المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1335

"الإسرائيليون بالذات وطنيون، لكنهم لا يعرفون الكثير عن تاريخهم"- هكذا كُتِبَ في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في "يوم الاستقلال" العام الماضي.  ثم، وفي التتمة: 30% من تلاميذ صفوف العواشر حتى الثاني عشر لا يعرفون أن دافيد بن غوريون كان أول رئيس وزراء لإسرائيل.  30% أيضاً لم يسمعوا عن قوات "البالماح".  هذا ليس بجديد، فآرنست رينان، وهو من أوائل المنظرين لفكرة القومية، كان قد كتب في مؤلفة الشهير "ما هي الأمة"، أن العلامة أو السِمة المميزة للقومية هي عدم معرفة تاريخك.  والسؤال الذي يتبادر هنا في الحال، هل هم (الإسرائيليون) وطنيون "بالذات" بسبب جهلهم أم على الرغم من جهلهم؟  ثم ما هي الوطنية في نظرهم؟.

 

أحياناً يُخيَّل أن معنى الوطنية لدينا هو كراهية العرب.  وأن تكون أكثر وطنية يعني أن تكون كارهاً أكثر للعرب.  هل يختلف الإسرائيليون في هذا الشأن عن دول وبلدان أخرى؟

 

في الولايات المتحدة الأميركية صدر قبل فترة وجيزة كتاب واسع الإنتشار اسمه "للذي يعرف كثيراً عن التاريخ".  هنا أيضاً يتولد السؤال: هل كان بوسع الأميركيين أن يكونوا وطنيين لو عرفوا التاريخ؟  كم من الأميركيين يعرفون على سبيل المثال أنه أُبيد، أثناء استيطان أميركا الشمالية، حوالي عشرين مليون هندي أحمر؟  أو كم من الأميركيين يعرفون أنه عند تأسيس الولايات المتحدة في الولاية الأكبر، فيرجينيا، كان 40% من سكان الولاية من السود، أو بكلمة أبسط- عبيد.  كم من المواطنين الأميركيين يعون أن بداية الثراء الكبير للولايات المتحدة تعود إلى 200 سنة عبودية شنيعة، وأن حجم العبودية في الولايات المتحدة كان أضخم مما كان عليه حتى في العالم القديم.  هل أعاق ذلك الآباء المؤسسين عن تكرار العبارة الممجوجة: أميركا "بيت للناس الأحرار"؟!

ولكن لنعد إلى بلدنا.  مؤخراً رأت النور "سيرة حياة" يغئال ألون "ربيع حياته".  كان ألون قائداً لقوات "البالماح" ذاتها التي لم يَسمْع عنها أبناء الشبيبة، وكان بطل وقائد حرب الاستقلال.  ولكن كم من الإسرائيليين (الشباب) يعرفون أن ألون كان من أكبر منفذي عمليات طرد العرب خلال حرب 48؟

 

مؤلفة الكتاب أنيتا شابيرا، وهي معجبة كبيرة بـ "ألون"، كتبت أنه كان مؤيداً شديد الحماس والحزم والثبات لترحيل العرب، بل ونفذ بنفسه عمليات طرد جماعية إبان حرب 1948.  وأردفت تقول "لم يكن لدى يغئال (ألون) أي تردد تجاه هذه السياسة (خلال سنة 1948)".

 

واقتبست عنه القول في محاضرة جرت عام 1950: "أعتقد أن عملية هرب العرب كانت عملية إيجابية.  علاوة على ذلك، أعتقد أن ما قمنا به لإخلاء مناطق واسعة ذات قيمة عسكرية من السكان العرب المعادين، كان أيضاً عملاً إضطرارياً مبرراً ليس لفترة واحدة فقط، فترة القتال والمعارك، بل لفترة دائمة".

 

كذلك رأى ألون في حرب 48 "فرصة تاريخية غير متكررة لتغيير الميزان الديمغرافي والاستيطاني بين اليهود والعرب.  الفرصة التي لم يكن اليهود هم الذين أوجدوها أو بادروا لها، والتي لم يستغلها اليهود، على رأيه أيضاً، كما يجب.  وبمقدار ما كانت الأمور منوطة به، فقد عمل (ألون) كل ما في وسعه ليس فقط من أجل احتلال مناطق أرض إسرائيل، وإنما أيضاً لتفريغها من العرب" حسبما كتبت شابيرا.

 

بيني موريس، الذي استعرض هذا الكتاب (وهو الآن متفق بطبيعة الحال مع معظم المنطلقات الأساسية التي طرحها ألون)، لام شابيرا لأنها كتبت في الماضي عن الطابع "الدفاعي" لقوات "الهاغاناه" ومن ثم تحولت فيما بعد فقط للكتابة عن الطابع "الهجومي" لهذه القوات.

 

ما الذي حدث؟ - كتب موريس معلقاً-  فطيلة الوقت الذي كنا فيه ضعفاء وفي الأقلية كنا حقاً مدافعين، ولكن عندما أُتيحت لنا الفرصة، تحولنا بسرعة كبيرة إلى الهجوم !!  ويُضيف من بنات أفكاره: "لو كانت هناك خمس فرق تحت تصرف هرتسل، لكان قد أرسلها دون تردد إلى فلسطين لاحتلالها" (هآرتس"، ملحق "سفاريم"- كتب- 24/4/2004).

 

وبالعودة إلى السؤال الذي طرحناه في البداية: لو كان الجمهور الواسع يعرف ذلك فهل كان سيتمسك بـ"وطنيته" وبـ"قناعته بالطريق" ؟

فيما لو أردنا مناقشة الأمر في ضوء المزاج العام للجمهور (الإسرائيلي) في الوقت الحالي، لوجدنا أنه ليس من المتصور أن المعرفة سوف تؤدي إلى تغيير في مواقف الجمهور.

ما الذي يعنيه الطرد؟  في تلك الأيام كُنت عضواً في كيبوتس وعضواً متحمساً في حركة "هشومير هتسعير".  كُنت أؤيد دولة ثُنائية القومية، لكنني قبلت مع حركتي بدون مشاكل تُذكر حتمية تقسيم البلاد وإقامة دولة إسرائيل.  عند إندلاع حرب الإستقلال (1948) كان الكيبوتس الذي عشت فيه يُسيطر على ما يُقارب 1700 دونم أرض، ازدادت بعد انتهاء المعارك والحرب لتصل إلى قرابة عشرين ألف دونم.  فالمنطقة المحيطة بأكملها أصبحت فجأة خالية من الناس.  لم يبق سوى الشيخ هزيِّل وأفراد عائلته في أماكنهم مقابل مستوطنتنا.  لم نشعر نهائياً بأننا سلبنا من أحد أرضه، لأننا لم نُشاهد الفلسطينيين يهربون.  لذلك ظل ضميرنا مرتاحاً، خاصة في ضوء حقيقة أننا لم نأت طمعاً، ولم نكن نعبأ بتحقيق ثراء شخصي خاص.  فقد كان كل شيء مُلكاً مشتركاً للكيبوتس.

 

في يافا على سبيل المثال كان الوضع مختلفاً.  ذهبت إلى هناك بعد الحرب ورأيت كيف تبدّل السكان في مدينة بأكملها.  هنا كانت لا تزال ماثلة آثار الناس الذين سكنوا في السابق في المدينة قبل أن يخرجوا، يَهربوا، يُطردوا.  في الشقق التي اقاموا فيها استوطن السكان الجدد، من اليهود الناجين من الكارثة (النازية) في أوروبا، وكان جزء من أثاث أصحاب المنازل السابقين لا يزال في مواضعه.  أحياناً كانت لا تزال هناك صور لأفراد العائلة معلقة على الحائط.  فجأة عادت بي الذاكرة إلى زيارة سابقة كُنت قد قمت بها إلى يافا قبل سنوات طوال.  تنزهت في يافا مع صديق لي من أيام "هشومير هتسعير"، والتقينا مع عدد من الشبان اليافويين من أبناء جيلنا، ودار بيننا جدل ونقاش (ودي بالتأكيد).  أوضحنا بأننا نتطلع إلى نضال مشترك، يهودي- عربي، من أجل استقلال البلاد وقيام دولة ثُنائية القومية في كامل فلسطين. (لم أكن ملماً وقتئذٍ بتفاصيل خطة الدولة ثنائية القومية ["خطة بنطوف"] التي طرحتها حركة "هشومير هتسعير"، والتي تتحدث عن إقامة دولة ثُنائية القومية بعد أن يصبح اليهود أغلبية في البلاد، وعن استمرار الانتداب البريطاني لعشر سنوات أخرى، وفي حال لم يوافق الفلسطينيون على الخطة سيكون على الدول العظمى إجبارهم على قبولها.  رَمَقَنا الفلسطينيون بنظرة تنم عن عدم ثقة، واكتفوا بالقول وهم يومئون إلى شعارات "هشومير هتسعير" المعلقة على طية ستراتنا: "ما قيمة كل هذا الكلام، فأنتم صهيونيون".

 

أُقيمت إسرائيل بعد حرب 48 وجاء الانتصار في الحرب مصحوبًا بطرد معظم السكان المحليين، أي بكارثة قومية وخيمة- النكبة.  سُميّت حرب 48 لدينا (لدى الإسرائيليين) حرب الاستقلال.  ولكن ينبغي طرح السؤال: ممن إنتزعنا، في الواقع، استقلالنا؟!

 

كانت إسرائيل تحت انتداب بريطاني، أي تحت سلطة بريطانية، ولكننا خلال الحرب لم نُحارب البريطانيين مطلقاً.  فالحرب كانت ضد العرب والفلسطينيين.

 

في المجلد الرابع من كتاب سيرة حياة بن غوريون ("تعصب دافيد" لشبتاي طيفت) الذي صدر حديثاً، وُصِفَت عظمة بن غوريون بالذات بكونه كان قد هيأ "الييشوف" اليهودي للحرب ضد العرب قبل سنتين من اندلاعها.  أنيتا شابيرا، التي استعرضت الكتاب بحماس لافت، كتبت تقول: "لقد أدرك (بن غوريون) منذ نهاية العام 1946 ضرورة وقف النضال ضد البريطانيين وذلك بُغية ادخار قوة الييشوف العسكرية لمحاربة العرب.  وبذلك فقد كان أبعد رؤية من المتشددين والمعتدلين على حد سواء" ("هآرتس"، ملحق "سفاريم"، 10/3/2005).  من الصعب، بل ومن غير الممكن في واقع الأمر، إخراج حرب العام 48 من السياق التاريخي للحرب الحتمية ضد الشعب الذي عاش في البلاد (الشعب العربي الفلسطيني).  فقد أعلن المهاجرون منذ بداية الهجرة والاستيطان الصهيونيين في نهاية القرن التاسع عشر بأن هذه البلاد تعود لهم.  وكان مشروع جميع الأحزاب الصهيونية في البلاد يتمثل في تحقيق أغلبية يهودية، أي سلب ما للشعب الفلسطيني من حق في البلاد حتى ذلك الوقت.  وقد كان ذلك ملائماً بطبيعة الحال لروح العصر في تلك الفترة التي مثلت ذروة الكولونيالية الأوروبية.  المسوغ المركزي الذي طرحته الصهيونية لاحتلال البلاد كان واضحاً: "لنا الحق في كل البلاد".  إذن كان التبرير هو الحقوق التاريخية للشعب اليهودي، و"نجحت" الصهيونية في محطة تلو أخرى.  وبنظرة للوراء يمكن القول إن احتلال البلاد بدا أشبه بسيرورة حتمية لم يكن بوسع أية قوة الوقوف في طريقها أو منعها.  وقد بدأت هذه العملية بإقامة رأس جسر وقاعدة استيطانية أولية تحت الحكم العثماني، مروراً بوعد بلفور البريطاني الذي أتاح إقامة "الييشوف" اليهودي، وصولاً إلى حرب الاستقلال/ النكبة، ابتداء من العام 1947.  بعد ذلك جرت محاولة قصيرة لإقامة "مملكة إسرائيل الثالثة" بتواطؤ فرنسي- بريطاني سنة 1956، ومن ثم مسك الختام في احتلال كامل البلاد (فلسطين) في حرب 1967.  وفي أعقاب الاحتلال العسكري بدأت محاولة لاحتلال استيطاني كولونيالي لا زالت مستمرة حتى يومنا هذا.

 

في ذروة النجاح الإسرائيلي، وفي الوقت الذي تبسط فيه إسرائيل سيطرتها على كل أجزاء البلاد وتقف وراءها القوة الأعظم في العالم، في هذا الوقت بالذات أخذت مسيرة هذا المشروع تؤول إلى التوقف.  ولعل خطة الانفصال تُشكل فقط مظهراً لذلك.  ففي المحصلة ليس في استطاعة دولة إسرائيل فرض إرادتها على الشعب الفلسطيني.  علاوة على ذلك، فإن من يسعى إلى نقل الصراع القومي الكولونيالي إلى سِككٍ دينية أيضاً سوف يجد نفسه أمام ميزان قوى يميل في غير صالحه.

 

ينبغي في "يوم الاستقلال" الحالي بالذات، التوكيد مجدداً أن مصلحة إسرائيل تكمن في التوصل إلى حل عادل للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني.  والحل معروف أيضاً ولا داعي لاختراعه مجدداً:  فاليوم أيضاً لم يفقد حل الدولتين جاذبيته أو بريقه، هذا الحل الذي يستجيب في الجانب الفلسطيني إلى تطلع الغالبية العظمى من الشعب التواق إلى دولة مستقلة.  كذلك فإن أسس مشروع السلام معروفة أيضاً: حدود العام 67 وحل مشكلة اللاجئين على قاعدة الاعتراف بحق العودة.

 

سأُنهي بنبرة متفائلة مستعارة بالذات من مقال افتتاحي لصحيفة "هآرتس" التي كتبت تقول "في يوم الاستقلال الحالي ليس هناك شيء أكثر تفاؤلاً وأهمية للتطلع إليه أكثر من إعادة تقسيم أرض إسرائيل مجدداً، بالاتفاق وليس بالحرب، إلى دولتين، دولة إسرائيل ودولة فلسطين".

 

وتقترح مقالة "هآرتس" (وفي اعتقادي أن المقصود هنا هو حكومة إسرائيل) الابتعاد "عن البخل والجشع والتباكي والحسابات الضيقة... عدم رؤية النملة فيلاً أو التمسك بكل تلَّة وقبر وبيت، وعدم الجزع أو الخوف من قراراتٍ تاريخية".

 

فلنأمل ذلك!

 

(*) صحافي وباحث.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات