سياسة إغتيال القيادة السياسية لحركة "حماس"، والتي كان من آخر ضحاياها الشيخ أحمد ياسين ود. عبد العزيز الرنتيسي، تشكل مرحلةً خطيرةً في تدهور إسرائيل الأخلاقي. وتسعى حكومة اسرائيل الى تهيئة الأرضية لتنفيذ خطة "فك الإرتباط" عن طريق تصعيد العدوان وتوسيع دائرة الدماء، وبهذا فإنها تحقق تغييراً جوهريًا في سياستها العدوانية وتنفذ ما يمكن تسميته بـ "إبادة شعب رمزية".
لم ينجح الشعب اليهودي، بكونه الضحية المناوبة لسياسة "إبادة الشعب"، في التحرر من صدمة "الكارثة" وما سببته من ضياع للأمن، وهو يحارب الفلسطينيين وكأنهم تهديد على وجوده، مع عدم المقدرة على التمييز بين تهديدات ملموسة وأخرى وهميّة، بين الضحية والجلاد. إن حكومة الدولة اليهودية تنفّذ الآن إبادة رمزية للشعب الفلسطيني. ولكون العالم لا يسمح بإبادة كاملة، فإن ما يجري هو إبادة رمزية. وهذا أمر محزن، محبط، ويستدعي رداً. وأنا كأبن للشعب اليهودي وكمواطن إسرائيلي ينتابه القلق، أستنكر هذا العمل المثير للإشمئزاز وادعو الأسرة العالمية وخاصة الاوروبيين إلى إنقاذ إسرائيل من نفسها، أدعوهم إلى أن يتدخلوا بصورة مباشرة وفعالة لمنع سفك الدماء المتبادل والمتوقع. لم تنته بعد العلاقة المعقدة بين الشعب اليهودي واوروبا وآن الآوان من أجل فعل شيء ما، ليس نابعاً من شعور بالذنب إنما من مشاعر مسؤولة حيال المستقبل..
ما هي "إبادة الشعب الرمزية"؟؟.. لكل شعب ثمة رموز، قيادات وطنية وتنظيمات سياسية، ارض الوطن، أجيال الماضي والمستقبل، الآمال، كل هذه تمثل رموزاً للشعب. إسرائيل تمس بها وتدمرها، وتغتالها بمنهجية وجفاف بيرقراطي لا يوصفان، إذ يطلق جيش الدفاع إسم "بنك الأهداف" على قائمة القياديين الفلسطينيين المرشحين للإغتيال، وفي "بنك الأهداف" توجد كل القيادة التي ترمز للشعب الفلسطيني وعلى رأسها ياسر عرفات. قبل عدة أشهر إدعى وزير الدفاع الإسرائيلي بأنه يجب تصفية ياسر عرفات، والآن، وبعد "العملية الناجحة" باغتيال الشيخ أحمد ياسين، طرحت هذه الفكرة الآثمة ثانية على أنها نقاش جماهيري مشروع .
عرفات مسجون في رام الله منذ كانون الأول 2001 ولم يقدر أحد على تغيير موقف إسرائيل من اجل إتاحة حرية التنقل لقائد الفلسطينيين. إن سجن ياسر عرفات في رام الله بات رمزاً لسجن الشعب الفلسطيني داخل القرى والمدن الفلسطينية المحاطة من كل جانب بحواجز جيش الدفاع، الذي يراقب تحركاتهم.
أرض فلسطين مسلوبة من قبل المستوطنات، ومقسمة نتيجة الحواجز العسكرية، واليوم هذه الأرض مفككة رسمياً على يدي ما يسمونه بلغة البيروقراطية "الجدار الأمني"، وهو ليس إلا تفكيكاً للمساحة الأخيرة التي بقيت للشعب الفلسطيني كي يحلم بها كقاعدة إقليمية لقيام دولة مستقلة، ما معناه أن عملية حكومة إسرائيل مثابرة وتحت غطاء مغسلة كلمات "خارطة الطريق" و "المسيرة السلمية" فإنها تغتال ليس فقط القياديين الفلسطينيين، بل المستقبل الفعلي للفلسطينيين وآمالهم بنيل الإستقلال أيضاً.
حجة شارون هي أنه لا مفاوضات في ظل العمليات التفجيرية، ولكن حتى عندما أعلن الفلسطينيون عن وقف لإطلاق النار بشكل أحادي الجانب في كانون الاول 2001 وفي حزيران 2003، لم يوافق شارون على دفع "المسيرة السلمية" الى الأمام، وفي نهاية المطاف توقف الهدوء عن طريق الرجوع الى سياسة "الإغتيالات".
إن رد فعل الدول الاوروبية، التي أعربت عن "القلق حيال إستمرار المسيرة السياسية" في أعقاب إغتيال الشيخ احمد ياسين، يثير السخرية، ويمنح جائزة لحكومة إسرائيل غير المعنية أصلاً بحل سياسي. عن أية "مسيرة سياسية" يجري الحديث ؟ ماذا جرى من ناحية "سياسية" منذ قيام حكومة شارون في شباط 2001؟ كان هناك تقرير ميتشيل، خطة زيني، خطة تينيت، ومن بعدها جاء "خطاب بوش" وبرنامج "خارطة الطريق" اللذان طلبا إصلاحات من الفلسطينيين ووعداهم بـ "دولة ذات حدود مؤقتة" عام 2003 وب "دولة مستقلة" في الـ 2005. ماذا تبقى من كل هذا؟ انتخب رئيس وزراء فلسطيني، أبو مازن، وحكومة إسرائيل أهانته الى أن قدم إستقالته، انتخب ابو علاء وماذا تطور معه؟! وكانت المقولة إن من حق إسرائيل الدفاع عن النفس بمثابة رد فعل آخر. عن أي دفاع يجري الحديث بعد 37 عاماً من الإحتلال؟ كيف من الممكن إطلاق إسم "دفاع" على عمليات تكرّس الإحتلال؟ إن الدفاع المشروع والوحيد هو فقط عن حدود إسرائيل القانونية ومن داخل إسرائيل، وليس عن طريق إحتلال المناطق وسلب حرية شعب كامل. الارهاب هو رد فعل، رد فعل مريع، قاس، غير إنساني، غير أخلاقي، لكنه رد فعل ويجب معالجة السبب وليس فقط النتيجة.
إن الحديث عن "مسيرة سلمية" وعن "حق الدفاع" ما هو الا تضليل للتغطية على "إبادة الشعب الرمزية" التي تنفذها حكومة إسرائيل. في البداية إغتالت الصلاحية، المؤسسات والبنية التحتية للسلطة الوطنية الفلسطينية والآن تقضي على ما تبقى من آمالها، فهي تقتل قياديين ومواطنين، رجالاً ونساءً، اولاد ومسنين، بإدعاء ان "أهداف التصفية" تستتر وراء المواطنين. لقد حوّلت حكومة إسرائيل الفلسطينيين الى شعب من الشهداء وحولت الصراع الشرق أوسطي الى حرب دينية شاملة.
سياسة حكومة إسرائيل خطيرة. وهي تشكل خطرًا يتهدد وجود الشعب الفلسطيني، لكنه يتهدد أيضا دولة إسرائيل ومواطنيها، ويتهدد كذلك الشرق الاوسط كله. الحكومة تجّر الشعب الى مجابهة نابعة من الثأر ولا تبني مستقبلاً. وفي ظل غياب سلطة فلسطينية وقوة فلسطينية للدفاع في مواجهة اسرائيل يبقى الحل الوحيد هو تدخل عالمي، وإرسال قوة سلام من الأمم المتحدة (وليس من الولايات المتحدة!!) لتحرس الفلسطينيين أولا،ً وبطريقة غير مباشرة الإسرائيليين أيضًا، لأنه ما دام بقي الفلسطينيون تحت الخطر فإننا لن نظل محصنين.
لا شك بأن تدخلا كهذا سيفسر على انه إنتصار فلسطيني، واسرائيل طبعا لن ترغب به، ولكن من دون شعور بإنجاز سياسي ذي معنى للفلسطينيين لا يمكن تهدئة الخواطر والصراع. وعندها فقط نستطيع التحدث تحت مظلة عالمية عن حل نهائي. من دون إيقاف دائرة الدم والعنف، والإنتقام، لا يوجد إحتمال لهذا. هذه مسؤولية العالم وعلى رأسه اوروبا التي يجب ان توقف حكومة اسرائيل . ولديها الآليات لذلك.
حان الوقت لإظهار الإرادة. بضعة أشهر من الحرمان الإقتصادي تكفي لإقناع غالبية الإسرائيليين بحنكة سياسة للتدخل العالمي. وإن السكوت في أوضاع مثل هذه يعني تسليما بها.
(*) أستاذ جامعي اسرائيلي والمقال أعلاه نشر في صحيفة بلجيكية غداة إغتيال الشيخ أحمد ياسين وأثار ضد كاتبه حنق المؤسسة الاسرائيلية.