قضية الانشغال في تبعات تتويج انسان اصولي على رأس بلدية القدس تجاوزت حتى حدود الأبعاد التاريخية التي ترافق كل حدث يمكن إلصاق اسم المدينة المقدسة به. ماذا حدث؟ ناشط سياسي متواضع ولطيف وخاضع لإمرة حاخام عجوز منغلق علي نفسه وإداريّ ناجع لمؤسسة إغاثة للمرضي - الذي لم ينجح خلال عقد من السنين في البروز بأي مبادرة بلدية - عين خليفة مؤقتا لرئيس بلدية متعال ولاذع كان يتعامل مع منصبه مثل المخاطة التي يستخدمونها ومن ثم يلقونها، وفوق ذلك كله يتجرأ ويتهجم علي كل من لا يسجد لنجاحاته وانجازاته التي أدت بعاصمة اسرائيل الي أسفل السلم الحضري.
في كل مكان آخر كانوا سيتنفسون الصعداء لرحيل مثير للنزاعات العرقية، الذي يفضل التركيز على هدم منازل الفلسطينيين واغلاق مؤسساتهم الجماهيرية على تقديم خدمات بلدية ناجعة وسليمة كما يتوجب منه حسب نظم وقوانين البلديات. في مكان آخر كانوا سيتوقعون ان يقوم الاداري الذي برهن عن قدراته بالتشمير عن أكمامه والتركيز علي قسم النظافة الفاشل وعلي الجهاز الاداري الحافل بالبطالة المقنعة. ولكن ليس في القدس، هنا يركزون علي أعماق اليهودية، الدين، الصهيونية والتاريخ، (نداف شرغاي، هآرتس ، 19/2)، ويتخيلون كيف كان رئيس البلدية قادر علي التحول الي زعيم علي المستوي الوطني (آري شبيط، هآرتس ، 20/2). الذعر ينتشر من سخطر وصول رئيس بلدية اصولي لأول مرة في التاريخ ، وتنشر تقديرات وتنبؤات حول تأثير ذلك علي علاقات اليهود والعرب والمتدينين والعلمانيين والديمغرافيا والثقافة والاقتصاد وما الي ذلك.
ولكن كل التقديرات الحكيمة هذه لا تلتصق الا بشعار رئاسة البلدية وليس في منصبه وصلاحياته التي هي المسألة الأساسية. بكلمات اخري ليس رئيس البلدية هو المسألة الأساسية هنا وانما هي قضية القدس التي تعتبر تعريفا موضوعيا وغامضا ومثارا للخلافات. القدس تحديدا التي تعتبر مواقعها التاريخية بؤرية جدا وخالدة جدا هي مدينة يعتبر تعريفها الجغرافي مجرد حماقة، وحدودها تتضخم مثل بالون وفقا لراحة ومراهنات السياسيين والنشطاء في الحلبة السياسية. وعندما يلعبون في الحدود فانهم يلعبون بالضرورة في كل المعطيات الديمغرافية والسياسية والاقتصادية التي تتعلق بحياة المجتمعات السكانية التي تعيش داخل حدودها أو التي يتم اخراجها منها بشكل اعتباطي. بعد ذلك يتحدثون عن هذه المجموعة السكانية المزعومة وكأنها الجمهور المقدسي ويضعونها في كتالوج احصائي علي اعتبار انها جسم منظم ذو مغزي ويلقون علي كاهلها اختبارات سياسية وسسيولوجية.
ليس هناك امر أسهل من الاعلان عن تلة أو وادي أو موقع سكاني علي اعتبار انه جزء لا يتجزأ من القدس، وعندئذ تنهال عليه قداسة المدينة المقدسة ويتلفع فجأة بطبقات من الصهيونية. يا ويل الخائن، يهودي أو غير يهودي، الذي يتجرأ علي الاحتجاج علي هذا التقديس القسري. ذلك لان لجنة وزارية حددت الحدود وعلي الجميع ان يتصرفوا وفق القانون. هذا ما فعلوه في عام 1967 عندما ضموا للقدس 70 كيلومترا (من ضمنها اراضي 28 قرية عربية)، وهذا ما فعلوه في عام 1993 عندما ضموا 20 كيلومترا، وهذا ما سيفعلونه عما قريب عندما يضمون منطقة تسور هداسا وسفوح جبال يهودا الغربية. فلتعش القدس التي ستصل عما قريب الي المنحدر الساحلي، وليحيا رئيس بلديتها الذي يزداد عدد رعاياه بصورة مضطردة، ليس لانهم يتدفقون علي المدينة المقدسة، وانما لانه هو وحكومته يستخدمون بصورة سخيفة هالة القداسة التي تحيط بالقدس ويلاحقونهم ويضمونهم للمدينة بعد ان فروا منها.
حقيقة انه لا يمكن توفير خدمات بلدية معقولة لمساحة كبيرة كهذه - التي أصبحت اليوم ضعف مساحة بلدية باريس - ليست هامة، ذلك لان محك رئيس بلدية القدس لا يتمثل في تقديم الخدمات وانما في دوره التاريخي كمن نجح أو فشل في السير وراء تيدي كوليك أو هيرودوس أو الملك سليمان.
من ينظر بجدية الي منصب رئيس بلدية القدس كرئيس سلطة محلية منتخب يعمل من اجل الناس الذين انتخبوه يتجاهل حقيقة ان أكثر من ثلث سكان المدينة الذين فرضت عليهم المواطنة المقدسية ـ حوالي ربع مليون فلسطيني ـ يرون برئيس البلدية كرئيس لحكم الاحتلال وينظرون الي شعار من يفعل أكثر من اجل الفلسطينيين كتعبير للنفاق والرياء. رئيس البلدية يدير سلطة بلدية الا ان المدينة ككيان حضري مدني قد تفككت منذ زمن، ولا يوجد رهان أكبر من رهان الشخص الذي يتجرأ علي التحدث باسم المواطنين بينما يكون كل ما هو مشترك بينهم مجرد استخدام شبكتي المياه والمجاري الموحدتين. لا يستطيع أحد ان يوقف عملية تحول المدينة الي مدينة أصولية من جهة والتكاثر الطبيعي للفلسطينيين اللذين سيؤديان في نهاية المطاف الي تحولها الي مدينة ذات قطبين، حيث سيعيش فيها في أحسن الاحوال غيتو من العلمانيين الليبراليين. ومن هذه الناحية لا توجد أي أهمية لمسألة من سيكون رئيسا للبلدية.
(هآرتس، 27 شباط)