المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1601

شكلت سيطرة حركة "حماس" على قطاع غزة تطوراً مهماً، غير أنه لا يغيّر بصورة جذرية التحدي الذي تواجهه إسرائيل. في السابق كان يمكن التشكيك في إمكانية تحقيق الصيغة السائدة "دولتان لشعبين" وفي فرصة إيجاد حل للنزاع في المستقبل القريب. الحديث عن الفرصة الذهبية التي مثلت أمامنا وعن الحاجة لدعم (الرئيس الفلسطيني) محمود عباس "أبو مازن"، حديث واهم إذ أنه لا تتوفر أية فرصة في أن يتحول (أبو مازن) إلى زعيم قوي قادر على إنقاذ الفلسطينيين من استمرار الانحدار في منزلق "الدولة الفاشلة" التي أقاموها. لذلك، فإن الكفاح الفلسطيني المسلح ضد إسرائيل سوف يستمر.

 

 

الشيء الوحيد الذي يمكن لإسرائيل عمله هو الحد من الأضرار في نطاق إستراتيجية لإدارة النزاع، ومحاولة كسب الوقت لإتاحة المجال أمام ظهور خيارات أخرى.

 

 

السلطة الفلسطينية كـ "دولة فاشلة"

 

 

ظهر جلياً أن السلطة الفلسطينية برئاسة (الرئيس الراحل) ياسر عرفات كانت بمثابة "دولة فاشلة"، أو نوع من الدول التي تتميز بانعدام الاحتكار لاستخدام القوة، وغياب القانون والنظام، وانعدام القدرة على إشاعة مناخ قانوني يسهم في دفع المبادرات الاقتصادية والتجارة والاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى مصاعب في الاستجابة للاحتياجات الأساسية للسكان في ميادين التعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى.

 

محمود عباس ورث منصب عرفات، وفي كانون الثاني 2005 انتخب لرئاسة السلطة الفلسطينية. تعهد عباس بإجراء إصلاح في أجهزة الأمن وبتطبيق القانون والنظام. لكن وبسبب ضعفه، ضم عباس عناصر من الميليشيات إلى أجهزة الأمن الرسمية. ولم ينجح في توحيد هذه الأجهزة أو في تعيين ضباط جدد ومخلصين. ومن ناحية عملية فقد استمرت حالة الفوضى دون توقف. بعد انسحاب إسرائيل في صيف العام 2005 ضيع عباس أيضاً الفرصة في فرض القانون والنظام في قطاع غزة. إن أبو مازن هو رجل قليل الحيلة لا يمكن الاعتماد عليه. وقد أمسى من الواضح أنه يتجه نحو التوصل إلى تفاهم مع حركة "حماس" في غزة، كما أنه لا يعمل من أجل تجسيد مبدأ احتكار استخدام القوة في المناطق الباقية تحت سلطته.

 

حتى في غزة الخاضعة لسيطرة "حماس"، من المشكوك فيه أن نشاهد محاولة لفرض القانون والنظام. الاختبار الحقيقي لحركة "حماس" في غزة هو سحب أسلحة حركة "الجهاد الإسلامي" وعدد من العائلات المسلحة وجمع الأسلحة الوفيرة الموجودة في حوزة السكان. إن تنفيذ هذه الخطوات هو الذي سيحدد في نهاية المطاف إذا ما كانت ستقام في قطاع غزة دولة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة.

 

التقدير هو استمرار النزاع

 

 

من ناحية إسرائيل فإن تعزيز مكانة حركة "حماس" في النظام السياسي الفلسطيني يعني في المقام الأول، استمرار النزاع. فالنفوذ المتزايد للإسلاميين سيفضي حتماً إلى ازدياد تصلب مواقف الفلسطينيين تجاه إسرائيل، وسيجعل من الصعب أكثر التوصل إلى اتفاق.

 

"حماس" ترفض من ناحية أيديولوجية الاعتراف بإسرائيل، وهي مصممة على تدميرها. من هنا لا يوجد أي سبب للاعتقاد بأن إحالة صلاحيات سلطوية إلى إسلاميين متطرفين سيؤدي إلى اعتدال وتسليم بوجود إسرائيل. فما الذي يدعو "حماس" إلى الاعتدال وهي في السلطة، في الوقت الذي تشكل فيه أيديولوجيتها سبب ومبرر وجودها كحركة؟ فنظام "طالبان" (في أفغانستان) والنظام الإيراني لم يصبحا أكثر اعتدالاً، وكذلك الحال بالنسبة لنظامي صدام والأسد. وحركة "حماس" لم تغير بعد قيد أنملة من موقفها حيال إسرائيل. اقتراح "حماس" بتطبيق وقف لإطلاق النار أو "هدنة" طويلة الأمد استهدف بالدرجة الأولى كسب الوقت، من أجل تثبيت أقدامها في السلطة، ومنع محاولات ترمي إلى تقويض سيطرتها في غزة. إن المحك الحقيقي لتقدير نوايا الحركة ليس في ما يقوله زعماؤها لإسرائيل ودول الغرب، وإنما ما يعلمونه لأبنائهم عن اليهود ودولتهم. وإذا ما أفلحت "حماس" في توسيع سلطتها لتمتد إلى "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) فإنها ستقيم هناك أيضاً نظاماً على غرار نظام "طالبان"، الذي يتعارض مع سعي الفلسطينيين للالتحاق بركاب التقدم والعصرية. وبناء دولة "حماستان" سيحكم على الفلسطينيين بالتخلف والفقر، إلى جانب التجنيد السهل لإرهابيين متعصبين.

 

من هنا فإن الاستنتاج الذي يمكن اعتباره حتميًا هو أن "مسيرة السلام" انتهت بعد أن قفزت "حماس" إلى موقع الصدارة في النظام السياسي الفلسطيني. سيواصل الكثيرون دفع ضريبة كلامية لـ "عملية السلام"، لكن المساعي نحو حل تدريجي للنزاع، من قبيل "خريطة الطريق" أو "إيجاد أفق سياسي"، ستفشل كما يبدو في المستقبل القريب. كذلك فإن فرص نجاح المحاولة للالتفاف على التدريجية البنيوية في "خريطة الطريق" والتفاوض مع "أبو مازن" على اتفاق شامل، تعتبر أقل حظاً بسبب الخلافات غير القابلة للجسر بين مطالب الجانبين، وبسبب عجز الزعامة الفلسطينية عن تطبيق تسوية يتم التوصل إليها عبر المفاوضات. و"الدولة الفاشلة" ليس لها عنوان إستراتيجي قادر على التفاوض وعلى الوفاء بالتزاماته في ذات الوقت.

 

الإستراتيجية المرغوبة

 

 

الآن بدأ يتضح أكثر فأكثر أن التسوية على أساس نموذج دولتين لشعبين غير قابل للتحقق وذلك بسبب عدم قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على التسليم بتسوية تاريخية مع الحركة الصهيونية، وبسبب فشلها في إقامة وإدارة دولة قابلة للحياة. إن الشرخ الناشئ في الساحة الفلسطينية في أعقاب سيطرة "حماس" على قطاع غزة يعزز فقط الاتجاهات السلبية في صفوف الفلسطينيين. وستضطر إسرائيل لمواصلة التعايش مع الأبعاد السلبية للتطرف القومي والإسلامي بين الفلسطينيين.

 

ليس في وسع إسرائيل، مهما كانت نواياها حسنة ومهما أبدت من "سخاء" في تقديم تنازلات إقليمية، أن تفعل شيئاً من أجل دفع قيام دولة فلسطينية مستعدة للعيش إلى جانبها بسلام في المستقبل القريب. كما أن قدرة إسرائيل والمجتمع الدولي على التأثير على الطريقة التي يدير بها الفلسطينيون شؤونهم هي قدرة ضئيلة للغاية بل ومعدومة.

 

ولسوء الحظ لا يوجد حل فوري جاهز لكل نزاع طويل، وفي غياب طرف مستعد لتقديم التنازلات اللازمة للتوصل إلى اتفاق عبر التفاوض، فإن الإستراتيجية الأكثر ملاءمة بالنسبة لإسرائيل هي إستراتيجية "إدارة النزاع" وعدم هدر أية طاقات أو جهود من أجل تسوية.

 

خلاصة جوهر هذه الإستراتيجية هي التقليل إلى أبعد حد من تكلفة النزاع المسلح والمحافظة على حرية المناورة السياسية. أما المكون العسكري فله هدف متواضع في هذه الإستراتيجية: ضرب وتعطيل قدرة الخصم على إيذاء ومضايقة الدولة اليهودية. إلى ذلك فإن هذه الإستراتيجية تهدف إلى كسب الوقت على أمل أن يأتي المستقبل ربما ببدائل أفضل. وتتطلب إستراتيجية إدارة النزاع سلسلة من الوسائل العسكرية والدبلوماسية المدمجة والمتسقة جيداً بغية التصدي للإرهاب الفلسطيني، والضغوط الآتية من الساحة الدولية، إضافة إلى الحاجة للمحافظة على التكاتف الاجتماعي داخل البيت الإسرائيلي أثناء نزاع مستمر وطويل.

 

 

الانتقال إلى نموذج جديد

 

 

إن الإدراك لحقيقة أن السلطة الفلسطينية تشكل فشلاً ذريعاً هو الكفيل فقط بإفساح المجال أمام ظهور وتبلور صيغة جديدة تضع حداً لأوهام السياسة الخارجية الإسرائيلية التي وقف "الخيار الفلسطيني" في مركزها خلال العقدين الأخيرين. ولعل ملامح التسوية المستقرة التي ستحل مكان "الخيار الفلسطيني" قد أخذت تشق طريقها. إذ من المحتمل أن يتوصل المصريون، رغم مخاوفهم، إلى استنتاج بأن عودتهم للسيطرة في قطاع غزة، ولئن كانت بطريقة غير مباشرة ولفترة محدودة، ستكون شراً أهون من ظهور "حماستان" في القطاع.

 

وقد بات تواجدهم وتأثيرهم المحدود ملموساً هناك بعد الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة (في آب 2005). وفيما يشبه ذلك، من المحتمل أن يقرر الأردنيون أن كياناً فلسطينياً "جهادياً" في الضفة الغربية يهدد دولتهم بما يستدعي عدم ترك المسألة دون معالجة. ولعل إحياء فكرة الاتحاد مع الضفة الغربية، لا تعوزها قوة جاذبية في صفوف الفلسطينيين المتعطشين للهدوء والاستقرار. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن قرابة نصف الفلسطينيين يوافقون على وجوب حل السلطة الفلسطينية. كذلك فإن أعداداً متزايدة من الفلسطينيين باتت تشكك في نضجهم السياسي اللازم لبناء دولة، الأمر الذي يخلق انفتاحاً نحو اتجاهات لا تستند إلى الحركة الوطنية الفلسطينية. إن إعادة توجيه قطاع غزة مجدداً باتجاه مصر وإعادة ربط الضفة الغربية بالمملكة الأردنية يمكن أن يتحولا إلى طريق أفضل لمواجهة الحركة الوطنية الفلسطينية من إعطاء الفلسطينيين دولة.

 

وبغية التغلب على جمود التفكير الذي عفا عليه الزمن هناك حاجة لأن تعزف الولايات المتحدة بدورها أيضاً عن طريقة التفكير السائدة في المنظومة الدولية. هذا الأمر يتطلب بذل جهود من جانب إسرائيل لإقناع القائمين على السياسة الخارجية الأميركية بعقم صيغة دولتين لشعبين، وبضرورة تفحص طرق جديدة لمواجهة فشل الحركة الوطنية الفلسطينية. صيغة جديدة- والتي يمكن ربما تسميتها "التوجه الإقليمي"- لا تقترح بالضرورة حلاً يضع حداً لكل العنف، ربما لن يتلاشى جزء كبير من الغموض والضبابية فيما يتعلق بمسائل السيادة والحدود، ولكن إشراك دول مسؤولة، مثل الأردن ومصر، يعتبر على الأقل محاولة واقعية لمواجهة نتائج أحلام سياسية غير قابلة للتحقق.

 

وقد يكون من الممكن أيضاً اجتذاب المملكة السعودية إلى التفكير الجديد، بعد ما تجاهل الفلسطينيون جهود الوساطة التي بذلها السعوديون في اتفاق مكة. ربما هناك إمكانية لتوجيه مبادرة السلام العربية باتجاه دفع الدول العربية لتأخذ على عاتقها مسؤولية أكبر من مصير "عرب المناطق".

 

على أية حال فإن "الخيار الفلسطيني" بات ضربًا من أحلام اليقظة ووصفة لانعدام الاستقرار الإقليمي.

 

__________________________

 

* بروفيسور في العلوم السياسية ومدير "مركز بيغن- السادات للدراسات الإستراتيجية" في جامعة بار- إيلان. المقال ترجمة خاصة.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات