لا تنتهي متاعب رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، بمجرد إتضاح وجهة المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية، ميني مزوز، بشأن تقديم أو عدم تقديم لائحة إتهام ضد الأول بتهمة الارتشاء والفساد. ففي الواقع الاسرائيلي نفسه ما يشير، بصفاء وصراحة، إلى أن الأزمة تتعدى هذه المسألة، على أهميتها البالغة، بكثير.
ولا يمكن سوى الاتفاق مع الرأي القائل إن أزمة شارون هي، في الأساس، أزمة سياسية-شخصية ناجمة أكثر شيء عن بلوغ نهجه " الطريق المسدود" على المستويات كافة، السياسية والإقتصادية وحتى..الأمنية. وهذا ما يفسر، ببساطة متناهية، إستمرار الهبوط الحاد في "شعبية" شارون في جميع إستطلاعات الرأي، وآخرها استطلاع "مؤشر السلام" الشهري الذي يجريه أحد "معاهد السلام" في جامعة تل أبيب.
لكن إذا نحينا إستطلاعات الرأي جانبًا، خصوصًا وأنها في فترة السنة ونصف السنة الأخيرة، إن لم يكن أكثر، لا " تحسن صنعًا" مع شارون المختنق بأزماته، ما يعني أن تدهور شعبيته لم يعد بالتفصيل الجديد، فإن ما يجدر بنا تعقبه في المشهد الاسرائيلي في غضون الفترة القليلة المقبلة، يندرج في إطار ما يلي:
(*) من الواضح تماما أن شارون اختار، فور صدور توصية النائبة الاسرائيلية العامة، عيدنا أربيل، بتقديمه الى المحاكمة، أن لا "يقعد وينتظر" قرار المستشار مزوز، وفي ضوئه يقرر كيف يتصرف. وفي خطوته السائرة في وجهة عرض خطته لما يسمى ب"فك الارتباط" للإستفتاء على أعضاء حزبه فقط (الليكود) إشارات تحذير ووعيد إلى الذين سيقررون مصيره قضائيًا، كما استقطر أكثر من رأي وتحليل وتعقيب على هذه الخطوة غير المسبوقة في الممارسة الدولانية الاسرائيلية، حتى عندما دار الحديث عن "قضايا مصيرية"، وفق تعريفها الشائع في القاموس السياسي والشعبي الاسرائيلي.
أما احتمال تصعيد الحرب الهمجية على الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة فقد أضحى، على رغم خطورته البالغة، من "الأسرار المفضوحة"، التي ينبغي رؤية أنها تحاذي ممارسات شارون منذ بدء التداول في الشبهات الحائمة حول مخالفاته الجنائية الشتيتة، مع مراعاة أنه لا يملك أي برنامج حيال الشعب الفلسطيني سوى ..الحرب.
(*) إذا سلمنا فرضًا بأن مزوز سيقرر عدم تقديم لائحة إتهام ضد شارون لأسباب شتى، قد تتراءى في جانبها الأكثر إثارة، في النحو منحى الامتثال مع الضغوط المشتغلة عليه، وهو إحتمال يستبعده مراقبون ويستعقله غيرهم ولكل منهم أسبابه "الوجيهة"، فإن شارون سيخرج من هذه الأزمة لكي يواجه أزمة أشد وأدهى في انتظاره، بالنسبة لبقائه محتفظًا بكرسي الحكم، تتعلق بخطته المسماة "فك الارتباط". ( نشير هنا إلى أن مسؤولين في وزارة العدل الاسرائيلية أفادوا أخيرًا بأن إغلاق الملف ضد الوزير إيهود أولمرت، المرتبط ببعض القضايا التي يشتبه بتورط شارون نفسه فيها، وبصورة رئيسة قضية "الجزيرة اليونانية"، لا ينبغي به أن "يريح" أعصاب شارون وأن يؤشر إلى ما ينتظره، حيث أن ملف هذا الأخير، خلافا لملف أولمرت، حافل بالقرائن حول الرشاوى، من جهة وحافل بالقرائن حول المقابل الذي أعطي تساوقًا معها، من جهة أخرى، وهو ما افتقده ملف أولمرت، مما أوجد أرضية صلبة يمكن الإتكاء عليها وإغلاق الملف. مع ذلك فإن صحيفة "هآرتس"، أمس الاثنين، تؤكد أن أقوال المسؤولين العدليين هذه لا ترجح مرة واحدة وأخيرة الإفتراض المتداول كثيرًا بأن مزوز سيتخذ القرار بتقديم لائحة إتهام ضد شارون تمهيدًا لمحاكمته، وفتح الأفق بالنسبة لمستقبله السياسي على جميع الاحتمالات).
(*) نقول أزمة أشد وأدهى بالنسبة لمستقبل شارون السياسي على خلفية أمور عديدة. مهما تكن هذه الأمور فإن من أبرزها المعارضة الشديدة داخل الائتلاف الحكومي لخطة "فك الارتباط"، من طرف أحزاب اليمين المتطرف والاستيطاني ( المفدال والوحدة الوطنية). وكذلك "جيوب" المعارضة القوية لهذه الخطة داخل "الليكود". وحتى أيامنا هذه لا يزال الوضع الخاص بتوزيعة الوزراء المؤيدين والمعارضين للخطة، من صفوف "الليكود"، غامضًا وقد لا يتضح إلا عند التصويت عليها في الحكومة نفسها.
غير أنه إذا كانت مسألة "ميزان القوى" في "الليكود" حيال خطة شارون غائمة ويصعب التكهن بمفاعيلها منذ الآن، فإنه ليس من الصعوبة التكهن بأن ائتلاف شارون اليميني، القائم حاليًا، يتهدده الانهيار بمجرد وضع الخطة على نار حامية، كنتيجة مباشرة لانسحاب "المفدال" و"الوحدة الوطنية". عندها قد تأتي النجدة من حزب "العمل" ( بذلت وتبذل محاولات في هذا الاتجاه). وقد لا تأتي. دعونا نفترض بأنها ستأتي، وينجم عنها أن تخرج الى النور مرة أخرى طبعة جديدة من حكومة "الليكود"- "العمل" برئاسة شارون ومع حزب "شينوي". عندها يبقى السؤال: كم ستعمر طبعة كهذه من حكومة سبق أن انبنت على أساس مماثل ولم تدم أيامها كثيرًا؟ .
أسئلة كثيرة لا تزال الأجوبة عليها مبنية للمجهول، نتناولها إلى جانب بعض الإجتهادات في الإجابة عليها ضمن هذا العدد من "المشهد الاسرائيلي"، الذي ينطوي أيضًا على مقاربات لسائر وجوه الأزمة التي تعصف بحكومة شارون، بالأخص في الشأن الاقتصادي الاجتماعي، والتي انضاف إليها تقرير "لجنة شطاينيتس" حول أداء أجهزة المخابرات الاسرائيلية كافة في أثناء الحرب على العراق، والذي كشف عن "قصورات قاتلة" لا تقفز عما للمستوى السياسي، بقيادة شارون، من مسؤولية مباشرة عن أيلولة المخابرات الاسرائيلية إلى الأوضاع التي اكتفت اللجنة المذكورة بتوصيف جزء بسيط منها، كما يمكن الاعتقاد.
مع ذلك لا مهرب من أن نشير، في انتظار ما سيتبدى لاحقًا، إلى تطور يبدو الآن غير كبير الأهمية يتعلق بتحركات وزير المالية، بنيامين نتنياهو، وآخرها التحرك المرتبط بخفض الضرائب، والذي سرعان ما أجمع المحللون الإقتصاديون والسياسيون على أنه إشارة البدء، من لدن نتنياهو، باتباع "إقتصاد الانتخابات"، التي يظهر أن نتنياهو بدأ يشم رائحتها وهو الذي "عقد العزم" على أن يكون "الوريث الشرعي والوحيد" لشارون، أولا في رئاسة "الليكود" ومن ثم في رئاسة الحكومة، ربما كتحصيل حاصل ليس أكثر. وسواء كانت تلك إنتخابات داخلية (لحزب "الليكود") أو أبعد من ذلك بكثير، فإن هناك رائحة انتخابات في الأجواء السياسية الاسرائيلية تلوح بإحالاتها المقبلة، التي قد تكون انتخابات برلمانية مبكرة أخرى.
نستعيد، عند هذا الحد، قول معلق اسرائيلي في فترة ما بأن هناك تغييرات هامة تبدأ أحياناً في الهوامش، وتبدو في البداية أنها عديمة الأهمية، غير أنها تؤدي إلى تغيير أجندة المجتمع الإسرائيلي. وقد تنطبق هذه المقولة على تحركات نتنياهو هذه. لننتظر ونر.