بقلم: آري شبيط
ميرون بنبنيستي وحاييم هنغبي لم يتحاورا ولم يتبادلا الحديث. فالأول يسكن في القدس، على حدود الصحراء، يحاول تأليف كتابه الاخير. فيما يسكن الثاني (هنغبي) في ضاحية "رمات افيف" بجوار البحر المتوسط، يحاول صياغة، "مانفيستو" اخير صاعق. لكن كليهما على حد سواء، بلغا هذا الصيف نقطة تحول مثيرة في تطورهما الفكري، اذ توصل كل من بنبنيستي وهنغبي الى استنتاج مؤداه بأنه لم يعد هناك امل في انهاء الصراع (الاسرائيلي الفلسطيني) بحل يستند الى دولتين. لقد توصلا، كل على حدة، الى نتيجة بأنه آن الأوان للعمل من اجل انشاء دولة واحدة في البلاد، تمتد بين النهر والبحر، دولة ثنائية القومية.
ظاهريا يبدو ان الرجلين ينتميان الى عوالم مختلفة كليا. فبنبنيستي، نجل الاستاذ والمربي المعروف ديفيد بنبينستي، يعد سليل المؤسسة الصهيونية القديمة، وقد كان في ما مضى نائبا ومساعدا بارزا لرئيس بلدية القدس الاسبق تيدي كوليك، ومرشحا للكنيست من طرف قائمة حقوق المواطن "راتس".
في المقابل، يعتبر هنغبي "ثوريا متقاعدا" حيث كان نشيطا بارزا في منظمة "ماتسبين" (اليسارية غير الصهيونية)، وأحد مؤسسي القائمة التقدمية، اضافة الى انه من زعماء كتلة السلام (غوش شلوم).غير ان لبنبنيستي وهنغبي ارضية مشتركة، فكلاهما من مواليد القدس، ومن خريجي نفس المدرسة الثانوية "بيت هكيرم"، وكلاهما من اصول اشكنازية اسبانية، كما ان وراء كل منهما تجربة حيوية حافلة.
وتتسم التحولات المتزامنة – غير المتماثلة - التي يمر بها بنبنيستي وهنغبي، بأهمية خاصة وذلك لكونهما بالذات لا ينتميان الى نفس الطيف او التيار الايديولوجي، وان كان كلاهما يعزفان على وتر منفرد، في الهوامش السياسية.
اين ومتى بدأ التحول لدى هنغبي؟
يقول هنغبي: بدأ ذلك عقب اندلاع الانتفاضة (الحالية) مباشرة. فقد قلت عندئذ لـ اوري افنيري بأنني اتراجع الى الوراء الى منبع تفكيري او بوتقتي الاصلية، وأنني اعتقد بانه يجب اعادة طرح حلم الدولة المشتركة. لكن افنيري ضحك وقال بأنني اغرق في الاحلام. وافنيري انسان يتمتع بحقوق كثيرة في النضال من اجل السلام وضد الاحتلال، لكنه يعاني ايضا من نقص وتشوه وعجز عن التعامل مع الناس. لقد ضحك مني بنوع من الاستهتار والازدراء المتعالي، متجاهلا كلامي. طوال ثلاث سنوات ونحن نقوم معا بصياغة البيان الاسبوعي (بيان يوم الجمعة) الذي تصدره كتلة "غوش شلوم"، ولكن في بداية هذا الصيف قررت انه لم يعد بمقدوري الاستمرار في الصمت، وأن علي ان اعبر عما يرادوني من تفكير.
عندئذ كتبت نَصًّا ضد الاحتلال طرحت في نهايته وللمرة الاولى فكرة دولة واحدة للشعبين. دولة مشتركة ثنائية القومية. هاج افنيري وماج غضبًا واتهمني بالحاق الضرر بالقضية الفلسطينية وبأنني اضع نفسي في خدمة اليمين، وانني اعزز المخاوف من خطة المراحل. وعندما طالبت بتعميم نص بياني على جميع اعضاء "غوش شالوم" قيل لي إن ذلك لن يتم نظرًا لأن الامر يتعارض مع الاجماع في "غوش شالوم". وهكذا انسحبت بمكالمة هاتفية، وقد حذا آخرون حذوي. وأنا الآن أعمل مع عدد قليل من الأشخاص الجيدين من أجل ترويج فكرتي الجديدة – القديمة، فكرة الدولة الثنائية القومية. وكما كتبت تماما في بياني فإنني أدرك اليوم أنه لا يوجد بديل آخر لتسوية النزاع. إنني متأكد من أن كل من يرى ويسمع يجب أن يدرك أن الشراكة الثنائية القومية هي القادرة فقط على انقاذنا. هي القادرة فقط على إنهاء غربتنا في أرضنا.
وفي الواقع فقد بدأ ذلك منذ وقت بعيد، في بيت العائلة في حي "مكور باروخ". عندما كنت صبيًا في العاشرة في القدس بحلول نهاية الانتداب، كان صاحب البيت الذي أقمنا فيه عربيًا إسمه جميل. البيت المجاور لنا لم يكن بملكية عرب فقط بل كان مأهولا بسكان عرب أيضا. الحي الواقع غربي البيت الذي سكنّا فيه كان حيًّا مختلطًا. في المكان الذي عمل فيه أبي، بلدية القدس، كان اليهود والعرب ايضا يعملون معا. كان ابي يصطحبني معه من حين لآخر للتنزه في احياء القدس والقرى المحيطة بها. لا زلت اذكر جيدا قرية "عين كارم" الفلسطينية، والمالحة ولفتا و"بيت مزميل". لذلك لم يكن العرب مطلقا غرباء بالنسبة لي. لقد كانوا دوما جزءا من المشهد. جزءا من البلاد. لم اشكك ابدا في امكانية العيش معهم سويا، وبكل ما لهذه الكلمة من معنى. بيت جنب بيت، وشارع بجوار شارع.
في نهاية العام 1947، اختفى العرب من حياتي. كان ذلك في فصل الشتاء، حيث كنت في منتصف الصف الثامن. والغريب ان ذلك لم يولد اي صدمة اذ جرى كل شيء بهدوء بعيدا عن اجواء الدراما. حتى انني لست واثقا اذا ما كنت قد رأيتهم حقا يحزمون حقائب السفر. لست واثقا من انني شاهدتهم يجمعون متاعهم ويتوارون في المنحدر خلف معسكر شنلر.
لكنني اذكر جيدا دير ياسين. اذكر اننا كنا نجلس في الصف بمدرسة "بيت هكيرم" الثانوية، ومن هناك شاهدنا الدخان يتصاعد من دير ياسين.
لذلك، عندما تحدثنا في الستينات في "ماتسبين" عن مبدأ المساواة فانني لم افعل ذلك من منطلق تفكير اشتراكي وحسب، او انطلاقا من مفهوم اممي ما. بل كان ذلك شيئا فطريا متأصلا لدي. كانت تلك هواجس وذكريات الطفولة، التي بقي عالقا لدي منها ذاك التساؤل بشأن المصير الذي آل اليه اولئك العرب، وتلك الرغبة الغريزية نحو جمع الخرائط الانتدابية للبحث عن القرى التي محيت من الوجود، عن الحياة التي توقفت. والشعور بان البلاد اصبحت بدون ذلك بلاد مخصية، عقيمة، مشلولة.. بلاد انشقت وابتلعت شعبا بأكمله.
لذلك وعندما تبنيت في الثمانينات حل الدولتين فقد اقدمت على ذلك بصعوبة بالغة ووسط صراع مرير مع الذات. طيلة حياتي لم انضم ابدا الى اليسار الصهيوني. ولم اتخل يوما عن الفكر الثوري. ولكن عندما ظهرت "السلام الآن" ورأيت ان هناك حركة ما في الشورع قلت لنفسي ان من الخطأ ان ابقى حبيسًا مع قوالبي الجامدة في حجرة مغلقة. وهكذا اعتقدت ان فكرة الدولتين فكرة ملائمة وجديرة بالاهتمام.
عندما تم التوصل الى اتفاق اوسلو اعتقدت ان ذلك يشكل حقا انجازًا عظيما. قرأت الاتفاقيات بتمعن وبنظرة نقدية، وتوصلت الى استنتاج بأن الامر ينطوي حقا على اعتراف متبادل، وعلى امكانية واقعية لانهاء ملف الصراع.
في منتصف التسعينيات توقفت وقفة تأمل ومراجعة لتوجهي الاخلاقي. لم ارَ ان من واجبي الذهاب الى رام الله لأستعرضَ امام الفلسطينيين قائمة مظالم وفظائع الصهيونية او ان اقول لهم: لا تننسوا ما فعله اباؤنا بآبائكم. وثقت بديناميكية عملية اوسلو، كما انني وثقت برابين، لدرجة انني انضممت بعد اغتياله الى حزب العمل.
في السنوات الاخيرة ادركت انني ارتكبت خطأ، وانني كحال الفلسطينيين وقعت في المصيدة. فقد تعاملت بجدية مع الاقوال الاسرائيلية ولم اعر انتباهي للأفعال الاسرائيلية. وعندما تبين لي ذات يوم ان المستوطنات اليهودية قد ازدادت وتضاعف حجمها، ايقنت ان اسرائيل فوتت الفرصة الوحيدة التي اتيحت لها، عندئذ توصلت الى استنتاج بأن اسرائيل لا تستطيع الفكاك او التخلص من طبيعتها التوسعية، وانها ما انفكت مشدودة من رأسها حتى اخمص قدميها الى ايديولوجيتها المؤسسة، والى ممارستها المؤسسة القائمة على الظلم والاضطهاد. ادركت ان العقبة الكأداء امام تفكيك مستوطنات تنبع من حقيقة ان الاعتراف بأن المستوطنات في الضفة الغربية تقوم على ارض فلسطينية مسلوبة، سيلقي بظلاله التي من شأنها ان تهدد ايضا "عيمق يزراعيل" (مرج ابن عامر) والمكانة الاخلاقية لـ "بيت الفا" و"عين حارود". حينئذ ادركت ان الامر ينطوي حقا على نمط عميق جدا، وان ثمة هنا سياقا تاريخيا متصلا يمتد من كيبوتس "بيت هشيطا" (قرب طبريا) وحتى مواقع الاستيطان غير الشرعية في الضفة الغربية. من "نهلال" في الشمال، وحتى "غوش قطيف" (في قطاع غزة)، وان هذا الامتداد لا يمكن بتره. كما يبدو، هذا السياق المتصل يعيدنا الى البداية ذاتها. الى المربع الاول، او اللحظة الاولى.
هل ترى الكتاب الذي اقرأه.. انه كتاب اليعزر بئيري حول بداية الصراع، وبداية المشروع الصهيوني. هنا في الصفحة 58 يصف الكاتب كيف حرث يهودا راب، في 3 نوفمبر 1887 اول تلم في اراضي "بيتح تكفا" وكيف كان شعوره بأنه "اول من يمسك بمحراث يهودي في ارض الانبياء بعد سنوات النفي الطوال". ولكن انظر لما كتب هنا: "كان العرب شركاء ايضا ليهودا راب في اليوم العظيم بتدشين موسم حرث الارض. لم يكن باستطاعته لوحده وبمحراثة الذي تجره البهائم حرث مئات الدونمات من الارض. لقد شاركه في تعبيد الارض اثنا عشر فلاحا عربيا".
فما معنى ذلك؟ هذا يعني ان يهودا راب وبعد الفي سنة من النفي لا يملك القوة الكافية لحراثة الحقل، اذا كان راغباً بالقيام بذلك لوحده. فهو يحتاج الى مساعدة الفلاحين. عندما اقرأ ذلك اقول لنفسي بأنني اعرف "راب" جيدا ومن هم احفاده، واعرف كيف سارت امور مشروعه. لكنني لا اعرف شيئا عن الفلاحين الاثني عشر. فقد ظهروا في التاريخ كأناس مجهولين واختفوا منه مجهولين تقريبا دون ان يتركوا اي اثر. اقتلعتهم الصهيونية من التاريخ. فمن هم هؤلاء؟ والى اين ذهبوا واين هم اليوم؟
من هنا فأنني كما تراني اليوم، ثوريا عجوزًا، اخذ على نفسه العثور على هؤلاء المفقودين الاثني عشر. لقد نذرت حياتي من اجل فك اسرهم من سجن التاريخ ومن اجل اعطائهم اسما ووجها وحقوقا. فكل ذنبهم بالنسبة لـ "راب" هو انهم اقاموا وعاشوا اجيالا طويلة في البلاد قبل قدومه اليها. فلماذا يجب معاقبتهم على ذلك، لماذا يجب الحرص على تغييبهم واخفائهم؟
لا اعتقد ان ذلك ضربا من جنون اعتراني شخصيا، بل العكس. اعتقد ان ذلك محاولة للتخلص من الجنون. انا لست عالم نفس، لكنني اعتقد ان كل من يعيش مع تناقضات الصهيونية يحكم على نفسه بالجنون التام والدائم.
لا يمكن العيش على هذا النحو. لا يمكن التعايش مع ظلم كبير الى هذا الحد، ومع معايير متناقضة الى هذا الحد. وعندما ارى الان ليس المستوطنات والاحتلال والقمع فحسب، بل وارى ايضا هذا الجدار الجنوني (المقصود جدار الفصل الامني) الذي يحاول الاسرائيليون الاختباء خلفه، فانني اتوصل الى استنتاج بأن ثمة شيئا عميقا جدًا هنا في تعاملنا مع ابناء البلاد، يخرجنا عن صوابنا. ثمة هنا شيء ما وراثي لا يتيح لنا الاعتراف بشكل صادق وحقيقي بالفلسطينيين ولا يتيح لنا التوصل الى سلام معهم. هذا الامر يتطلب قبل اعاده الاراضي والبيوت والاموال، واجب قيام المستوطن اولا باعادة الكرامة والاعتبار للسكان الاصليين..
لكن الاسرائيليين غير مؤهلين للقيام بذلك، فماضينا لا يتيح لنا عمل هذا الشيء. ولذلك فان ماضينا يجبرنا على الايمان بمشروع دولة قومية يهودية وهو مشروع لا أمل له في النجاح. هذا الماضي يمنعنا عن رؤية حقيقة ان كل هذه الرواية حول "السيادة اليهودية على ارض اسرائيل" قد انتهت. فحتى تكون هناك سيادة يهودية لا بد من وجود حدود، ولكن مثلما قال " طبنكين" فان هذه البلاد لا تحتمل وجود حدود داخلها. كذلك فان السيادة اليهودية تحتاج الى كيان احادي القومية، وراسخ، ومنفصل، لكن مثل هذا الكيان ينافي روح العصر ولم يعد ملائما.
لذلك حتى اذا احاطت اسرائيل نفسها الان بجدار وخندق وسور، فان كل ذلك لن يجديها نفعا. فمخاوف الاسرائيليين صحيحة وفي محلها. لقد فقدت اسرائيل كدولة يهودية القدرة على مواصلة البقاء هنا. لن تستطيع اسرائيل البقاء كدولة يهودية لفترة طويلة. انا لا اعتقد ان هناك امكانية في الوقت الراهن لحشد الجماهير وراء فكرة دولة ثنائية القومية. ولكن عندما ارى ان ميرون بنبنيستي كان مُحقا بقوله ان الاحتلال تحول الى واقع لا رجوع فيه، وعندما ارى الى اين يقود جنون السيادة اسرائيليين عقلاء، فانني ارفع راسي من بين حطام وحفر حياتنا لألوح مجددا برايتي الصغيرة. انني افعل ذلك بدون اوهام، صحيح ان ما نقوم بهع حاليا يقتصر على نفر قليل، لكن يبدو لي ان من الجدير تسجيل هذا الخيار منذ الان.
ان مبدأ ثنائية القومية يشكل في حقيقة الامر التوجه المعاكس الاكثر جذرية للجدار او السياج الامني. فهذا الجدار وان كان يهدف بالاساس الى فصل وعزل وسجن الفلسطينيين في معازل مغلقة، الا انه يسجن ايضا الاسرائيليين انفسهم. انه يحول اسرائيل ايضا الى غيتو. من هنا فان السور يشكل في الواقع حل اليأس الاكبر للمجتمع اليهودي الصهيوني، انه المحاولة المستميتة الاخيرة للعاجزين عن الوقوف امام القضية الفلسطينية، الذين لا يجدون مناصا من اقصاء الموضوع الفلسطيني خارج حياتهم ووعيهم. امام ذلك، وعوضا عن ذلك، فأنني اطرح العكس تماما.
انني اقول اننا كنا كما يبدو متسامحين اكثر من اللازم تجاه الصهيونية، وان اليهود الذين اتوا الى هذه البلاد ووجدوا انها مأهولة وان شعبا اخر يعيش فيها، تورطوا في ممارسة نمط من القوة والعنف الجامحين. لكن هذه القوة استنفذت نفسها، وبلغت اقصى طاقتها. لذلك فان اسرائيل، اذا ظلت دولة كولونيالية بطابعها، لن تتمكن من البقاء. فالمنطقة ستكون في نهاية المطاف اقوى منها وكذلك شعب البلاد الاصلي. ومن يأمل بالعيش بحد الخنجر مصيره ان يقتل ويموت بالخنجر. هذا شيء لا شك فيه.
اعتقد ان من يريد ضمان وجود تجمع يهودي في هذه البلاد لا بد له من التحرر من النمط الصهيوني. لا بد من الانفتاح. اذ لا يمكن للامور ان تسير بالصورة الحالية، التي لا تنطوي على اي امل. لن تقوم ولن تصمد دولة قومية يهودية في هذه البلاد.
من الواضح تماما انه لا سبيل للتوصل الى اي حل بدون الاعتراف المبدئي بحق العودة الفلسطينية. اذ انه حكم هنا على شعب بالنفي من وطنه ليس لانه لا يوجد له مكان وانما لان مكانه سلب من قبل اخرين. هذا الظلم لم تستطع 55 عاما محوه. ولن تمحوه 55 سنة اخرى. لكن هذا لا يعني انهم (اي اللاجئين الفلسطينيين) سيعودون الى "جماسين" التي كانت تقوم وسط "تل ابيب"، وانما يجب ان تكون الحدود مفتوحة امامهم كما هو الحال في اوروبا. كذلك يجب ان تقام في الجليل مدينة عصرية متقدمة تستوعب 200 الف او 300 الف لاجئ فلسطيني يعيشون الآن في لبنان. ويمكن ان تقام بين الخليل وغزة مدينة فلسطينية - يهودية اخرى تحيي الصحراء وتربط في ذات الوقت بين شطري فلسطين.
وبالاجمال ينبغي الانتقال للتفكير انطلاقا من مبدأ ثنائية القومية وعلى قاعدة تساوي الحقوق. ولعله يجب ان تقوم هنا، في نهاية المطاف، اسرائيل جديدة ثنائية القومية، تماما كما اقيمت في جنوب افريقيا دولة جنوب افريقيا جديدة متعددة الاعراق. اذ لن يكون هناك خيار اخر. لا مفر من التخلي عن محاولة تحقيق سيادة يهودية مغلقة ومحاطة بالاسوار. يجب ان نسلم من الآن بحقيقة اننا (كيهود) سنعيش في البلاد كأقلية. اقلية يهودية لا تكون محصورة في اكتظاظ في مساحة ضيقة بل تستطيع الاقامة في نابلس وبغداد ودمشق، وان تشارك في عملية دمقرطة الشرق الاوسط، وان تقيم مدنا مختلطة واحياء مختلطة وعائلات مختلطة.
ولكن حتى يحصل ذلك لا بد من التخلي عن هذا الحلم العقيم حول السيادة اليهودية، الذي ادى الى اراقة الكثير من الدماء، وجلب الكثير من الكوارث والمآسي. هذا الحلم الذي تمخض هنا عن مئة عام من الصراع.
بنبنيستي والتحول
ظاهريا، لا جديد في الامر. فقد قلت منذ مطلع الثمانينات ان تقسيم البلاد اصبح مستحيلا وان عملية بناء المستوطنات والاستيلاء على الاراضي خلقت هنا واقعا لا رجعة عنه. في ذلك الوقت كان عدد المستوطنين اليهود (في الضفة الغربية وقطاع عزة) لا يتجاوز 20 الف مستوطن، اما اليوم فان عددهم يصل الى 230 الف مستوطن. لذلك واضح ان عقبة كاداء قد نشأت هنا وان هذه العقبة لم تعد تتيح تغيير الوضع القائم. فلا اوسلو ولا جدار الفصل ولا الحديث عن دولة فلسطينية باستطاعتها تغيير الوضع القائم. ومن هنا فان الواقع الذي نعيش فيه اليوم اضحى واقعا ثنائي القومية، لم يعد بالامكان تجاهله او التنكر له.
ان ما يبغي عمله هو ملاءمة تفكيرنا ومفاهيمنا لهذا الواقع، والبحث عن نموذج جديد يتلاءم معه.
يجب طرح الاسئلة الصحيحة حتى اذا كانت تولد شعورا بانك تخون الصهيونية، وتتخلى عن الحلم بإقامة دولة قومية يهودية في ارض اسرائيل.
فما الجديد اذن؟ الجديد هو انني توصلت الى استنتاج بأن تحليلي للنزاع كان تحيلا مغلوطا. فقد استسهلت فرضية اليسار الاسرائيلي الصهيوني القائلة باننا ازاء صراع بين حركتين وطنيتين تتنازعان على رقعة الارض ذاتها. وعليه فقد افترضت بدوري ايضا ان الحل المنطقي السليم هو الحل الذي يستند الى "دولتين لشعبين".
غير انني توصلت خلال العامين الاخيرين الى استنتاج بأنني اخطأت، وأن ثمة هنا في واقع الامر صراعا بين مجتمع مهاجرين ابيض ومجتمع سكان اصليين. واذا كان الامر كذلك حقا فاننا نتحدث عن نوع من النزاع مختلف كليا، ونهبط من المستوى العقلاني الى مستوى اساسي تماما يتغلغل الى جذور الوجود الشخصي والجماعي. فالقضية الاساسية هنا ليست قضية الحركتين الوطنيتين المتصارعتين وانما هي قضية سكان اصليين ومستوطنين. قضية سكان اصليين يشعرون بان هؤلاء المهاجرين الذين جاءوا من وراء البحار اقتحموا بيئتهم الطبيعية وقاموا باقتلاعهم وتشريدهم.
من هذا المنطلق نشأ وضع يتغلب فيه المهاجرون المحتلون في جميع المعارك وسط استغلال عوامل التفوق التكنولوجية والثقافية التي وضعتها الحضارة الغربية تحت تصرفهم.
غير ان هؤلاء المهاجرين المحتلين اخفقوا حتى الان في الافادة من ثمار انتصاراتهم، واخفقوا حتى الآن في احلال الهدوء واشاعة نوع من الاستقرار والسلام في حياتهم.
لقد شكل ذلك بالنسبة لي اكتشافا مدويا، جاء بعد محادثات كامب ديفيد وصدمة عام 2000، بعدما تراجع الطرفان في الواقع عن الاعتراف المتبادل. عندما عدنا نحن الى رؤية الفلسطينيين كتجمع ارهابي، وعندما عادوا هم الى رؤيتنا كغرباء. عندئذ، وعندما نظرت الى هذا الشرخ الرهيب ادركت فجأة انه لا يمكن تبرير او تفسير سلوكنا في الاستيطان وتهويد الارض بواسطة مصطلحات ومفاهيم الصراع القومي فقط، وانه لا يمكن تفسير ظواهر كظاهرة الانتحاريين الفلسطينيين بمصطلحات الصراع القومي وحسب. تحت الغشاء العقلاني للصراع القومي ثمة شيء اعمق بكثير، وعليه فإننا لن ننجح ابدا في الوصول الى وضع يتخلى فيه الفلسطينييون حقا عن حق العودة ويتخلى فيه المستوطنون حقا عن "بيت ايل". ولن نستطيع ابدا الوصول الى وضع يتخلى فيه عرب اسرائيل عن مطالبتهم بحقوق جماعية. وهكذا فان الحل العقلاني ظاهريا، والداعي الى دولتين لشعبين، لا يملك فرصة التحقق او النجاح هنا. كما ان حل التقسيم الى دولتين قوميتين يعتبر نموذجا غير قابل للتطبيق. فهو لا يعكس عمق الصراع ولا يتمشى مع عمق التعقيد الناشئ في اجزاء واسعة من البلاد. كذلك لا يمكن لكل اسوار الدنيا التغلب على حقيقة ان المناخ هنا هو ذات المناخ، والهواء نفس الهواء وان كل الانهار والجداول تصب في نفس البحر. لا يمكن لكل الاسوار ان تتغلب على حقيقة ان هذه البلاد لا تحتمل حدودا داخلها.
وهكذا توصلت في السنة الاخيرة الى استنتاج بانه ما من خيار اليوم سوى التفكير بمفاهيم جديدة. التفكير بارض اسرائيل الغربية كوحدة جغرافية واحدة. ومثلما ان الحكام المتأفرقين ادركوا في لحظة معينة انه لا مفر من حل والغاء نظامهم (الكولونيالي) فان على النظام الاسرائيلي ان يدرك بانه لم يعد قادرا على فرض مفاهيمه واولوياته على 3.5 مليون فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى 1.2 مليون فلسطيني من مواطني اسرائيل، وان ما يجب القيام به هو محاولة التوصل الى وضع يقوم على المساواة الفردية والجماعية في اطار نظام واحد شامل في كل اجزاء هذه البلاد. لغاية الان لا يوجد لدي اقتراح متبلور او خطة عمل ولكن اتجاه التفكير واضح لدي.
فالنموذج الجديد هو الحل الذي يمليه الواقع. والحل الماثل امامي يجمع بين التقسيم الافقي (شراكة في الحكم) والتقسيم العمودي (تقاسم الارض)، في اطار كيان فدرالي واحد يشمل كل ارض اسرائيل الغربية، هيكل واحد تنضوي في اطاره كانتونات اثنية مختلفة، بحيث تكون للفلسطينيين مواطني اسرائيل على سبيل المثال كانتونات خاصة بهم وادارة ذاتية تعبر عن حقوقهم الجماعية، وكذلك الحال بالنسبة للمستوطنيين اليهود.. الخ. ولا بد من ان تتضمن ادارة الحكومة الفدرالية نوعا من التوازن بين المجموعتين القوميتين، حتى ولو كان هذا التوازن على قاعدة المساواة: واحد مقابل واحد.
اود ان اعترف باننا هنا ازاء بعد عاطفي، انتمائي.. فأنا اليوم في السبعين من عمري، وبالتالي يجوز لي التوصل الى تقويمات وخلاصات معينة. فقد شاركت وساهمت في كل شيء.. في الحركة وفي الجيش والكيبوتس والسياسة. انا ملح الارض وليس لدي شعور بالخجل من ذلك. انني اسرائيلي فخور ولن اسمح لأحد بالمزاودة علي او القول بأنني خائن. لن اسمح لأحد ولو كان فلسطينيا بالقول انني لست من هذه البلاد. فأنا حجر من حجارتها.. انا بالضبط ما اراد لي ابي ان اكون: احد سكان البلاد الاصليين. انا جزء طبيعي من المشهد. ولعله قد نجح حقا، فأنا ابن هذه البلاد. لكن هذه البلاد هي بلاد عاش فيها العرب دوما وكانوا مشهدها واصحابها الاصليين، ولذلك فانني لااخاف منهم، ولا اتصور نفسي اعيش هنا من دونهم. وارض اسرائيل بدون عرب هي في نظري ارض مخصية. لقد انجذبت كمواطن اصلي، الى الثقافة العربية واللغة العربية لأنها هنا.. لأنها هي البلاد، وانا في الحقيقة كنعاني جديد.. احب كل ما ينبت من هذه الارض.. بينما اليمين الاسرائيلي، بل وحتى اليسار، يكرهان العرب. ذلك يثير اسئلة اخلاقية ومشكلات ثقافية، ولذك نجد ان اليسار يريد هذا الجدار (جدار الفصل) الذي يعتبر في نظري معاديا للجغرافيا والتاريخ والانسانية. لذلك يريد اليسار الاختباء خلف هذا السور الذي يغتصب البلاد. ولذلك ايضا يفضل اليساريون الهرب من القدس، من المشهد والارض، ليقيموا في زحمة تل ابيب، لا يهمهم سوى الجري وراء الملذات واشباع غرائزهم الانانية.
صحيح ان باستطاعتك القول انني مليء بالتناقضات، وان الصيغة التي اقترحها ليست واقعية، خاصة وان الحل الفدرالي لم ينجح في اي مكان في العالم. لكن تشخيصي يعتبر تشخيصا سليما: فاسرائيل مآلها، حتى في حدود العام 1967، ان تصبح دولة ثنائية القومية، وهذا ما سيحصل بعد عشر سنوات عندما تصل نسبة سكانها العرب الى 25%. ان محاولة استقدام المزيد من المهاجرين من شتى اصقاع الارض اضحت محاولة غبية. فهؤلاء المهاجرون الجدد يمكن ان يقوضوا المجتمع الاسرائيلي من الداخل. لذلك اعتقد انه قد آن الاوان للإعتراف بان "الثورة الصهيونية" انتهت، بل ربما يجب الاعلان رسميا عن ذلك، وتحديد موعد لإلغاء قانون العودة. لقد حان الوقت للشروع بالتفكير بشكل مختلف، والتحدث بشكل مختلف، وعدم الانجرار وراء القناعة السخيفة بالدولة الفلسطينية او التعلق بسخافة جدار الفصل. مآلنا في نهاية المطاف ان نصبح هنا اقلية يهودية، وستكون المشاكل التي سيضطر ابناؤنا واحفادنا الى مواجهتها نفس المشاكل التي واجهها "دي كليرك" في جنوب افريقيا. لذلك فان النموذج الثنائي القومية هو النموذج الذي يصلح هنا. هذا هو الاتجاه. ذلك هو الوجود العقلاني الذي يتعين علينا ان نتأقلم معه.
لقد كانت الفكرة الصهيونية مشوهة سلفا. فهي لم تأخذ بنظر الاعتبار وجود مجموعة قومية اخرى في هذه البلاد. وعليه، ومنذ اللحظة التي قررت فيها الصهيونية عدم ابادة او شطب وجود السكان العرب، اضحى الحلم الصهيوني غير قابل للتحقق. فهذه البلاد لا تحتمل ببساطة وجود كيانين سياديين، وهذا لن يحصل ابدا. لذلك تغدو الامكانيات المتاحة بسيطة للغاية، فإما ان تزول احدى المجموعتين القوميتين من الوجود، او ان تستبعد احداهما الاخرى وتحكم على نفسها بالصراع الابدي، واما ان يتخلى كلاهما عن المطالبة بالسيادة الكاملة، وهذا ما يطالب به شارون الفلسطينيين اليوم، وهو ما اقترحه من جهتي على اليهود والفلسطينيين بشكل متساو.
في العام 1948 خرجت الصهيونية منتصرة حقا، فقد نجحت في تثبيت كيانها فوق 78% من مساحة البلاد. ولكنها في العام 1967 حققت نصرا اكثر من اللازم. وفي العقدين التاليين لحرب 67 حسمت مصيرها بأيديها عندما قامت بمشروع بناء المستوطنات. وقد ساهمت اتفاقيات السلام مع مصر والاردن في تفاقم حدة هذا الوضع نظرا لأنها رسمت الغلاف الخارجي لحدود ارض اسرائيل الغربية، لتحبسنا بالتالي داخل الواقع الثنائي القومية في ارض اسرائيل غير القابلة للقسمة. وهكذا لم تعد الصهيونية الآن قادرة على تحقيق حلمها. لقد تحولت (اي الصهيونية) الى ضحية لانتصارها، ضحية لتاريخ فظيع من الفرص الضائعة .
انا لست سعيدا بما اقترحه هنا. كما انني ادرك ان ذلك لا يشكل حلا حقيقيا، لأنه حتى لو تم التوصل الى اقامة اطار فدرالي معين، فانه لن يؤدي الى تحقيق السلام المنشود. لن يحل السلام هنا. كذلك فان اي حل ثنائي القومية لن يكون سوى شكل من اشكال ادارة الازمة. والحقيقة ان الوضع السائد في البلاد هو وضع حافل بالتعارضات والتناقضات وغياب الحل. ولذلك فانني اليوم انسان حزين ومتشائم. كذلك ليس من السهل علي ان اودع اليوم حلم ابي بدولة قومية يهودية. فهذا الحلم كان حلمي ايضا طوال معظم حياتي. ولكنني اخشى حقا على احفادي. اخشى عليهم كلما نظرت حولي. كيف سيعيشون هنا؟ وما الذي اتركه لهم؟! ولأنني ادرك انه لن تقوم هنا دولة قومية يهودية، ولن تقوم دولتان لشعبين، فأنني اتعلق بهذا الامل الضعيف، فلعله ينتج هنا مع كل كل ذلك شيء ما مشترك. شيء كنعاني – جديد. لعلنا نتعلم رغم كل ذلك العيش معا، وان الآخر هو جزء من المكان، مثل اشجار السرو التي نشاهدها، ومثل هذه البساتين، وكل ما تنبته هذه الارض من جوفها.
(ملحق هآرتس، 9/8/2003)