يسود شبه إجماع بين المعلقين الاسرائيليين على أن تصريح رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، الأكثر جدة، أول من أمس الأحد، ومؤداه أنه عاكف على إعداد خطة جديدة بشأن "فك الارتباط"، سيميط اللثام عنها بعد ثلاثة أسابيع، هذا التصريح الذي جاء في اليوم الذي أعلن فيه أيضًا عن إلغاء زيارته المقررة إلى الولايات المتحدة، هو بمثابة "هروب إلى الأمام" من "الواقع الاسرائيلي الجديد" الذي نشأ، في قراءة هؤلاء، وحقًا وفعلاً كذلك، عقب نتائج الاستفتاء في "الليكود" على الخطة الأصلية.
ولعلّ السؤال حول ما إذا كان في مكنة شارون، ذاتيًا وموضوعيًا، أن يفلح في هذا الهروب أو يخفق فيه، ليس مفتوحًا على الاحتمالات كافة، إذا ما راعينا، عند محاولة الاجابة عنه، الأمور المركزية التالية:
(*) أن بنيامين نتنياهو، المنافس الأقوى لشارون حاليًا في "الليكود"، سارع إلى تسخيف تصريح رئيس الوزراء الأخير منوهًا، على وجه الخصوص، بأن نتائج الاستفتاء في "الليكود" تلزم تمامًا جميع أعضاء هذا الحزب، بمن فيهم رئيس الوزراء والوزراء وأعضاء الكنيست، وأساسًا إلى ناحية جوهر ما تعنيه هذه النتائج وهو "رفض إخلاء مستوطنات من أقاليم الوطن". بكلمات أخرى فإن أية "خطة بديلة" تشمل إخلاء كهذا لن يكتب لها النجاح إلا في الفضاء. وفي رأي المعلق في "معاريف"، شالوم يروشلمي، فإن أقدام "الليكود" أيضًا أصبحت موثقة بسلاسل نتيجة هذا الاستفتاء "إلى درجة أنه حتى هوديني (البطل الأسطوري) ليس في مقدوره أن يخلصه من أعماق الصندوق المغلق الذي أضحى الآن قابعًا فيه".
(*) أبانت نتائج ذلك الاستفتاء عن أن "مياهًا كثيرة قد جرت في مجرى الليكود"، من أهم مداليلها أن تغييراً ما طرأ على طابع هذا الحزب يحيل إلى تعزّز أنويته الصلبة القومية- الدينية على حساب تآكل طابعه التقليدي القومي- العلماني. ثمة حاليًا تقاطب ذو خصيصة تناقضية بعض الشيء بين اليمين المتطرف وبين اليمين التقليدي. وقد أحسن أحد المعلقين توصيف ذلك بقوله إن هذا التقاطب طرفاه هما أنصار "دولة أرض إسرائيل الكاملة" وأنصار "دولة إسرائيل" (ضمن حدود حزيران 1967).
(*) يتضح، يومًا بعد يوم، أن للأجهزة الأمنية الاسرائيلية (بالأساس القيادة العسكرية) "موقفًا محدّدًا" من "الخطط السياسية" يستمد "مقوماته" من أثرها المرتقب على الوقائع الميدانية، وهذا ما يفسر، بقدر ما، تواتر "المبادرات" من جانب بعض "رموز" هذه القيادة، مثل "مبادرتي" رئيس هيئة الأركان، موشي يعلون ومستشار "الأمن القومي"، غيورا آيلند، وكلتاهما تذهب إلى "الحيّز الإقليمي" للإلتفاف على الجانب الفلسطيني. من ناحيته أشار عوزي بنزيمن، المعلق السياسي في صحيفة "هآرتس" (7/5/2004)، إلى أنه بموازاة هاتين المبادرتين وبالارتباط معهما، بكيفية ما، فإن النزعة السائدة في أجهزة الأمن الاسرائيلية الآن، عقب فشل شارون في إستفتاء "الليكود"، هي "العودة إلى طريق البحث" عما أسماه ب "الشريك المعتدل في الجانب الفلسطيني". ويكتب في هذا الشأن ما يلي: "التحليل الذي أجري هناك (في أجهزة الأمن) يقول إن معارضة خطة فك الارتباط لم تنجم عن رفض الانسحاب من غزة ( هذا الرفض قائم بإصرار فقط لدى المستوطنين أنفسهم)، وإنما هي ناجمة عن استخلاص منتسبي الليكود ما مفاده أن الخطة لن تؤدي إلى وقف الإرهاب. وما يؤكدون عليه في أجهزة الأمن أن الطريق لتحسين المقابل لقاء الانسحاب يمرّ عبر إتفاق مع الفلسطينيين يشمل أيضًا إيقاف العمليات التفجيرية. غير أن ثمة عقبة جديدة وضعت في هذا الطريق وهي وعد بوش ورسالته إلى شارون في 14 نيسان/ أبريل. فأية قيادة فلسطينية (معتدلة) ستكون مستعدة الآن للتوصل إلى تسويات مع اسرائيل التي باتت تحتفظ في ملفاتها بموافقة أميركية على تعديلات حدودية وعلى رفض لحق العودة؟".
وفي شأن القبول والرفض السالفين، وضمن سياق متصل مع ما يقوله "بنزيمن"، أشار إستطلاع الرأي الأسبوعي لصحيفة "معاريف" (نشر يوم الجمعة ويستند إلى عينة من 526 شخصًا يمثلون السكان البالغين في اسرائيل) إلى أن أكثر من نصف الاسرائيليين (54 بالمئة) يؤيدون خطة "فك الارتباط" في حين يعارضها 35 بالمئة فقط. وقال 43 بالمئة إن شارون سينجح في نهاية المطاف بتطبيق الخطة، فيما قال 44 بالمئة إنه لن ينجح في تطبيقها. كما أكد 57 بالمئة أن اسرائيل لن تظل في غزة في المستقبل، مثلا بعد ثلاث إلى خمس سنوات، في حين قال 34 بالمئة إنها ستبقى ( من هذا المعطى خلصت الصحيفة إلى نتيجة أن معارضة الخطة لا تعني اوتوماتيكيًا معارضة الانسحاب من غزة). وبقيت نسبة غير الراضين من أداء شارون كرئيس للوزراء بشكل عام متجاوزة لنصف الاسرائيليين (54 بالمئة) في حين أن نسبة الراضين هي 45 بالمئة.
وقال أوري روزين، المعلق في "معاريف"، في تعقيبه على نتائج الاستطلاع، إن أكثرية ليست ضئيلة في أوساط الاسرائيليين عمومًا وأيضًا في أوساط منتسبي "الليكود"، دون أن يفصح عن الأرقام، ترغب بأن يواصل شارون بذل جهوده لتمرير خطة "فك الارتباط".
وهذا ما يستشف أيضًا من نتائج إستطلاع "مؤشر السلام" الذي ظهر في "هآرتس" أمس الاثنين (إقرأ عنه في مكان آخر).
(*) على طريقة "ربّ ضارّة نافعة"، بغض النظر عن صحتها أو عدمها، ترى صحيفة "هآرتس"، في إفتتاحية أنشأتها أمس الاثنين، أن "مسألة جهوزية الفلسطينيين للتوصل إلى تسوية سلمية تستند إلى مبدأ دولتين للشعبين ضمن حدود 1967 ، مع تعديلات متفق عليها، عادت إلى تصدر الأجندة السياسية" الاسرائيلية.
ما يقال هنا يمكن اعتباره، في جانب معين، بمثابة "إنقلاب مفعول السحر على الساحر". فقد جاءت خطة شارون، فضلا عن غاياتها اللئيمة حيال الفلسطينيين، على خلفية ركام متصل من الافتراءات ضد الطرف الفلسطيني، ليس أبسطها "عدم وجود شريك" يمكن الركون إليه لدفع تسوية سلمية، فإذا بنتائج الاستفتاء، في دلالتها التي تكاد أن تحظى بالإجماع كما بيّنا سالفًا، تعيد الأمور إلى المربع الأول- الفلسطينيون، شعبًا وقيادة، هم أولا ودائمًا الرقم الصعب في المعادلة، الذي لا يمكن شطبه، وإن كان المناخ الدولي مواتيًا لإعادة إنتاج "وعد" إستعماري جديد يشكل الذروة في مسيرة تماهي سياسة الإدارة الأميركية الحالية مع سياسة الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية، التي سبق أن خلعنا عليها إصطلاح "شرونة أميركا".
لا يعني هذا الكلام أن نقعد وننتظر تغييرًا للإيجاب في موقف شارون، مما لا قبل له به، بمقدار ما يعني أن مأزق حكومته مقدّر له أن يتفاقم أكثر فأكثر، في ظل الملامح الرئيسية المذكورة للواقع الاسرائيلي الجديد المترتبة على الفشل في الاستفتاء. ولعل إحدى مصائب هذا الواقع الجديد، شأن ما كانت الحال عليه قبلا، أن "الفراغ" الناشىء الآن تبقى إحتمالات ملئه من جانب المعارضة "اليسارية" تقارب الصفر. وحسبما أشار عكيفا إلدار، المعلق السياسي الاسرائيلي، فإن تلك المعارضة بأطيافها كافة، وبالأخص حزب "العمل"، لا يمكن أن تؤدي الدور المنوط بها والمعوّل عليها، بل والمستحق أيضًا، إزاء هذا "الفراغ" وإزاء ضرورة التوصل إلى تسوية سلمية، إلا إذا تخلت مرة واحدة وأخيرة عن مفهوم "عدم وجود شريك فلسطيني للسلام"، الذي أوقعها إيهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق، في شراكه وظلت مأسورة فيه حتى اللحظة الراهنة.