسان الخاصة بنا؟!". هذا السؤال يشهد على انعدام فهم مطلق لمصطلح حقوق الإنسان، المنبثق في مجمله عن فكرة وجوب عدم ربط حقوق الناس بقومية أو دين أو لون أو عرق...
في مراسيم أقيمت في كانون الثاني 2002 صرّح القاضي أهارون باراك بالأقوال التالية:
"هناك قضاة وأساتذة في القانون ومحامون من سائر أنحاء العالم الغربي يتوجهون إلينا بالسؤال: كيف واجهتم الإرهاب؟ كيف نجحتم في محاربة الإرهاب بفاعلية وفي الحفاظ على صورتكم كمجتمع ديمقراطي؟ وفي الحقيقة لم تكن المهمة سهلة.. لم ننجح فيها دائماً. ولكن بنظرة شمولية يخيل أننا اجتزنا الاختبار".
هذه الأقوال أثارت استغرابي. فما مغزى صياغة السؤال بطريقة تضع مسألة مواجهة الإرهاب كنقطة انطلاق؟ فالسؤال هو من ناحية عملية: "كيف واجهتم الإرهاب في ضوء قيود الديمقراطية؟" ولكن أليس من الحري أن يكون السؤال "كيف دافعتم عن حقوق الإنسان؟"، "كيف منعتم المس بحقوق الإنسان في ضوء دواعي ومتطلبات الأمن؟" أو ليس آخرون هم الذين يتولون محاربة الإرهاب، ولكن من الذي يمكنه، إن لم تكن المحكمة، أن يخوض حرب حقوق الإنسان؟ واقتبس القاضي باراك في ختام حديثه من أقوال القاضي لانداو في قضية "ألون موريه": "في الواقع، صعبة هي مهمة المحكمة في فترة توتر وإرهاب. ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل، فهذه هي مهمتنا وهذا هو واجبنا كقضاة".
أود أن أُذكِّر أيضاً ببعض مما تم عمله، عدا عن الأحكام واللغة الدستورية واليد التي لا ترتعد.. فالعلاقات بين المحكمة العليا وبين الاحتلال تحولت من وراء الكواليس إلى علاقات موضوعها ليس حقوق الإنسان وإنما وساطة بيروقراطية بين الفلسطينيين وسلطات الحكم الإسرائيلية.
ففي أوائل الثمانينيات أُغرقت المحكمة العليا بالتماسات ضد هدم البيوت. هذه الالتماسات تنطوي في داخلها على تاريخ قضائي كامل، قصص حياة عدد غفير من الناس، نظرية قضاء قوامها الظلم والإجحاف وشرعنة هدم حياة أناس أبرياء بجريرة خطايا أو ذنوب- واكتفوا فيما بعد بشبهة لارتكاب ذنوب- أحد أبناء عائلات هؤلاء الناس، أُتهم بالضلوع في ما وصف في ذلك الوقت بـ "نشاط تخريبي معاد". كان الملتمسون يتكدسون مذهولين في غرف ومكاتب المحاميتين ليئا تسيمل وفليتسيا لانغر، سعياً لإنقاذ أبنائهم وبيوتهم. وكانت المحاميتان ترحبان بهم وتواسيانهم قبل أن تنسخا على ماكينة الستانسل دعوى "التماس آخر" تستبدل فيها الأسماء والأماكن فقط. ولكن الموضوع "منته ومغلق من ناحية قانونية" كما أكدت ليئا تسيمل ولاحقاً أيضاً المحامي أفيغدور فيلدمان. لا أمل. فالالتماس ما هو عملياً إلا مجرد نموذج شكوى لشعبة شكاوي الجمهور. وهذه الشعبة تُدعى، عندما يدور الحديث عن الجمهور الفلسطيني "شعبة الالتماسات في النيابة العامة". هناك يبحث الالتماس بشكل تمهيدي، وفقط من خلال هذه الشعبة ربما تتاح للملتمسين إمكانية التحدث مع الكابتن "رزق"، عميل جهاز مخابرات "الشاباك" الذي يعمل تحت إمرة المقدم الحنان...
الآن أيضاً يعيد التاريخ نفسه. ففي سنوات الألفين لا تتناول الالتماسات هدم بيوت وإنما تتناول أشخاصًا "ممنوعين من الدخول". وكما كان في تلك الفترة، الآن أيضاً تُغرِق مثل هذه الالتماسات المحكمة. المحامية ياعيل باردا، التي تتولى شكاوي مثل هؤلاء "الممنوعين"، تقول: رغم أنه لا يوجد الآن مثل هذا الكابتن رزق، إلا أن المقدم بيني لا يوافق على الدخول، وليس هناك من يرد على المكالمات الهاتفية، ليس هناك عنوان يمكن للإنسان التوجه إليه والحصول على جواب كإنسان له حقوق. وكما كانت عليه الحال وقتئذٍ، الآن أيضاً توجد "معلومات سرية".. الالتماسات التي ترفع اليوم إلى المحكمة العليا، لا تؤدي في أحسن الأحوال إلا لجعل "الكابتن رزق" يرد على التليفون، وليس أكثر من ذلك.
هناك توسلات، وهناك تنازلات بسيطة هنا وهناك، تتحقق بوساطة شعبة الالتماسات التي تسعى أحياناً إلى توفير جهد على المحكمة إن لم يكن تجنيبها الخزي والعار. سوف تقولوا: حسناً، فهذا رغم كل ذلك شيء ما لا بأس به. صحيح، ولكن ما هي المسافة بين هذا الـ "شيء ما" وبين حصن حقوق الإنسان (الدور المفترض للمحكمة العليا)؟! يبدو أن المسافة مزروعة بالحواجز والتفتيشات الفجائية، والتي تسمى (بلغة القانون والمحكمة) "اعتبارات أمنية" و"احتياجات مؤقتة". ثمة هنا منطق إداري- بيروقراطي- وظيفي يشكل الإنسان كـ "مُحتاج" عديم الحيلة، عالق في عقدة أنظمة وأوامر وتعليمات قانونية، متاهة من الأسرار والتهديدات وقوى غير مرئية، وكل ذلك في إطار سلطة القانون.. ولا مكان هنا لحقوق إنسان.
____________________________
(*) هذا المقال مستند إلى محاضرة ألقاها أستاذ الحقوق، د. رونين شامير، خلال ندوة نظمها "معهد فان لير" حول موضوع "المحكمة العليا والسلطة" (المقال ترجمة خاصة بـ "المشهد").