المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مع إطلالة هذا العدد من "المشهد الإسرائيلي" يكون قد مضى أسبوع كامل على رحيل مؤسسه ومحرره والمشرف العام على الموقع الذي يحمل ذات التسمية، الزميل محمد حمزة غنايم (أبوالطيب)، الشاعر والصحافي والمترجم المبدع، الذي كان له الفضل والدور الأبرز في إطلاقه وإخراج صفحاته الإلكترونية على شبكة الإنترنت.

ورغم الإحساس بتسارع مرور الزمن "العام" في هذا العصر، إلاّ أن "زمننا الخاص"، نحن الذين زاملنا "أبو الطيب" وتواصلنا معه يومياً طوال ثلاث سنوات ونيف من خلال "مدار"- المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، بدا خلال هذا الأسبوع، المنصرم، أطول من المعتاد، مرت لحظاته ببطء وتثاقل شديدي الوطأة، وكأنما عقارب الساعة قد توقفت عن الدوران فسكتت حركة "زمننا" لحظة سكوت خفقان قلب فقيدنا بعد صراع طويل مع المرض، استمر لأكثر من عشرة أشهر.

لسنا هنا بصدد تدبيج كلمات رثاء في رحيل "أبو الطيب" أو تعداد مناقب وصفات الفقيد الذي تأبى صورته وروحه وسيرته المعطاءة أن تفارقنا أو أن تغيب عن "مشهدنا الخاص"، وهي أبداً لن تغيب ...فمسيرة "أبو الطيب" الحافلة بالعطاء والإسهام الوفيرين في مسيرتنا، العامة والخاصة، وسيرته الطيبة وتركته الإنتاجية المبدعة الغزيرة التي قهرت وتخطت حدود "الداخل" و"المحتل" وأبحرت إلى فضاءات بعيدة، بلغات عديدة، في أرجاء العالم المترامي الأطراف... هذه السيرة الخيرة المعطاءة ستبقى نبراساً وشاهداً ملهما، أبلغ وأعظم من أي كلام يقال فيها ... ونحن مهما قلنا أو كتبنا، سنبقى عاجزين عن إيفاء "أبو الطيب" ما له علينا من حقوق وواجبات. إنما هي لحظة إختلاج وفيض المشاعر المرتبطة بتلك "اللحظات الخاصة" بنا وفينا، والتي أبت أن تبقى حبيسة في صدورنا ودواخلنا ...

ومن هذه اللحظات "الخاصة" التي لم ولن تبارح مخيلتي أبداً، تلك التي التقيت فيها "أبو الطيب" شخصياً للمرة الأولى، والأخيرة مع الأسف، بعدما كانت معرفة أحدنا للآخر قد اقتصرت على التواصل الهاتفي من خلال العمل اليومي المشترك في "مدار" طوال أكثر من عام ونصف العام، وكان ذلك عندما جاء وذهبت خصيصاً "لأراه ويراني" إلى كلية "بيت بيرل" في كفار سابا التي كنت قد أنهيت فيها حديثاً دراستي للغة والترجمة.

ويخيّل إليّ أن لحظات اللقاء، المباشر، الأولى، قد أثارت لدي، ولديه، نوعاً من الأحاسيس والإنطباعات التي تتولد بصورة عفوية، تلقائية، عند التقاء رجلين متزاملين، في منتصف العمر، كان كل منهما يحسب قبل لحظة اللقاء "وجهاً لوجه" أنه سيقابل رجلاً مختلفاً على الأقل في "مقاييسه" وهيئته الخارجية عن الصورة المتكونة عبر خطوط الهاتف في مخيلة كل واحد عن الآخر ... وأذكر أن الكلمات الأولى التي إنساقت على لساني مسرعة، من فرط الدهشة لما وجدته من "قواسم مشتركة" و"وحدة حال" على صعيد البنية الجسمانية والملامح المظهرية التي نال منا "الدهر والهم" ما نال، في لحظة ذلك اللقاء كانت التالية "يا رجل ... حالك أمّر من حالي". فابتسم وقال بلهجة تشي بما وراءها مما كابده ويكابده الرجل في حياته "ألسنا في الهم شرق". ورغم ما استشعرته وقتها من أن "أبو الطيب" يدفن داخله "ألماً وهماً ثقيلين" إلاّ أنه سعى جاهداً كعادته، إلى توليد طاقات الحرارة والحيوية في اللقاء، الذي كبرت في أثنائه مشاعر الدهشة والتقدير لدي لهذا الرجل وما يفيض به من عفوية وسلاسة وسعة ثقافة وإلمام، حتى في حدود "المشهد الأكاديمي" الذي أحاط بنا في ذلك اليوم، حيث بدأ ملماً بكل تفاصيله وشخوصه الإسرائيليين والعرب الذين عرفوه تمام المعرفة وجاء الكثيرون منهم تباعاً ليلقوا عليه التحية ويسألوه عن آخر أعماله وإنتاجاته.

مرّ الوقت مسرعاً خلال السويعات القليلة التي أمضيتها بصحبة "أبو الطيب" في ذلك اليوم، لكنني عدت أدراجي إلى ما وراء "الخط الأخضر" يخالجني شعور بأنني قابلت وعرفت "عالماً بأكمله" و"معلماً نابضاً" يتدفق بالمعرفة الواسعة وبروح وطنية جياشة ... الآن، وبعد رحيله، عرفت وأدركت أكثر أن "أبو الطيب" جسّد، على الأقل من ناحية مجال تواصلنا المشترك، ما تعنيه الترجمة الخلاقة من جهد إنساني مثابر، مبدع، ينطوي على قدر كبير من الفن والمهارة في تطويع اللغة وقهر تعقيدات النصوص الجافة في سبيل إيصالها واضحة سلسة تعكس وتعبر عن حقيقة وتفاصيل موقف "الآخر" ومشهده. لقد جسد أبو الطيب صورة ملهمة للصحافي والمترجم الذي يتمتع بإحساس مرهف وخبرة وأناة وجرأة ودقة وثقافة واسعة وذوق أدبي رفيع وإلمام عميق باللغتين ... ولا أبالغ إن قلت إن الراحل بلغ في شعوره ووعيه وعطائه وإثرائه الغزير لحركة الترجمة بين اللغتين العربية والعبرية، أرفع المقامات مما يضعه عن حق وجدارة في مصاف نخبة المترجمين المبدعين، الفلسطينيين والعرب، في العصر الحالي.

ختاماً، لا يسعنا إلا أن نقول، لتقر عينك يا أبا الطيب في مرقدك، فأنت وإن رحلت بجسدك عنا ستبقى بروحك وسيرتك الحافلة بالعطاء الوافر والتوجيه السديد والإثراء الغني لتجربتنا، "الغائب الحاضر" أبداً في مشهدنا الذي غرست فيه بجهدك وإبداعك الدؤوب منبع عطاء وإلهام لا ينضب.


سعيد عياش

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات