المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 991

بمنأى عن الإنبهار الإعلامي، الذي يبرره التعطّش لحراك سياسي ما طال إنتظاره، حقّ للقوى اليسارية الاسرائيلية الحقيقية المؤيدة للسلام العادل والمناهضة للإحتلال وجرائمه، التي ليس آخرها هدم مئات البيوت في رفح، أن تعبّر عن إمتعاضها الشديد من تقزيم أولي الأمر لمظاهرة عشرات الألوف، يوم السبت الأخير، والتي جاءت في قراءة هؤلاء لتشدّ من أزر رئيس الوزراء الاسرائيلي، أريئيل شارون، في "معركته" ضد حزبه أكثر مما جاءت لتردّ الروح إلى جسد المعارضة الاسرائيلية المتداعي، وأكثر مما جاءت لجعل هذه المعارضة تتوسّد القيم اليسارية المغيّبة، إلى ناحية تضادها المستحق والمؤجّل مع سياسة الحكومة الحالية جملة وتفصيلا، وبضمن ذلك التضاد مع خطة "فك الارتباط"، على رغم رفضها في إستفتاء المنتسبين إلى "الليكود"، الذي شكل ذريعة بائسة لتزكية أصحابها.

 في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كتب أحد ممثلي هذه القوى، وهو عالم الاجتماع الاسرائيلي البروفيسور يهودا شنهاف، ما يلي:

 "المظاهرة في ميدان رابين ليست مظاهرة لليسار. شمعون بيريس وعامي أيالون( الخطيبان المركزيان في المظاهرة) هما شخصان منحا التغطية على مدار سنوات طويلة (من عمرهما السياسي والأمني والعسكري) لأجهزة الاحتلال وأيديولوجيته. حتى قبل فترة قليلة جلس بيريس في حكومة قضت قضاءً مبرمًا على السلطة الوطنية الفلسطينية بسبب تعنت ونزوات رئيس وزراء مسرنم. إنه لأمر جيد أن يكفر كل منهما عن ذنوبه وأن يقودا عملا احتجاجيًا ضد الحكومة (بالنسبة لشمعون بيريس يبدو أن الأمر إلى حين جلوسه في المرة القادمة في الحكومة). ولكن ما ينبغي تذكره أن بيريس وأيالون هما سادة الوزراء. حتى رافضو الخدمة الإجبارية، الذين يتكلمون من خلال الوطنية الاسرائيلية، لم يسمح لهم بالمشاركة باعتبارهم صوتًا شرعيًا في هذه المظاهرة.. وعلى النسق ذاته ينبغي تذكّر أن موفاز (شاؤول) لا يزال من اليمين المتطرف، وأنه لم يصبح معتدلا لمجرّد أنه يؤيد الخطة الشوهاء المسماة: إنفصال. وينسحب ذلك على أولمرت (إيهود) وشارون. وإن حقيقة أن هناك مجانين عن يمين هؤلاء لا تجعلهم في صفّ المركز أو اليمين المعتدل. آلة الاحتلال بقيادتهم ما انفكت تغتال أناسًا أبرياء بمسوغات عبثية وتحلق وتفجّر منازل مواطنين فلسطينيين وترسل جنودًا إسرائيليين إلى حتوفهم".

 

وعلى خلفية ذلك فقد "ثمّن" شنهاف عاليًا إعتراف رئيس "العمل"، شمعون بيريس، بأن تلك المظاهرة ليست مظاهرة لليسار وإنما هي مظاهرة "لأغلبية الشعب". وفي واقع الأمر فإن من تابع وقائع المظاهرة لم يكن بحاجة إلى كبير عناء كي يلاحظ أن بيريس نطق بذلك، في إلماح لا يدع أي مجال للشك في أن الأغلبية التي يقصدها هي هي المصطفة إلى جانب خطة "فك الارتباط"، ولا شيء أكثر من ذلك البتة.

 

بيد أن الإشارات غير اليسارية لمظاهرة "قوى التسوية" الاسرائيلية، يوم السبت الأخير، لم تنحصر في ما نطقه بيريس وشكّل بمثابة إستقطار لها، وإنما انسحب أيضًا على أمور أخرى. مهما تكن هذه الأمور يكفي ذكر ما يلي:

 

(*) بروز الشعارات العديدة التي كتبت عليها عبارة: "شارون، الشعب معك".

 

(*) رفض المنظمين مشاركة مجموعة رافضي الخدمة العسكرية في المناطق الفلسطينية لأسباب ضميرية، الذين يشقّون عصا الطاعة على "الإجماع". وكذلك قرار هؤلاء المنظمين، تحت ضغط المستوطنين من المناطق المحتلة، افتتاح المظاهرة بدقيقة صمت حدادًا على القتلى الاسرائيليين "ضحايا الإرهاب الفلسطيني"!.

 

هذا الكلام هو أبعد ما يكون عن الإستهانة بالتحرّك الحاصل من جانب تلك القوى وعن التقليل من شأن إحالاته القادمة، التي ما زالت مبنية للمجهول. فلقد أعادت مظاهرة يوم السبت إلى ذاكرة الكثير من الإسرائيليين، بمن في ذلك عديد الصحفيين والمعلقين، أجواء الاحتجاج التي سادت إبان الحرب العدوانية على لبنان في 1982 وكان "الليكود" خلالها متربعًا على سدّة الحكم وأسفر ذلك عما يضاهي الأيام الحالية من إنسداد للأفق السياسي وغيره. غير أن الأكثر صحة من ذلك أيضًا أنه في أعقاب تلك المظاهرة، وفي العمق بسببها كذلك، سقطت "ورقة توت" أخرى عن عورة المعارضة الاسرائيلية المتمثلة أساسًا في "اليسار الصهيوني" وأبانت مبلغ أسلبتها خلف أسطورة "الإجماع القومي"، الذي لا يتشكل في واقع إسرائيل، اولا ودائمًا، إلا حول الحرب والعداء لحقوق الشعب الفلسطيني.

 

وبتأثير من هذا الاستلاب المتفاقم لا تزال تلك المعارضة، وعلى رأسها حزب "العمل"، مغلولة بقيدين كبيرين متصلين ببعضهما البعض:

 

الأول: قيد عدم المبادرة إلى طرح برنامج سياسي بديل عن برنامج شارون واليمين عمومًا للتسوية، يكون من شأنه أن يشحن مسعاها، ضمن أشياء أخرى، للعودة إلى الحكم وإستعادة ثقة الناخب الاسرائيلي. في هذا المضمار ربما من غير المبالغة إعتبار حزب "شينوي" أكثر ديناميكية من "العمل".

 

الثاني: قيد محاولة إحتضان فئات المستوطنين الكولون مع ما يحيل إليه ذلك من نوايا عدم التجوهر في محاربة الاحتلال وأيديولوجيته الجامحة. ويتم ذلك حصرًا في وقت ما زال فيه الواقع الاسرائيلي يوفر البراهين والدلائل القاطعة على أنه لم يعد ثمة الكثير من القواسم المشتركة بين هذا "المعسكر" وحتى بين التيار اليميني الذي يمثله شارون ورهطه في "الليكود"، فما بالكم بالقوى السياسية التي على يساره؟ (مع مراعاة النسبية النافلة لهذه الإصطفافات والمصطلحات جميعًا).

 

عند هذا الحد لا مهرب من أن نعيد إلى الأذهان أن محاولات إحتضان هذه الفئات المتطرفة وإكسابها شرعية سياسية كاملة، بل ويمكن القول مركزية، حتى بعد دخول إسرائيل طريق "عملية السلام" الذي لم يكن مشقوقًا من قبل، لم تبدأ مؤخرًا فقط، وإنما قام بها جميع رؤساء وزراء إسرائيل الذين تعاقبوا على هذا المنصب بعد مقتل إسحق رابين في 1995، بدءًا من بيريس ذاته. وكانت هذه السيرورة في صلب تطورات تراكمت بعد الإغتيال المذكور وأصابت شيئًا فشيئًا جهود التسوية و"المصالحة التاريخية" بين الشعبين الاسرائيلي والفلسطيني في مقتل..وقد يكون هذا موضوعًا يقتضي منا العودة إليه في مناسبة أخرى، بما يؤدي المهمة ويفي بالغرض.

 

المصطلحات المستخدمة:

الليكود, شينوي

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات