اذا كان رئيس الحكومة ارئيل شارون معنيًا حقا بتفكيك البؤر الأستيطانية ألـ 32 من بين البؤر غير القانونية (عشرات البؤر الأخرى تمت شرعنتها لاحقاً)، فهو لم يكن بحاجة الى الانتظار حتى يقوم وزير الأمن شاؤول موفاز "بدراسة الموضوع". كل المعلومات المطلوبة، بما فيها مواعيد اعادة اقامة البؤر التي تم اخلاؤها في اعقاب الاتفاق الذي توصل اليه رئيس الحكومة ايهود براك مع مجلس المستوطنات يوم 14 تشرين الأول 1999، منشورة على الملأ في مواقع الأنترنت التابعة للمجالس الأقليمية. ويمكن العثور هناك على معطيات عن عدد الكرفانات والعائلات التي تسكن في كل مستوطنة، اضافة الى معلومات عن خطط التطوير التي وضعتها وزارة الأسكان لمجموعات خارقي القانون.
الانتعاش الحاصل في سوق الأملاك اليهودية غير المنقولة في المناطق كان يجب ان تثير الغيرة والحسد في نفوس المقاولين المقدسيين الذين يعانون منذ اكثر من سنتين من تدهور غير مسبوق. كذلك، فان الحجج التي يطرحها رئيس الحكومة امام الأمريكان في ما يتعلق بخارطة الطرق تولد الانطباع بأن الجماهير الاسرائيلية التي تعاني ضائقة سكنية خانقة تتدفق على شركات البناء في أرئيل وعمانوئيل ونحليئيل (نعم، توجد مستوطنة كهذه). لكن هنا ايضا يتضح ان لا حاجة الى شركة تحريات خاصة من اجل الوصول الى المعطيات التي تؤشر على ضائقة مختلفة تماما. وبموجب المعطيات الرسمية المتوفرة لدى لجنة الانتخابات المركزية، فان المواطنين الأسرائيليين، ومنهم ايضا من يعاني ضائقة سكنية، يصوتون بالأرجل ضد المستوطنات.
ان المعطى الأكثر شدا للأنتباه في المقارنة بين انماط التصويت في المستوطنات خلال المعارك الأنتخابية الثلاث الأخيرة هو ان الهجرة غرباً، الى اسرائيل، تميز كل اصناف المستوطنات - العلمانية، والمتدينة، والمختلطة. مئات العائلات تنازلت في السنتين الأخيرتين عن امكانية حصولها على تعويضات الأخلاء. وقد نشر اكثر من مرة عن مستوطنات في غور الأردن وفي الضفة وفي قطاع غزة تعرض فيلات فاخرة للبيع بأسعار بخسة. هذا كله موثق الآن، بأرقام ولوائح وخرائط.
قبل أيام عرض بروفيسور عميرام غولدبلوم، من رؤساء "سلام الآن"، امام رئيس حزب العمل عمرام متسناع، مجموعة من اللوائح حول توجهات الهجرة في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة. اللقاء بين غولدبلوم ومتسناع عقد على خلفية ما نشر عن ان متسناع ابلغ رئيس الحكومة بأن عددا من المستوطنين في مستوطنة "ريمونيم" (في "مطيه بنيامين") توجهوا اليه شاكين عدم قدرتهم على ترك بيوتهم (لانعدام المشترين) وشراء، او استئجار، بيوت في داخل اسرائيل. اقترح متسناع على شارون ان تقدم الحكومة مساعدات للمستوطنين الذين يريدون العودة الى البيت، الى اسرائيل. شارون لم يرد.
كلما تجرأ سياسي اسرائيلي أو اجنبي على ذكر مطلب تجميد أعمال البناء في المستوطنات، يستل شارون قصة جندي وجندية أنهيا الخدمة العسكرية وكل مرادهما تكوين عائلة قريباً من منزل الوالد في "ايتمار" او "أدوره" او "معليه عاموس". قلب شارون يخفق باتجاههما. ما هو الترانسفير ان لم يكن إبعاد الأبناء عن أحضان الأهل الدافئة؟
وفقا لمعطيات لجنة الأنتخابات المركزية - الأنتخابات نفسها التي منحت شارون أغلبية ساحقة - عائلات اسرائيلية كثيرة تنفذ الترانسفير الذاتي بحق نفسها، اختياريا. النقاش الجماهيري العام في اسرائيل يتجاوز، عمداً وباصرار، السؤال الأساسي التالي: لماذا تفضل الحكومة زوجين شابين يقرران الاستيطان في قلب المناطق على زوجين شابين قدما حصتهما (واحيانا بالدماء ايضا) لتدعيم الأستيطان في المناطق، لكنهما قررا الآن ان الوقت قد حان للخروج من هناك؟ هل نقل الناس من منازلهم عائدين الى بلادهم هو "ترانسفير" يستحق الأدانة، بينما استغلال ضعف الناس الأقتصادي لمنعهم من العودة الى بلادهم هو عمل صهيوني أثير؟
* أين اختفى الناخبون؟
اذا اضفنا معطيات لجنة الانتخابات المركزية الى انطباعات بعض الاسرائيليين والفلسطينيين الموجودين في المناطق، نحصل على النتيجة التالية: اسرائيل والكيان الفلسطيني،على اختلاف فصائله، يسفكون دماء بعضهم البعض في حرب للسيطرة على مناطق يبتعد عنها، اكثر فأكثر، الناس العاديون من كلا الشعبين. فبلدات الضفة الغربية وقطاع غزة (اليهودية والعربية) تتحول، تدريجياً، الى مكان سكن لأناس يعيشون هناك إما بسبب ظروف اقتصادية وإما لأسباب ايديولوجية. وهناك ايضا بلطجيون وأوغاد.
أناس عاديون، ممن يرغبون في حياة أفضل واكثر أمنًا ولديهم القدرة على حزم حقائبهم والأنصراف، يقومون ويرحلون. مواطنون فلسطينيون من الطبقتين الوسطى والعليا، وخاصة من المسيحيين، يبتعدون غرباً عبر البحار. مواطنون اسرائيليون، من اولئك الذين كانوا يبحثون عن بيت رخيص الثمن ذي سقف أحمر، وأمامه حديقة ومناظر خلابة، يهاجرون هم ايضًا الآن غربًا. ثمة بينهم من يتوقفون في البلدات الكبيرة المتاخمة للخط الأخضر من الشرق. وآخرون يكملون الطريق حتى النهاية - الى قلب اسرائيل.
* المعطيات البارزة:
-- في 90 من بين 140 مستوطنة في الضفة الغربية وقطاع غزة، هبطت وتيرة الزيادة المتوسطة في عدد اصحاب حق الأقتراع في السنتين الأخيرتين (2001 - 2003) مقارنة بالسنتين السابقتين. هذا الهبوط ملحوظ في كل أصناف المستوطنات في المناطق. وجدير بالأشارة ان نسبة الزيادة العامة بين المستوطنين في السنتين الأخيرتين بلغت حوالي 5،9% وأصبحت قريبة من نسبة الزيادة السنوية بين السكان الفلسطينيين.
-- في 30 مستوطنة سجل هبوط في عدد اصحاب حق الأقتراع بين انتخابات 1999 وانتخابات 2003، او بين 2001 و2003. هذه الظاهرة تميز، بالأساس، المستوطنات الواقعة في عمق المناطق. في مستوطنة المتدينين الوطنيين المتطرفين "حجاي" سجل انخفاض في عدد البالغين من 133 الى 124. وفي مستوطنة "رفيح يام" في قطاع غزة انخفض عددهم من 120 الى 76.
-- في 49 مستوطنة كان الهبوط في نسبة التصويت، بالمقارنة مع انتخابات الكنيست في العام 1999 ،اكبر بكثير من المعدل القطري العام (في خمس مستوطنات فقط سجلت زيادة). من الصعب الأفتراض ان مشاركة سكان المستوطنات السياسية هي اقل من المعدل العام بين الجمهور. ومن هنا فان التفسير المنطقي لهذه الظاهرة هو ان كثيرين من اولئك الذين تركوا المناطق امتنعوا عن تغيير عناوين اقامتهم في سجل السكان وذلك لأسباب مختلفة، مثل التسهيلات في ضريبة الدخل او عدم القدرة على ايجاد مشترين لبيوتهم. وعليه، فإن عدد اصحاب حق الاقتراع المسجلين في وزارة الداخلية باعتبارهم سكان المستوطنات هو عدد مبالغ فيه كثيراً.
-- مثلاً، من الصعب الأفتراض ان 46 شخصا فقط من بين سكان مستوطنة "يفيت" الـ 116 (أي: 40%) هم الذين مارسوا حقهم في الأنتخاب. في "معاليه افرايم" سجل ارتفاع طفيف في عدد اصحاب حق الأقتراع، من 1،111 إلى 1،123، لكن نسبة التصويت المنخفضة (53 % مقابل 75 % في انتخابات 1999) يجب ان تثير الشكوك. هل يعقل ان كل مستوطن ثان في مستوطنة صغيرة نسبيًا التزم بيته في يوم الأنتخابات؟ استغراب مماثل ايضا تثيره نسبة التصويت المنخفضة في "معاليه عاموس" التي هبطت من 85 % الى 59 %.
في "أدوره" كانت نسبة التصويت منخفضة بشكل خاص ـ 57 %: من اصل 137 اصحاب حق الأقتراع، فقط 78 شخصا أدلوا بأصواتهم. لكن الذي يظهر هو ان هؤلاء اصحاب حق اقتراع مسجلون فقط. وبحسب تقارير صحفية، في اعقاب العملية القاسية التي نفذت في المستوطنة العام الماضي والأزمة التي عصفت بها على خلفية قضية بيع الأسلحة لفلسطينيين، لم يبق في هذه المستوطنة سوى 26 عائلة. يمكن الأفتراض انه حصل في "أدوره" ما حصل في مواقع اخرى، حيث تم احضار يهود جيدين ممن هجروا المستوطنة الى صناديق الأقتراع خصيصا لكي يؤدوا واجبهم الدمقراطي.
* استغراب خاص تثيره نسبة التصويت المنخفضة في "أرئيل". عدد اصحاب حق الأقتراع هناك ارتفع من 10،000 في انتخابات 1999 الى 12،079 في الأنتخابات الأخيرة. ولكن نسبة المصوتين بالفعل انخفضت من 79 % الى 65 %، وهو انخفاض لا مثيل له في كل مستوطنات الضفة. هل من المعقول ان يكون المئات من سكان "ارئيل" الذين انتقلوا للسكن في اسرائيل لا يزالون يحتفظون بعناوين اقامتهم السابقة من اجل مواصلة الأستفادة من التسهيلات والأمتيازات الضريبية ولا يكلفون أنفسهم حتى عناء الوصول الى صناديق الأقتراع؟
(عكيفا إلدار - هآرتس 6 آذار، ترجمة: "مدار")