<<ما نراه أن شارون هو الذي يسجل نقاطًا لصالحه، فهو لن يغيّر من خطابه السياسي، وهدفه المعلن بالوصول الى حل يقوم على دولة بحدود مؤقتة على 42 في المائة من الضفة الغربية و 75 في المائة من قطاع غزة..>>.
لم يجد المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة في اسرائيل ارئيل شارون افضل من السلطة الفلسطينية، التي يشكل تدميرها هدفه المعلن، لدعمه أمام خصومه السياسيين، خصوصا في حزب "العمل" بزعامة عمرام ميتسناع، الذي يسعى جاهدًا لضمّه الى حكومته.
ففي الوقت الذي صادق فيه مركز حزب "العمل" بالاجماع وبشكل قاطع على قرار زعيمه عدم الانضمام الى حكومة وحدة برئاسة شارون، وحتى عدم تشكيل طاقم للتفاوض على تشكيل مثل هذه الحكومة، سربت دوائر شارون انباء عن لقاءات عقدها مع عدد من المسؤولين الفلسطينيين.
ومن بين اولئك المسؤولين امين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والرجل الثاني فيها محمود عباس (أبو مازن) ورئيس المجلس التشريعي الفلسطيني أحمد قريع (أبو علاء)، فيما التقى مستشاره دوف فايغلاس وزير الداخلية الفلسطيني هاني الحسن.
واستدعت تك الاتصالات تصريحًا للرجل الثالث في حزب "العمل" شمعون بيريس، الذي يتحين الفرص للتنكر لقرار حزبه، عقـّبَ فيه عليها بقوله: "مرة اخرى يتبنى اليمين طريق اليسار".
ومنذ اعلان نتائج الانتخابات الاسرائيلية وما اسفرت عنه من فوز ساحق لليمين الاسرائيلي بقيادة "الليكود"، توقع الفلسطينيون أيامًا صعبةً ستأتي، وأنَّ الخيار الوحيد أمامهم - كما اجمع العديد من المسؤولين والمحللين الفلسطينيين - هو الصمود وامتصاص التصعيد العسكري المتوقع على ايدي حكومة شارون الجديدة، ريثما يتصلب عود المعارضة الاسرائيلية وتصبح قادرة على إسقاط شارون، وهو سيناريو لن يتأخر كثيرا باتفاق العديد من المحللين الاسرائيليين ايضا.
وقال الاستاذ في العلوم السياسية في جامعة بير زيت الدكتور علي الجرباوي ان السلطة الفلسطينية "بدلا من ان تقاطع شارون لتعزيز المعارضة الاسرائيلية بقيادة متسناع، تتحول الى عامل مساعد للضغط عليه" (أي: متسناع).
وأقرت السلطة الفلسطينية بإجراء هذه اللقاءات بعد أكثر من يومين من النفي، لكنها حاولت التقليل من أهميتها، إذ دعا مسؤول الثقافة والاعلام الفلسطيني ياسر عبد ربه، في تصريحات للصحافيين مطلع الاسبوع الجاري، الى عدم المبالغة بشأن النتائج المتوقعة لهذه اللقاءات، مشيرًا الى أنَّ "ما يجري على الأرض من قتلٍ وتدمير، هو الذي يُعبّر عن سياسة شارون".
غير ان عبد ربه نفسه كان قبل أيام قد ذكر امام عشرات السياسيين والخبراء والاكاديميين ممن شاركوا في مؤتمر سياسي إن الخيار الفلسطيني الوحيد أمام الإنجراف الإسرائيلي نحو اليمين هو "الصمود بمعناه الواسع عبر الحفاظ على المقاومة والثبات في كل المواقع وعدم التفريط بأي منها وعدم الانجرار وراء وَهمِ إمكانية حلٍّ سياسي من خلال ائتلاف يقوده شارون".
كذلك عبّر مسؤول العمل في السلطة الفلسطينية في نفس المؤتمر عن ذات الموقف حين قال إن نتائج الانتخابات الاسرائيلية "لم تُبقِ أمامنا إلا خيارًا واحدًا هو الاستمرار في المقاومة ومنع شارون من تحقيق هدفه بحسم الصراع بواسطة القوة، بغضّ النظر عما يتطلبه ذلك من تضحيات.. لا نملك خيارًا آخر ما دام الاسرائيليون جدّدوا لهذه الحكومة".
إلا أن هذه "الاوهام" التي تحدث عنها عبد ربه والخطيب هي بالضبط ما بحثه المسؤولون الفلسطينيون في اجتماعاتهم مع شارون. وتركّز هذه الاتصالات بحسب ما تسرب من مصادر إسرائيلية حول ما قيل إنه اقتراح إسرائيلي بوقفٍ تدريجيٍّ لاطلاق النار بين الجانبين، يواكبه انسحاب تدريجي للجيش الاسرائيلي من المدن الفلسطينية، واستئناف للتنسيق الأمني المثير لحساسية الفصائل الفلسطينية المقاومة، بما فيها حركة "فتح" التي يتزعمها رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات.
واعتبر الجرباوي هذه الاتصالات "انعكاسًا لمصلحة مُتبادلة بين القيادة الفلسطينية التي تجهد للخروج من عنق الزجاجة وشارون الذي يحاول جلب حزب "العمل" الى حكومته الجديدة عبر الإيحاء بأنه غيرُ مُقاطَعٍ حتى من السلطة الفلسطينية". وقال إن هذه اللقاءات "لن تحقق أيًّا من النتائج التي يرجوها الفلسطينيون، وهم يكرّرون أخطاء طالما وقعوا فيها سابقًا".
وأضاف المعلق والاستاذ الجامعي الفلسطيني: "ما نراه أن شارون هو الذي يسجل نقاطًا لصالحه، فهو لن يغيّر من خطابه السياسي، وهدفه المعلن بالوصول الى حل يقوم على دولة بحدود مؤقتة على 42 في المائة من الضفة الغربية و75 في المائة من قطاع غزة".
وكان الجرباوي من الاصوات التي حذّرت مبكرًا من التجاوب مع طروحات شارون والصمود بأي ثمن، متوقِّعاً كغيره من المحللين الفلسطينيين والاسرائيليين أن أية حكومة سيشكلها شارون ورغم الفوز الكبير الذي حققه في الانتخابات الأخيرة ستواجه صعوبات جمة ولن تصمد لأكثر من سنة. وقال الجرباوي: "كنت أتوقع أن تخرج بعض الأصوات في السلطة الفلسطينية تنادي بالتعامل مع شارون بحجة أن ليس ثمة بديل، ولكن ظهرت هذه الاصوات بشكل مبكر جدًا ومن أعلى المستويات في السلطة". وحذّر الجرباوي من أن تذهب السلطة الفلسطينية في اتصالاتها مع شارون الى أبعد من الأهداف التي يجري الترويج لها وذلك بإحلال عروض شارون محل خارطة الطريق الاميركية، خصوصًا وأن ما يطرحه شارون بشأن دولة ذات حدود مؤقته يتلاقي مع المرحلة الثانية للخطة الاميركية.
وقال: "اننا لن نفاجأ في المستقبل بأصوات فلسطينية تقول إن عرض شارون له أساس في خارطة الطريق الاميركية التي وافقنا عليها"، محذّرًا من أنَّ شارون "لن يغير طريقه ومخططه وكل ما يريده إدخال حزب العمل في حكومته لتوفير غطاء لسياساته أمام العالم".
واعتبر الجرباوي الاتصالات التي يجريها مسؤولون كبار في السلطة الفلسطينية ضربة كبيرة للحوار الجاري منذ أشهر بين فصائل المقاومة الفلسطينية، مضيفًا: "اعتقد أن هذه الاتصالات دليل جديد على أن كل طرف فلسطيني يعمل منفردًا بدون اهتمام بالأطراف الاخرى".
من جانبه وصف المحلل والكاتب السياسي هاني المصري الاتصالات الفلسطينية - الاسرائيلية بأنها "عقيمة ودون جدوى ويمكن أن تسبب الضرر للفلسطينيين، إذ لن تفضي الى أي تغير جَدّي في الموقف الاسرائيلي".
وقال المصري إن هناك ثلاثة أهدفٍ يهدف شارون الى تحقيقها من وراء هذه الاتصالات، أوّلها جسّ نبض الجانب الفلسطيني لمدى استعداده للتجاوب مع عرض شارون بشان الدولة المؤقتة، والدخول في ماراثون الحل متعدد المراحل، والثاني تطويع حزب العمل وإجباره على الدخول في حكومة وحدة. وثالث تلك المرامي بعثُ رسالةٍ الى الادارة الاميركية والعالم بأن شارون ينظر بمسؤولية الى حاجة الولايات المتحدة "لتبريد" الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي عشية بدء عملياتها العسكرية ضد العراق.
اما الجانب الفلسطيني، حسبما يرى المصري، فانه يحاول عبر هذه الاتصالات "إحداث اختراق في الموقف الاسرائيلي الرافض للمفاوضات تحت النار، وتأكيد شرعية القيادة الفلسطينية، التي ينادي شارون بتغييرها كشرط لاستئناف المفاوضات". وذكر أن هذه الاتصالات لن تحقق الأهداف الفلسطينية المرجوّة وهي فقط "تساعد حكومة شارون على الظهور بما ليس فيها كما تساعده في تحقيق هدفه التكتيكي بفصل الموضوع السياسي عن الامني وحتى تفكيك الجانب الامني <<عبر مكافأة المدينة "العاقلة" ومعاقبة المدينة التي تظهر مقاومة ضد الاحتلال>>.
واضاف المصري "انه سبق ان جرَّبنا خطة غزة - بيت لحم أوّلاً فماذا كانت النتيجة؟ أعتقد أن اتصالات من هذا النوع ستدخلنا في دوامة طويلة ولا يمكن الاعتماد عليها".
ولخَّص المحلل والكاتب السياسي سميح شبيب من ناحيته رأيه بقوله: "باختصار هذه الاتصالات مضيعة للوقت، إذ لن تفضي الى أية نتائج ولا يوجد فيها أي التزام من الجانب الاسرائيلي بأي شيء".
واضاف ان أي اتضاح في الموقف الاسرائيلي لن يكون ممكنا قبل تشكيل الحكومة الجديدة، كما انه لن يكون معقولا قبل ظهور نتائج الحرب الاميركية المحتملة ضد العراق، التي ينتظر شارون ان تُحدث تغييرات جوهرية على الارض، تؤدي الى تحقيق بعض أهدافه، ومنها القيام بعمليات ترحيل جماعية للفلسطينيين.
وخلص شبيب الى القول: "على أي حال فان هذه الاتصالات الفلسطينية - الاسرائيلية لن تمنع الخطوات المتوقع أن يقوم بها شارون في حال اندلعت الحرب في الخليج".