من الصعوبة بمكان عدم الترحيب بانسحاب اسرائيل من قطاع غزة، فبعد 37 عاما من الاحتلال الاسرائيلي لا يمكن القول إن خطة رئيس الوزراء آريئيل شارون، الخاصة بالانسحاب من اراضي قطاع غزة، جاءت متأخرة او انها غير ذي قيمة. إلا ان المشكلة تكمن في ان الغرض من وراء هذه الخطة، فيما يبدو، ليس فقط الالتفاف على مسألة اتفاق الوضع النهائي، بل قطع الطريق أمام التوصل الى مثل هذا الاتفاق.
آخر محاولة للتوصل الى مثل هذا الاتفاق كانت في محادثات طابا في يناير (كانون الثاني) عام 2001، خلال الايام الاخيرة لحكومة رئيس وزراء حكومة حزب "العمل" السابقة ايهود باراك. وكانت تلك المحادثات جاءت في اعقاب خطة الرئيس الاميركي الاسبق، بيل كلينتون. خطة كلينتون، التي قبلها الطرفان ـ بتحفظات ـ في ديسمبر (كانون الاول) عام 2000، كانت في الاصل مقترحا اميركيا لتقريب وجهات النظر على اعتبار ان محادثات طابا هي الخطوة الاكثر اهمية لإنهاء اطول نزاع دولي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. إلا ان الوقت كان قصيرا وكان موعد إجراء الانتخابات قد أوشك.
قدم الطرفان وعدا باستئناف المفاوضات فور الفراغ من الانتخابات، إلا ان شارون اعلن عقب انتخابه رئيسا للحكومة انه لن يعود الى طاولة المفاوضات في ظل استمرار الارهاب. فشل شارون في وضع حد للارهاب، ولم تستأنف المحادثات بين الطرفين حتى هذه اللحظة، مع ملاحظة انه منذ مؤتمر مدريد في اكتوبر (تشرين الأول) 1991 لم يحدث ان توقفت المحادثات بين الجانبين فترة طويلة مثل هذه. ومنذ الانتفاضة الفلسطينية التي بدأت في سبتمبر (ايلول) عام 2000، بعد يوم من زيارة شارون غير الضرورية للمسجد الاقصى، قتل حوالي ألف يهودي وثلاثة أضعاف هذا العدد من الفلسطينيين.
دائرة الهجمات الارهابية والانتقامية التي بدأت آنذاك لا تزال مستمرة. اما الاعتقاد الذي ساد خلال السنوات الاخيرة بان القوة وحدها هي الكفيلة بهزيمة الجانب الآخر، فقد ثبت خطأه. وعلى خلفية اليأس وفقدان الأمل هذه اتخذت اجراءات غير رسمية بغرض العودة الى طاولة المفاوضات وطرح تفاهم متبادل يمكن ان ينهي النزاع، طرحت في هذا السياق "وثيقة جنيف" مطلع ديسمبر 2003، وهي مسودة اتفاق للحل النهائي بين الجانبين. طرحت تلك المبادرة بعد عامين من العمل المكثف بين مجموعة فلسطينية، بقيادة ياسر عبد ربه، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومجموعة اسرائيلية بقيادتي. ويمكن القول ان وثيقة مبادرة جنيف اثبتت إمكانية ردم كل الفجوات بين الطرفين، والتوصل الى قاسم مشترك على أساس روح خطة كلينتون.
احدثت مبادرة جنيف تغييرا فعليا في مواقف الرأي العام إزاء السلام، اذ حازت تأييد حوالي 40 في المائة في اوساط الرأي العام الاسرائيلي والفلسطيني، فضلا عن التأييد الواسع لها في اوساط قادة مختلف الدول، كما اثبتت انه لا يزال هناك من يمكن التحادث معه وأيضا ما يمكن التحادث بشأنه. شارون من جانبه ليس على استعداد للتنازل عن الاراضي، حسب ما نصت عليه مبادرة جنيف، التي تتضمن اقتراحا بان تكون الحدود بين اسرائيل والدولة الفلسطينية قائمة على اساس حدود عام 1967 مع تغييرات تتم على اساس متكافئ ومتبادل. مع ذلك، يدرك شارون ان الاقلية اليهودية ستكون مسيطرة على اغلبية فلسطينية خلال بضع سنوات، اذا لم تقم حدود بين الاسرائيليين والفلسطينيين. اعتمادا على هذه الخلفية جاء حديث شارون عن الانسحاب الاسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة، وبذلك تتخلى اسرائيل عن السيطرة على ما يزيد على مليون فلسطيني، لكنها ستعزز سيطرتها على الضفة الغربية وتواصل بناء الوحدات السكنية هناك، وهذه الخطة لم تتضمن مستقبل القدس وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وهما من اكثر القضايا حساسية.
كان الغرض من لقاء شارون مع الرئيس جورج بوش هو تأمين تفهم الادارة الاميركية للخطوة الاسرائيلية، ودعمها للعديد من المواقف التي ستسهل لشارون مهمة التوصل الى اتفاق بين وزراء حكومة "الليكود" وأعضاء الحزب لإجراء اسرائيل الأحادي الجانب. لا شك في ان شارون حصل من البيت الابيض على ما يريده على وجه التحديد. ومن الناحية القانونية، تضمن خطاب بوش الى شارون تمييزا بين الالتزام الاميركي والتقييم الرئاسي فيما يتعلق بمسألة حدود الوضع النهائي. إلا ان القانونيين من جانبهم من الممكن ان يدّعوا ان هذه الخطاب لا يتضمن التزاما اميركيا. كما ان كل ما كتبه الرئيس بوش الى شارون ورد في خطة الرئيس كلينتون المقدمة للطرفين.
لا شك في صحة الادعاءات التي تحدثت ان النقاط التي وردت في خطة شارون توجد في مبادرة جنيف (ضم الكتل الاستيطانية الى اسرائيل وعدم ورود ذكر حق العودة للاجئين الفلسطينيين الى اسرائيل ورسم حدود جديدة تختلف عن خط حدود عام 1967)، إلا ان مبادرة جنيف تضمنت موافقة فلسطينية، وهي موافقة اكثر اهمية من موافقة طرف ثالث. مع ذلك، فإن شارون فضل خطاب الرئيس بوش الخاص بالتفاوض مع الفلسطينيين، وكان هذا الخطاب قد ادى مهمته بالفعل. فوزراء حكومة "الليكود" اقتنعوا، ويبدو ان اعضاء "الليكود" سيدعمون موقف شارون في 2 مايو (أيار) المقبل عندما يطلب منهم التعبير عن موقفهم إزاء الانسحاب من قطاع غزة. إلا ان الحياة اكثر تعقيدا من ذلك.
الانسحاب من قطاع غزة ليس بديلا للتوصل الى اتفاق. فالانسحاب سيؤدي الى تقوية "حماس" وإضعاف العناصر البراغماتية، كما لن يضع الانسحاب في الغالب نهاية للنزاع او ازدياد الضغوط باتجاه التوصل الى حل للمشاكل التي ظلت مفتوحة بين الجانبين. من المؤكد ان شارون يعتقد ان انسحاب اسرائيل من قطاع غزة سيعفيه من إجراء مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، إلا ان النزاع سيستمر في شكل خطر على استقرار المنطقة وأمن الاطراف المعنية اذا لم يتم التوصل الى اتفاق مثل اتفاق جنيف. واذا اصبح الانسحاب من قطاع غزة حقيقة، فيجب ألاّ يسمح له بان يكون بديلا لاتفاق حول الوضع النهائي، وإنما يجب فقط ان يكون مرحلة اولى في عملية عودة الأطراف الى طاولة المفاوضات.
(خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسيز")