المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1076

كل مشاهد يعرف الجسر الواصل بين آخر مبنيين مما بقي في قلب الخراب في المقاطعة في رام الله.

     عندما زرت المكان آخر مرة، أشار أحد الضباط الفلسطينيين إلى طاولة وكرسي بسيطين، بجانب إحدى نوافذ ذلك الجسر. يظهر من  خلف النافذة منظر فلسطيني واسع الأفق. قال لي الضابط: "هذا هو المكان المحبب إلى قلب أبي عمار، فهو يجلس فيه في أوقات الراحة بين الجلسات ويرقب هذا المنظر".

 

     قبل 21 عاما، عندما التقيت به لأول مرة في بيروت، كان أحد أكثر الزعماء تنقلا  في العالم، إن لم يكن أكثرهم. وقد روى في إحدى المرات بأنه قام بزيارة سبع دول في السنوات الخمس الأخيرة، حيث كان ينام في الطائرة أثناء التنقل من دولة إلى أخرى. وقد كانت رقبته آنذاك تتهددها المقاصل. أما الآن فهو سجين في المقاطعة منذ سنتين. ويعيش في بعض الأحيان، عندما يضيق الخناق عليه، في ظروف قاسية أكثر من تلك الظروف السائدة في السجون: في غرفة محكمة الإغلاق، بدون أكسجين، وبدون ماء تقريبا، والمجاري مسدودة، وهو يعرف بأن من شأن الجنود اقتحام المكان في أية لحظة، لقتله.

    بعد أيام قليلة سيبلغ من العمر 74 عاما. وسيقضي عيد ميلاده في سجنه.

     

     وهذه فرصة لإجراء استعراض مرحلي لحياة هذا الرجل وإنجازاته.

     إنه الزعيم الذي يتصدر، منذ فترة طويلة، الحلبة الدولية، أكثر من أي زعيم آخر، فيما عدا فيدل كاسترو. وقد كان العديد من الزعماء الحاليين، مثل بوش وبلير، أطفالا عندما أخذ زمام المبادرة لتحمل مسؤولية الشعب الفلسطيني.

      يتعرفون على وجهه في كافة أرجاء العالم بسهولة.

     إنه أحد أكثر السياسيين الذين يفترى عليهم في العالم، ولربما أكثرهم.

     إنه أكثر الأشخاص المكروهين في إسرائيل. اليمينيون واليساريون يتبارون فيما بينهم على التعبير عن كراهيتهم  له. وكل مقال يكتبه "يساري" إسرائيلي تقريبا يبدأ بالافتراء على عرفات.

     إنه أكثر زعيم محبب على قلوب شعبه، ويبدو بأنه أيضا أكثر زعيم محبب على قلوب الجماهير في العالم العربي والإسلامي.

     هذا ليس بالقليل لشخص مثله قد بلغ الآن من العمر 74 عاما.

                                                 

     أما الصفة التي التصقت به أكثر من أي شيء آخر فهي "الرمز". فحتى المعارضة الفلسطينية تكنّيه بـ "رمز الشعب الفلسطيني". هذا صحيح، ولكن هذا من شأنه أيضا أن يوقعنا في الخطأ.

     يمكن لهذه التسمية أن توقعنا في الخطأ لأن "الرمز" هو شخص ينصبون له النصب التذكارية ويعلقون صوره على الجدران. رئيس الدولة في إسرائيل هو رمز، وكذلك رؤساء ألمانيا وإيطاليا، أما ياسر عرفات فهو زعيم نشط للغاية، وهو شخصية فعالة في الشعب الفلسطيني.

     إلا أن هذا اللقب يظل صحيحا رغم ذلك، فنهج عرفات، منذ البداية كزعيم لمجموعة من اللاجئين وحتى اليوم، حيث تؤيد العالم بأسره إقامة الدولة الفلسطينية، هو نهج يعبر بشكل لم يسبق له مثيل عن حرب الاستنزاف التي يخوضها الشعب الفلسطيني وعن معاناته وتصميمه وشجاعته، أكثر مما يعبر عن الرجل المحاصر في المقاطعة، وهي سجن داخل سجن (رام الله) داخل سجن (فلسطين كلها).     

     لقد كتب الكثير عن فترة حياته الأولى. عن أبيه الذي ولد في غزة وعاش في مصر، عن أمه التي توفيت في صغره وعن طفولته في بيت عائلة أمه في القدس.

     يكثر عرفات، في الآونة الأخيرة الحديث مع أصدقائه الفلسطينيين  والإسرائيليين وأصدقاء من كافة أنحاء العالم حول تلك السنوات السعيدة.  عندما كان يلعب مع الأطفال اليهود بجانب حائط المبكى وفي حي المغاربة. أما حياته في أحضان عائلة أبيه في مصر، فلا تثير في نفسه، على ما يبدو، الكثير من الذكريات.

     عرفات يحب دائما أن يذكر أنه تعلم موضوع الهندسة.أما ذاكرته الأسطورية، وخاصة فيما يتعلق بتذكر الأرقام والمعطيات الأخرى، فيعزوها إلى ذلك الموضوع الذي تعلمه. ففي أكثر من مرة، صحّح أمامي المعطيات والأرقام التي كنت أذكرها له – كم كان عدد ممثلي أغودات يسرائيل في الكنيست. ما هي  نسبة  أراضي الضفة الغربية التي سيكون شارون على استعداد "للتبرع بها" للدولة الفلسطينية في إطار "تنازلاته الموجعة".

     لقد بدأت مسيرته السياسية في رابطة الطلاب الجامعيين في القاهرة. وقد حصلت هذه المسيرة على معنى تاريخي عندما انتقل إلى الكويت، للعمل هناك كمهندس. إلا انه بدل ذلك أقام منظمة فتح، حركة التحرير الفلسطينية الأولى منذ نكبة 1948.

     التحرير ممن؟ لأول وهلة إسرائيل. ولكن عمليا، كان هذا التحرير هو التحرر من الزعامة العربية. لا يمكننا فهم عرفات دون التعرف على هذه الحقبة المهمة من حياته.

     في أواخر الخمسينيات، أصبحت القضية الفلسطينية بمثابة كرة في الملعب العربي الداخلي. فكل زعيم عربي كان يستخدمها للوصول إلى أعلى منزلة في العالم العربي، وبهدف الانتصار على خصومه. جمال عبد الناصر في مصر، عبد الكريم قاسم في العراق، الملك الحسين الشاب في الأردن وأمثالهم في سوريا والمغرب وسائر الأقطار العربية- كل منهم نصّب نفسه مدافعا عن الشعب الفلسطيني، قامعا بقسوة أي ظهور فلسطيني مستقل. وقد تحولت قضية "استقلال القرار الفلسطيني" إلى هدف مقدس.

    نشأت حركت فتح في هذا الواقع. عرفات وزملاؤه أرادوا إخراج القضية الفلسطينية من بين أيدي الزعماء العرب. لم تتمتع الحركة الجديدة بالقوة والمال والسلاح. لم يكن لها قاعدة حرة في أي مكان. وكان من الممكن القبض على نشطائها من قبل المخابرات في أي دولة عربية، في حال لم يرضخوا إلى إرادة الزعيم المحلي. لقد حدث ذلك للنشطاء الفلسطينيين عدة مرات، وقد وصلت الأمور إلى ذروتها عندما سجن زعيم سوريا زعامة فتح كلها، وعلى رأسهم عرفات. وقد بقيت أم جهاد فقط، وهي زوجة أبي جهاد (واليوم وزيرة في الحكومة الفلسطينية) وحدها خارج السجن، فاستلمت زمام المبادرة وقيادة كافة مقاتلي الحركة.

     بهدف بقاء حركته، كان على عرفات مناورة الزعماء العرب، والتملق أمام الذين يمقتهم، وطأطأة رأسه أمام زعماء لم تكن القضية الفلسطينية تعنيهم بقدر حبة العدس. وكما قالت لي شخصية فلسطينية معروفة: "من أجل بقاء شعبنا كان عليه أن يكذب، أن يناور، أن يتحدث بلسانين، أن يتصرف بحنكة، أن يستخدم الحيلة. وهكذا ولدت اللغة العرفاتية المميزة."

     رغم تنكيل الأنظمة العربية، وبمساعدة هذه الأساليب، تعاظمت قوة حركة فتح تدريجيا. وقد بادر عبد الناصر، بهدف سد الطريق على الحركة وإخضاع الفلسطينيين للمصالح المصرية، بادر في بداية الستينيات إلى إقامة منظمة التحرير الفلسطينية، وقام بتنصيب ديماغوغ مسن عليها اسمه أحمد الشقيري. ولكن حرب حزيران أخفضت من ألمعية زعماء القاهرة وعمان ودمشق.  معركة الكرامة عام 1968، التي انتصر فيها مقاتلو فتح بقيادة عرفات ضد قوات الجيش الإسرائيلي التي أرسلت للقضاء عليهم، رفعت من منزلة حركة فتح إلى أرفع المستويات: بعد أن سحقت الجيوش العربية بشكل مخجل، مقاتلو فتح هم الذين صمدوا ببطولة. وكانت النتيجة: سيطرة فتح على منظمة التحرير وتحول عرفات إلى زعيم الأمة.

     كل الزعماء العرب الذين كان على عرفات أن يواجههم في تلك الفترة توفوا أو قتلوا، أما عرفات فقد بقي حيا.

    

     من الممكن أن تكون قدرته على توحيد الصف الفلسطيني، على مدى السنين، هي أهم إنجازاته كزعيم وطني.

     أغلبية حركات التحرير تعرضت إلى حرب ضروس بين الإخوة، وتعرضت أيضا إلى انشقاقات وصراعات داخلية عنيفة. كما وواجهت الحركة السرية العبرية ظواهر مثل "السيزون" وفضيحة "أطلنطا". أما الفلسطينيين الذين واجهوا مصير أصعب بكثير من أي حركة تحرير أخرى، فقد نجوا من هذا المصير.    

كل الحركات التحررية تقريبا نشأت من صميم شعوب كانت تسكن على أرضها، وكانت تقبع تحت حكم أجنبي واحد. ولكن الشعب الفلسطيني تشتت في اثنتي عشرة دولة، كلها أنظمة دكتاتورية قمعية. وقد تم محو إسم "فلسطين" عن الخريطة، وحتى الفلسطينيين الذين بقوا في البلاد، قبعوا تحت نظام قمعي: في البداية النظامين الأردني والمصري، وبعد ذلك الحكم العسكري الإسرائيلي.

     عندما أسست منظمة التحرير الفلسطينية، حاولت الأنظمة العربية كلها دس يدها في القدر. دمشق، بغداد، الرياض، القاهرة ومسوكو،  أقامت كلها منظمات فلسطينية، لتفرض مصالحها على الشعب الفلسطيني. علمانيون ومتدينون، منظمات يسارية ومنظمات يمينية لعبت دورا مستقلا. وقد اضطر عرفات إلى مواجهة جميع هذه التيارات، واضطر أيضا إلى المناورة تارة والإرضاء طورا، لتقريب هذا وتقريب ذاك. لقد تحول إلى فنان قدير في مثل هذه الحالات، ويبدو أن ليس له مثيل، من هذه الناحية، في العالم كله.

     في الوقت الذي كان عليه تزعم الحركة النضالية الفلسطينية، كما هو الحال لدى كافة زعماء الحركات التحررية المعاصرة، من مناحيم بيغن وحتى نلسون منديلا، كان يؤمن بالنضال المسلح (الذي يدعى "الإرهاب" على السن الحكام الأجانب). وقد نفذت المنظمات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية عمليات فدائية لا تعد ولا تحصى، بعض منها شنيع والبعض الآخر وحشي – ولكن أغلبية الأعمال المنبوذة قد نفذتها منظمات مناهضة لعرفات. لقد آمن كل زعماء منظمة التحرير الفلسطينية بأن "النضال المسلح" هو أمر ضروري، بسبب الفرق الشاسع بين قوة إسرائيل العسكرية الكبيرة وقوة الفلسطينيين المحدودة.

     أما عرفات نفسه، كما يصفه مقربوه، فهو بعيد كل البعد عن الخشونة والتعطش إلى الدم. وقد صادق في حالات نادرة جدا على الحكم بالإعدام عندما طالب الجمهور بذلك – وعدد حالات الإعدام تحت سلطته أقل بكثير من عدد حالات الإعدام التي نفذها حاكم تكساس السابق جورج و. بوش على سبيل المثال.

    ليس هناك أي خبير في العالم يستطيع أن ينكر أنه لولا النضال المسلح لما كان بإمكان  للفلسطينيين التوصل إلى أي إنجاز، ولولا  ذلك النضال لكانوا فقدوا وطنهم منذ زمن بعيد: العمليات الانتحارية هي التي أعادت الشعب الفلسطيني إلى خريطة العالم، وهي التي أوصلت منظمة التحرير، حسب ما يقوله الخبراء، إلى سلسلة الإنجازات التاريخية، ومكانتها بصفتها  "الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني"، وحضورها في هيئة الأمم المتحدة، والاعتراف الدولي بها، واتفاقية أوسلو، والعودة إلى فلسطين والإجماع العالمي حول فكرة الدولة الفلسطينية.

     لكن عرفات لم ير، في أي مرة من المرات، في النضال المسلح هدفا قائما بحد ذاته. فهو يعتبر العنف أداة مثل سائر الأدوات الأخرى.

     في نهاية عام 1977 قام عرفات بعمل، يعتبر نادرا في حياة الزعماء. بعد إحلال ثورة واحدة (إقامة حركة فتح وبداية النضال المسلح)، بادر إلى ثورة أخرى. (بعد عدة سنوات، قام إسحق رابين بعمل مشابه).

     لقد بدّلت حرب أكتوبر رؤيته الاستراتيجية. فحتى ذلك الحين، كان يؤمن بأنه  من الممكن إسقاط إسرائيل بالقوة. كان النضال الفلسطيني يهدف بالأساس إلى خلق مواجهة مسلحة شاملة بين إسرائيل والعالم العربي، كما حدث بالفعل عام 1967. وقد أدرك عرفات عام 1973 بأن لا ركيزة لمثل هذا الأمل. رغم أن الجيوش المصرية والسورية قد هاجمت إسرائيل، وأحدثت مفاجئة وحازت على نصر كبير في البداية، إلا أنه، خلال أسبوعين، رجّح الجيش الإسرائيلي الكفة ثانية، وتقدم باتجاه القاهرة ودمشق. عرفات، المهندس المنطقي، توصل إلى الاستنتاج الحتمي: لا يوجد خيار عسكري حقيقي.

      وانطلاقا من هذا الاستنتاج، توصل إلى نتيجة بعيدة المدى: ليس من خيار سوى إقامة الدولة الفلسطينية من خلال تسوية وحل سياسي مع إسرائيل. فبدأ العمل على ذلك.

      لقد كان المجهود الضروري لذلك مجهودا هائلا. فإن جيلا كاملا من الفلسطينيين يرى في إسرائيل عدو غاشم، طرد نصف الشعب الفلسطيني من بيوته وأراضيه، وما زال مستمرا في قمع النصف الآخر وتهجيره. وقد تشبث الشعب الفلسطيني بإيمانه بأن وجود إسرائيل ليس شرعيا، وأنه سيأتي اليوم الذي سوف تمحى فيه عن وجه البسيطة. كان على عرفات اقتلاع هذا الإيمان من قلب الشعب والنهوض به إلى تسوية تبقي للشعب الفلسطيني 22% من وطنه التاريخي.

     لقد تصرف كما كان يتصرف دائما: بصبر لا حدود له، انطلاقا من الإحساس بالإنسان، وبمناورات تكتيكية، بتعرجات ومداهنة. وقد بدأ اتصالات سرية بمجموعة صغيرة من دعاة السلام الإسرائيليين (وأنا من بينهم) يحذوه الأمل بأن يقوموا هؤلاء بشق الطريق أمامه إلى قلوب متقلدي الحكم في إسرائيل. وقد شجع اثنين من رجاله (سعيد حمامة وعصام سرطاوي، الذان اغتيلا بسبب ذلك) على التعبير العلني عن أفكاره الخفية. وقد أحدث تغييرا تدريجيا، خطوة بعد خطوة، في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني. وقد كان أبو مازن، خلال هذا المجهود الذي تواصل من عام 1974 وحتى عام 1988، مساعده الأول.

     كان رابين في تلك الفترة يعارض السلام مع الفلسطينيين معارضة شديدة، وكان بيرس الوصي على الحركة الاستيطانية، وكلاهما كان يؤيد "الخيار الأردني". لو استحق شخص ما جائزة نوبل للسلام بسبب معاهدة أوسلو، لكان هو عرفات.

 

     إحدى الميزات التي فتحت له قلوب الشعب الفلسطيني هي شجاعته النادرة.

     عند اجتياح أريئيل شارون للبنان، بهدف طرد الفلسطينيين وقتل زعيمهم، كان يمكن لعرفات الانتقال مسبقا إلى دولة أخرى. وكان الجميع سيرى في ذلك خطوة حكيمة. إلا أن عرفات بقي مع مقاتليه في المدينة المحاصرة حتى آخر يوم. وبعد معركة ضارية، خرج المقاتلون من المدينة رافعين أسلحتهم وعرفات على رأسهم.

     هناك أمر آخر، كدنا ننساه، منحه مجدا أكبر. بعد سنة من الخروج من بيروت، هاجم السوريون وحلفاؤهم قوات منظمة التحرير الفلسطينية في مخيمات اللاجئين بجانب طرابلس شمال لبنان. وقد كان عرفات متواجدا في هذه الأثناء، في مؤتمر للأمم المتحدة في جنيف. وقد قام بعمل لا يمكن تصديقه، فقد رجع إلى لبنان، وتسلل إلى المخيم المحاصر وبقي هناك، حتى خرج من جديد على رأس مقاتليه، الذين لم يستسلموا في هذه المرة أيضا.

     تعرضت حياته للمخاطر على مر السنين، حيث كانت أكثر من اثنتي عشرة هيئة مخابرات سرية تخطط للقضاء عليه. وقد نجى من عدة محاولات لاغتياله. وفي إحدى المرات نجى بأعجوبة عندما اضطرت طائرته للهبوط بشكل اضطراري في قلب الصحراء. وقد توفوا حراسه في هذا الحادث.    

في أوج المعركة في بيروت سألته إلى أين سيذهب إذا خرج منها حيا. أجابني دون تردد "إلى البيت طبعا". بعد اثنتي عشرة سنة، وفي يومه الأول عند عودته إلى البلاد، همس في أذني قائلا: "هل تذكر ما قلته لك في بيروت؟ ها أنا قد عدت!".

     وقد أنيطت به، كرئيس للسلطة الفلسطينية الجديدة، إحدى المهام الشاقة في حياته. فقد واجه تحديا لم تواجهه أية حركة تحرير في السابق: إقامة نوعا من دولة بينما يستمر الاحتلال وحرب التحرير ما زالت في أوجها.

     وقد عاد مع عرفات مخضرمو النضال، الذين اعتقدوا، بأنهم جديرون باستلام زمام السلطة الجديدة. وقد طرحت هذه المطالبة من قبل جيل جديد من الزعماء أيضا، جيل نشأ في خضم الانتفاضة، في السجون والحركات السرية. وقد طالب بذلك أيضا آلاف الأكاديميين، خريجي الجامعات من مختلف أنحاء العالم. (وقال لي أحدهم: "حسنا، ليمنح أوسمة الشرف لكل المقاتلين، ولكن يجب على الدولة أن تدار من قبل أشخاص تم تأهيلهم لذلك.") وكان على عرفات أن يمنح قسما من الكعكة للأقلية المسيحية، للنساء، لممثلي المناطق المختلفة، لللاجئين، وبالأخص لأرباب مئات العائلات الكبيرة، التي تسيطر على المجتمع الفلسطيني منذ أجيال طويلة، والذين من غيرهم لا يمكن بسط السلطة على الجمهور. وهذه مهمة مستحيلة تقريبا.

     من العسير أن نقول بأن إقامة السلطة الفلسطينية كانت بمثابة نجاح باهر، ولكن، إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف العملية، فإن عرفات قد أبلى بلاء حسنا.

     إحدى نقاط الضعف كانت مركزية السلطة الجديدة. فقد اعتاد عرفات، خلال سنين طويلة من النضال، أن يقرر بنفسه وأن يقرر بسرعة. وقد تركه أصحابه له القرارات المصيرية بمحض إرادتهم، هذه القرارات التي استوجبت شجاعة ومخاطرة ذاتية. لقد قتل أغلب زملائه المقربين في النضال، وبعضهم على يد إسرائيل، والبعض الآخر على يد العميل العراقي أبو نضال وأمثاله. وقد أصبح عرفات منعزلا تراوده الشكوك، مثله مثل أي زعيم يتواجد في قلب الصراعات الداخلية ويتحمل المسؤولية.

     لقد اعتقد بعض زعماء الجمهور الفلسطيني، بعد إقامة السلطة، بأن النضال قد انتهى. وبدءوا يهتمون بمصالحهم الشخصية، والبعض الآخر افسد في الأرض، كما تقضي المعايير المعمول بها في الدول المجاورة (وليس هناك فقط). هذا الأمر أثار غضب الجمهور الفلسطيني. وقد بدأ بعض اليساريين الإسرائيليين بالتنكر "السطلة الفاسدة"، وقد نشرت الدعاية الإسرائيلية هذه القصة بغبطة كبيرة.  وألحق هذا الأمر ضررا كبيرا بالمصالح الفلسطينية في مرحلة حساسة للغاية.

     إلا انه لم تلحق بعرفات ذاته أية وصمة. وفي الوقت الذي يغرق فيه أريئيل شارون في وحل الفساد العميق، ويسطع نجم بعض الزعماء مثل هلموث كول في ألمانيا وجاك شيراك في فرنسا، في فضائح فساد هائلة، بقي عرفات بعيدا عن أية شبهة. لم ينجح منازعوه في الداخل ولا أجهزة المخابرات الإسرائيلية في الكشف عن أي نقطة فساد لديه. إنه يعيش حياة بسيطة، ليس لديه بيت خاص به، وثيابه هم الزي العسكري.

     لقد ارتكب عرفات بالطبع أخطاء في حياته. يمكن أن يكون قد بالغ في رفض مبادرة أنور السادات، حين رضخ أمام ضغط زملائه الثائرين. وقد كان تأييده لصدام حسين في حرب الخليج الأولى خطأ فادحا، كلفه الكثير. وقد أخطأ أكثر من مرة في اختيار مساعديه وأمناء سره.

     أما في أعين  شعبه، فهو كان وسيبقى الزعيم الوحيد الذي يمكن منحه الثقة دون تردد. الأجانب غير قادرين على فهم هذا الأمر. وهم يتعجبون من كون تلك المزايا، التي أثارت غضب الغرب، هي السبب في تحويله إلى بطل في أعين الشعب الفلسطيني.

     على سبيل المثال: عندما قال عرفات "لا" واضح وصريح لاقتراحات باراك وكلنتون، أثار بذلك "معسكر السلام" الإسرائيلي ضده أيضا. ولكن من وجهة نظر الفلسطينيين، كان ذلك عملا ساميا من الشجاعة والتفاخر الوطني. عندما سافر إلى اجتماع القمة، تخوف الكثير من الفلسطينيين من أنه سيسقط في الفخ الإسرائيلي-الأمريكي، وأنه لن يقوى على التخلص منه. وقد كان من الواضح أن "الاقتراحات السخية" التي قدمها باراك سوف تكون اقل من الحد الأدنى الذي يقبل به الفلسطينيون. وعندما عاد دون أن يرضخ، استقبل بحفاوة.

     الفلسطينيون الآن مستعدون لمنح أبي مازن الفرصة، وهو يؤمن بأنه يستطيع أن يحصل من الأمريكيين والإسرائيليين على تنازلات هامة. أبو مازن هو شريك قديم لعرفات، والجمهور الفلسطيني يحترمه. إلا انه لا يوجد فلسطيني واحد مستعد لوضع مستقبل الشعب بين يديه.

     هناك شخص واحد يتمتع بهذه الثقة: الرجل المحاصر في المقاطعة. فالكلمة الأخيرة ما زالت كلمته.  

 

المصطلحات المستخدمة:

باراك, دورا, معسكر السلام, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات