المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1056

      قرأ الخطاب من الورقة، كلمة بكلمة، دون أن يرفع عينيه وينظر إلى الجمهور.

    الدقة في القراءة كانت مطلوبة، لأن هذا النص كان نصا مشفرا. لا يمكن فهمه دون فك الشيفرة، ولا يمكننا فك الشيفرة دون أن نفهم شارون بشكل جيد.

     لذلك كان وابل التحليلات في البلاد والعالم مثيرا للسخرية، فالمحللون لم يفهموا ما سمعوه ولذلك كتبوا ما معناه "لم يقل شيئا جديدا"، "ليس لديه خطة"، "إنه يسير في مكانه"، "إنه شيخ هرم". وقد تفوق رد فعل وزارة الخارجية الأمريكية على كل هذه الأمور، التي أعلنت بأن هذه "خطوة في طريق السلام".

 

     هذا هراء. يتضمن خطاب شارون خطة كاملة، مفصلة  وخطيرة بشكل منقطع النظير. من لا يفهم ذلك، من بين الإسرائيليين والفلسطينيين والدبلوماسيين الأجانب، لن يكون قادرا على الرد عليها كما يجب.

 

     فيما يلي فك تشفير أقوال شارون:

 

     اسم اللعبة هو "الانفصال". هذا يعني أن أغلبية مساحة الضفة الغربية ستتحول عمليا إلى جزء من إسرائيل، أما ما تبقى من المناطق فسوف نتركه للفلسطينيين، بحيث يقبعون داخل قطاعات معزولة. سنخرج المستوطنات من هذه القطاعات.

 

     المرحلة الأولى: لتنفيذ ذلك، نحتاج إلى وقت يعادل نصف سنة، فنحن أمام حملة عسكرية كبيرة ومعقدة. على الجيش إعادة انتشاره على خطوط جديدة والمرابطة فيها، وفي هذه الأثناء يتم "نسخ" عشرات المستوطنات المعزولة. يحتاج هذا إلى تخطيط دقيق لم يبدأ بعد. يجب بناء القوات وتجهيز المعدات اللازمة، وسيحتاج ذلك إلى نصف سنة على الأقل.

 

    في هذا الوقت، لن نجلس مكتوفي الأيدي، بل على العكس سنكمل بناء "الجدار الفاصل"، الذي سيقوم بوظيفة حيوية ضمن إعادة الانتشار. سنستمر في تطوير "الكتل الاستيطانية" بشكل مكثف، والتي سننقل إليها المستوطنين الذين تم إخلاؤهم.

 

     إن تحديد وقت تنفيذ الخطة، بعد نصف سنة من الآن، هو موعد مثالي من الناحية السياسية أيضا. ففي ذلك الحين ستصل الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة إلى أوجها. لن يجرؤ أي سياسي أمريكي على التفوه بأية كلمة ضد إسرائيل. يحتاج الديمقراطيون إلى أصوات اليهود وأموالهم. أما الجمهوريون فسيحتاجون إلى أصوات المتطرفين المسيحيين وأموالهم، وهم الذين يؤيدون الخط الإسرائيلي الأكثر تطرفا.

 

     في الوقت الذي نقوم فيه بالتحضير لهذه الحملة بهدوء سنستمر بالتملق أمام الرئيس بوش وكيل المديح "لخارطة الطريق" الحمقاء التي بادر إليها، وذلك بالطبع دون الوفاء بأي التزام التزمنا به وفق "الخارطة"، ولكننا سنتهم الفلسطينيين بالإخلال بها.

 

     سنتظاهر، في هذه الأثناء، وكأننا نصبو إلى التفاهم مع الفلسطينيين. سنحاول إجراء لقاءات مع أبو العلاء قدر الإمكان وسنلعب اللعبة حتى نهايتها. فور إتمام استعداداتنا للتنفيذ، سنوقف الاتصالات وسنعلن أن "خارطة الطريق" قد فشلت وأن كل محاولات الشروع بمحادثات السلام قد باءت بالفشل، وسنحمل عرفات المسؤولية بالطبع.

 

     المرحلة الثانية: عندما نكون مستعدين، سنبدأ عملية الانفصال.

 

     سنكون قد انتهينا، حتى ذلك الحين، من بناء "الجدار الفاصل". المناطق الفلسطينية (منطقتي A و-B حسب أوسلو) ستكونان مطوقتان من كل الجهات. من الناحية العملية سيكون هناك حوالي اثني عشر جيبا معزولا. وبهدف الوفاء بالتزامنا بإتاحة "تواصل جغرافي" سنقوم بوصل القطاعات فيما بينها بواسطة طرق خاصة، جسور وأنفاق، يكون بإمكاننا إغلاقها في أية لحظة.

 

     سينسحب الجيش بالتدريج إلى ما بعد الجدار، وسيعيد انتشاره في كل المناطق التي سنضمها إلينا ومن بينها مناطق كرني شومرون وإلكناه؛ أريئيل وكدوميم؛ طريق موديعين والمناطق الواقعة على جنوبه حتى الخط الأخضر؛ كل منطقة القدس الكبرى التي تم ضمها منذ عام 1967؛ الأحياء الجديدة المتاخمة للقدس حتى معاليه أدوميم وما وراءها؛ منطقة بيت إيل، بسغاه وعوفراه؛ منطقة عتسيون الموسعة مع إفرات وتكواع؛ الحي اليهودي في الخليل وكريات أربع مع المستوطنات الموجودة في جبل الخليل؛ شاطئ البحر الميت كله؛ غور الأردن كله، بعرض 15 كيلومترا وأكثر. سيكون مجمل مساحة كل هذه المناطق أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية.

 

     لن نضم المناطق بشكل رسمي بواسطة تطبيق القانون الإسرائيلي فيها، فليس لذلك حاجة. ولكننا سوف نضمها بشكل فعلي بسرعة كبيرة: سوف نملأها بالمستوطنات الجديدة (لهذا الهدف نحتاج إلى المستوطنين الذين "سننسخهم")، مناطق صناعية، طرقات، مؤسسات عامة ومعسكرات للجيش بحيث لا تختلف هذه المناطق عن أي منطقة أخرى في إسرائيل.

 

     في هذا الوقت سنخلي المستوطنات الواقعة خلف الجدار، وبما فيها المستوطنات الواقعة في قطاع غزة (مع غوش قطيف أو بدونها).

 

     وكما اقترح الأمريكيون، سنطلق على هذه المناطق الفلسطينية اسم "دولة فلسطينية بحدود مؤقتة". هذا ما سيوهم الفلسطينيين بأن بإمكانهم إجراء محادثات فيما يتعلق بالحدود الدائمة. ولكن من المفهوم ضمنا أن "الجدار الفاصل" هو الحدود الدائمة.

 

     لن ينتهي الإرهاب تماما، ولكن سيتم القضاء عليه بالتدريج. كل القطاعات الفلسطينية ستكون رهن ما نقدمه لها من حسنات، وسيكون بإمكاننا فصل كل منها في أي وقت، بهدف منع التنقل فيما بينها وبهدف جعل الحياة فيها مستحيلة، بحيث لا يكون مُجدٍ للفلسطينيين الاستمرار في انتهاج الإرهاب. سنتيح للفلسطينيين، لأول وهلة، الوصول إلى المعابر الحدودية مع الأردن ومصر، ولكننا سنبقي هناك، من الناحية الفعلية، وجودا عسكريا ناجعا. سيكون بإمكاننا وقف التنقل في أي وقت نريد.

 

     في أول الأمر سينتفض العالم ولكنه سيهدأ أمام الأمر الواقع. حتى وإن بقي بوش في البيت الأبيض، فسيبقى مشلولا حتى نهاية عام 2004. أما إذا تم انتخاب مرشح ديمقراطي، فستمر بضعة أشهر حتى يتدبر أموره. سيكون كل شيء قد انتهى حتى ذلك الحين وسنكون مستعدين للموافقة، عن حسن نية، على بعض التعديلات هنا وهناك.

 

     إلى هنا الخطة. هل يمكن تنفيذها؟

 

     من الممكن جدا أن ينجح شارون في إقناع الرأي العام في إسرائيل. الأغلبية العظمى في الجمهور موحدة حول نقطتين: (أ) التطلع إلى السلام والأمن؛ و (ب) انعدام ثقتهم بالعرب وانعدام نيتهم في التعامل معهم. (قبل عدة أسابيع نشرت الزاوية الساخرة "دفار أحير" شعارا ساخرا: "نعم للسلام، لا للفلسطينيين".

 

     تضمن خطة شارون، لأول وهلة، هاتين النقطتين. إنها تضمن السلام والأمن وستكون كلها "أحادية الجانب". فهي لن تحتاج إلى محادثات مع العرب، ولن تكون متعلقة بإرادة العرب وستتيح تجاهلهم تماما.

 

     من هذه الناحية، تتمتع خطة شارون بامتياز أمام مبادرة جينيف، التي ترتكز كلها على الافتراض بأنه "يوجد شريك"، وأن علينا إجراء محادثات مع الفلسطينيين وإحلال السلام معهم. لقد أقنعت السنوات الطويلة من غسيل الدماغ، الذي تصدره إيهود براك وكافة الزعماء الآخرين في "اليسار الصهيوني"، الجمهور أنه ليس هناك من شريك وأن العرب مخادعون، وأن عرفات قد أخل بكل الاتفاقيات التي وقع عليها، الخ... تتلاءم خطة شارون وهذه الأساطير، أما مبادرة جينيف فتتعارض وإياها.

 

     غير أنه تعترض طريق تحقيق خطة شارون عثرتان كبيرتان: المستوطنون والفلسطينيون.

 

     بين سكان المستوطنات المرشحة "للنسخ" تتواجد الركائز الأكثر تطرفا في الحركة الاستيطانية. لا يوجد أي احتمال في أن يغادر هؤلاء بمحض إرادتهم. ستقضي الحاجة بإخلائهم بالقوة.

 

     سيكون ذلك بمثابة حملة هائلة، وحتى لو وافق بعض المستوطنين على الإخلاء مقابل تعويضات سخية. وفق التقديرات ستكون هناك حاجة لـ 5000 جندي ورجل شرطة على الأقل لإخلاء "بؤرة استيطانية" صغيرة واحدة: كرفان على مقربة من عوفراه، كان من شأن شارون أن يخليه في إطار "خارطة الطريق". عندما سيكون الأمر متعلقا بإخلاء عشرات المستوطنات الكبيرة والمتمكنة، سيكون ذلك حملة هائلة، أشبه بالحرب، وتحتاج إلى تجنيد عام بكل ما ينطوي عليها من تأثيرات سياسية داخلية.

 

     لن يكون الجيش مستعدا، ولن يكون بإمكانه أيضا، الخروج من هذه المناطق تاركا المستوطنات خلفه. طالما بقيت المستوطنات هناك فسيبقى الجيش أيضا. بما معناه: لن يكون تنفيذ الخطة سريعا بلمح البصر كما كانت الليلة الأخيرة في جنوب لبنان، بل ستكون عملية تستغرق أشهر وربما سنين.

 

في الوقت الذي سيكون انتشار الجيش فيه، في المناطق التي سيتم ضمها بشكل فعلي إلى إسرائيل، سريعا وناجعا، سيكون تسليم باقي المناطق إلى الفلسطينيين بطيئا جدا.

 

     إنه وهم بأن نعتقد أن الفلسطينيين سيقفون مكتوفي الأيدي كل ذلك الوقت. فهم سيعتبرون تنفيذ الخطة، وبحق، مؤامرة للقضاء على تطلعات الشعب الفلسطيني الوطنية. من الواضح أنه لن يكون هناك مكان لعودة اللاجئين إلى هذه القطاعات الفلسطينية، ناهيك عن عودة اللاجئين إلى إسرائيل. إن تسمية هذه البنية "دولة فلسطينية" سيكون بمثابة استهزاء.

 

     إذا نجح شارون في تنفيذ خطته، ستفتح صفحة جديدة في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني الدائم منذ 100 سنة. سيُحشر الفلسطينيون في مساحات تشكل حوالي 10% من مساحة فلسطين في فترة الانتداب. لن تكون أمامهم أية فرصة لتوسيع هذه المناطق بطرق سلمية. بل على العكس: سيتخوفون من محاولة شارون ومن سيخلفه، لطردهم مما تبقى لديهم، وحتى الوصول إلى تطهيرهم العرقي.

 

     لذلك سيتصدى الفلسطينيون لهذه الخطة وسيتعاظم نضالهم مع تقدمها. سيستخدمون في هذا النضال كافة الوسائل الممكنة – إطلاق الصواريخ والقذائف إلى المناطق الواقعة خلف الجدار الفاصل، تسلل المنتحرين إلى داخل إسرائيل، وغيرها. من شبه المؤكد أن ينتشر الكفاح العنيف في كافة أرجاء العالم، على اليابسة وفي الجو. لن يسود سلام ولن يسود الأمن بالتأكيد.

 

     في نهاية الأمر سترجح العوامل الأساسية الكفة: قدرة التحمل لدى الشعبين، استعداد الطرفين للاستمرار في النزاع الدموي، بكل ما في ذلك من تأثيرات اقتصادية واجتماعية، واستعداد العالم للمواجهة.

 

    إن فكرة "السلام أحادي الجانب" هي تجديد عالمي. "سلام بدون الطرف الآخر" هو أمر ينفي ذاته. يدعى ذلك بلغة المثقفين "أوكسيمورون"، وهي كلمة يونانية ترجمتها الحرفية "البلاهة المتقدة".

 

     سيكون مصير هذه الخطة كسائر الخطط الجهنمية التي أبتدعها شارون طيلة ماضيه. يكفينا أن نتذكر حرب لبنان، وثمنها.

 

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر, موديعين

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات