المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 2256

“ميثاق طبريا”: الهروب إلى الامام - ترجمة نواف عثامنة
تقديم: انطون شلحت

تعترف الوزيرة الاسرائيلية السابقة يولي تمير، في مقالتها التي تتضمنها هذه الكراسة، بأن “ميثاق طبريا” الذي كانت من ابرز المبادرين الى التخطيط له واعتماده، لا يطمح لأن يكون بديلا عن الحوار المدني الشامل لمواطني الدولة (اسرائيل). وفور ذلك تضيف، على محمل التوضيح غير القابل للتأويل: اذا لم يتم وضع وثيقة مدنية، وبمشاركة جميع مواطني اسرائيل، تعرِّف الحقوق المتساوية لابناء جميع الشعوب الكائنة في اسرائيل، وتعرّف واجبات الدولة تجاه مواطنيها وتحدد معايير لتوزيع عادل للموارد، فلن تصبح اسرائيل مجتمعا ديمقراطيا جديرا بهذه الصفة.

 

اذا كانت الحال هكذا فما هو الداعي، إذا، لكتابة “ميثاق طبريا”؟ في بحثنا عن جواب على هذا السؤال لدى تمير نفسها، بصفتها جهة مخولة بأن تصرّح، نعثر على ما يلي: “ميثاق طبريا” هو بداية لنقاش جماهيري عام، لا أكثر، على قاعدة كسر المونولوج والانتقال الى الحوار بين مختلف الفئات السياسية (اليهودية) من اليسار واليمين، العلمانيين والمتدينين، انصار السلام والمستوطنين.

وطبقا لذلك، من الممكن الاستنتاج بأن اصدار مثل هذا الميثاق جاء، أكثر شيء، من أجل اشباع حاجة داخلية (يهودية) الى بدء نقاش جماهيري عام يحتكم الى قاسم مشترك ما.

أين المشكلة اذا؟

المشكلة، في قراءتنا المخصوصة، ان المشروع المعروض في الميثاق لبداية هذا النقاش محكوم بعدة اختيارات مسبقة البرمجة ومسبقة الادلجة.

ومهما يكن فان ما يهمنا من هذه الاختيارات هو ما يلي:

اولا: اختيار اقصاء العرب الفلسطينيين - المواطنين في اسرائيل - من دائرة هذا النقاش. في هذا الصدد تقرّ تمير، شأن غيرها من المشاركين في صياغة الميثاق ومن المعقبين عليه، بأن محاولات عديدة لكتابة وثيقة يهودية - عربية قد فشلت. وتعزو هذا الفشل الى عدم الاتفاق على تعريف دولة اسرائيل.

ثانيا: عطفا على ما سبق فان الاختيار الثاني، مسبق البرمجة ومسبق الادلجة كما ذكرنا، يتحدد في التمسك بتعريف طابع اسرائيل، الصهيوني، باعتبارها دولة للشعب اليهودي. ليس هذا فحسب، بل كذلك التأشير الى ما يتطلبه الاحتفاظ بهذا التعريف من اجراءات مثل “الاستمرار في بناء اغلبية يهودية ملحوظة فيها”.

“هكذا يضعنا “ميثاق طبريا” امام صيرورة اسرائيلية سبق ان توقفنا عندها بقدر مناسب من القراءة والتفصيل (راجع وثيقة هرتسليا الصادرة عن مؤتمر “ميزان المناعة والامن القومي الاسرائيلي” - سلسلة “اوراق اسرائيلية” رقم 4) تفيد بأنه ما من موضوع راهن يحتقن حوله “اجماع قومي يهودي” أكثرمن موضوع المحافظة على “الطابع اليهودي - الصهيوني” لدولة اسرائيل. ويجدر التذكير بأن هذا “الاجماع” ومع استمرار الانتفاضة الفلسطينية وامتدادها، ولو الى حين، الى الجماهير الفلسطينية داخل تخوم “الخط الاخضر” (ما عرف باسم “هبّة اكتوبر 2000”) سرعان ما أجج حديثا متواترا حول ما يسمى بـ “الخطر الديمغرافي” الذي يشكله العرب الفلسطينيون على طابع اسرائيل السالف، بين اوساط اليمين واليمين المتطرف وأيضا بين اوساط محسوبة على “اليسار الصهيوني”.

في “وثيقة هرتسليا” اقترح مخططوها - وهم شخصيات بارزة في القيادة الامنية وفي النخبة الاكاديمية في اسرائيل - مواجهة هذا “الخطر”، ضمن أشياء أخرى، بواسطة طريقة تعيد الى الاذهان، وان بصورة غير معلنة، فكرة “الترانسفير” الجهنمية. اما في “ميثاق طبريا” فان النص يطالب بمراعاة ان يحافظ على هذه الاغلبية “بطرق اخلاقية فقط”.

غير انه منذ نشر “ميثاق طبريا” جرت مياه كثيرة في النهر، كما يقولون. وتمثلت احدى نتائج هذا الجريان في انتقال التأييد لفكرة “الترانسفير”، باعتبارها أحد افضل الحلول لمسألة “الخطر الديمغرافي”، من الاطراف او الهوامش السياسية الى قوى واحزاب واقفة في واجهة نظام الحكم الاسرائيلي.

هنا يحتاج الامر الى بعض التفاصيل:

* في اواخر شهر اذار (مارس) 2002 اعلن الوزير “العمالي” افرايم سنيه انه بلور لنفسه برنامجا خاصا حول الحل الدائم للصراع الاسرائيلي- الفلسطيني “على اساس الفصل”. ويدعو البرنامج، على وجه الخصوص، الى “تبادل سكاني” (وهو التعبير الملطَّف، الاكثر تزويقا، لمصطلح “الترانسفير”) بين اسرائيل والكيان السياسي الفلسطيني العتيد، يسفر عن ضم “تجمعات استيطانية يهودية كبرى” في الضفة الغربية الى مناطق سيادة “الدولة الاسرائيلية” فيما يجري ضم “مناطق عربية” متاخمة لـ “الخط الاخضر” (ويقصد، تحديدا، منطقة ام الفحم والقرى المحيطة بها فيما يعرف باسم “المثلث الصغير”) الى مناطق سيادة السلطة الوطنية الفلسطينية. وفي السياق الذي كشف فيه النقاب عن برنامجه هذا (وكان عبارة عن لقاء صحافي مطول ادلى به لملحق “7 ايام” الاسبوعي التابع لصحيفة “يديعوت احرونوت”) رفض سنيه التطرق الى “افاق القضية الديمغرافية” ومخاطرها على “مستقبل التطلع اليهودي لدولة اسرائيل”، وفيما اذا كانت هذه القضية تشكل حافزا رئيسيا خلف دعوته الى تطبيق “الترانسفير”. أكثر من ذلك حاول سنيه ان يسبغ اخلاقية ما على دعوته هذه، من خلال نفيه ان تكون منطوية على اية “لدغة عنصرية” موازنا، بفهلوية بائسة، بين اصحاب الوطن الاصليين من المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل وبين المستوطنين الكولونياليين في الضفة الغربية، الذين سيتم “التبادل” فيما بينهم.

* قبل طرح برنامج سنيه اشار استطلاع للرأي اجراه مركز “يافه” للابحاث الاستراتيجية في جامعة تل ابيب الى ارتفاع نسبة التأييد، في اوساط اليهود الاسرائيليين، لحل يعتمد على تطبيق “الترانسفير” ضد الفلسطينيين. فقد اعلن 46 بالمئة من هؤلاء انهم يؤيدون تطبيق “الترانسفير” ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويؤيد 31% منهم تطبيقه ايضا ضد المواطنين العرب في اسرائيل.

* كشف الصحافي ارييه ديان (“هارتس”) ان الزعيم الجديد لحزب “موليدت”، الوزير المستقيل بيني الون، عاد للترويج لبرنامج “الترانسفير” ضد الفلسطينيين، في اكثر تطبيقاته وحشية، مستمدا التشجيع من المناخات السياسية المذكورة، والتي تعيد هذا الموضوع المسكوت عنه الى بؤرة “الاجماع القومي”. وعلى ذمة الصحافي نفسه كان الون سابقا في طليعة الذين الحوا على زعيم “موليدت” السابق، الوزير المقتول رحبعام زئيفي، ان لا يطرح حل “الترانسفير” في واجهة البرنامج السياسي للحزب الذي بدا انه “منفرد في تأييد الفكرة”! وتمثلت “عودة الون”، التي يقصدها ديان، في تخصيص العدد الاخير من نشرة “موليدت” لطرح برنامج سياسي يدعو الى طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة في حالة عدم قبولهم برنامج تسوية الصراع، حسب مواصفات “موليدت”، والذي ينص على ان تكون الاردن “دولة الفلسطينيين العتيدة”.

وحرفيا ورد ذلك من خلال العبارات التالية:

“اذا لم يكونوا (يقصد الفلسطينيين) مهيئين للحياة معنا، هنا، في سلام فانهم لن يحيوا معنا، هنا، البتة. ان قوة الردع الاسرائيلية لن تستعاد اذا ظل غير واضح لجيراننا ان الارهاب من شأنه ان يؤدي بهم الى خسارة ارضهم، تماما كما حصل في 1948 - “نكبة” لهم وعيد استقلال لنا”!

ويقترح البرنامج نفسه جعل المواطنين في الضفة والقطاع تابعين “لدولة فلسطينية عاصمتها عمان”، مع منحهم امكانية الاحتفاظ بتجمعاتهم السكانية القائمة (باستثناء المخيمات)، شريطة الحفاظ على “سلام مع اسرائيل”، لكن في حالة “عودتهم الى اعلان الحرب علينا فعندها لا مندوحة من طردهم بالقوة الى دولتهم فيما وراء نهر الاردن”.

* اضافة الى بيني الون، طرح وزير يميني مستقيل آخر هو افيغدور ليبرمان، زعيم حزب “اسرائيل بيتنا” (من المهاجرين الروس) وهو الحزب الشريك مع “موليدت” ومع حزب “حيروت” في تكتل “الاتحاد القومي” اليميني المتطرف الاستيطاني، برنامجا سياسيا يدعو الى تطبيق “الترانسفير” بالاساس ضد المواطنين العرب في اسرائيل “الذين يرفضون الخدمة في الجيش الاسرائيلي” و “الذين يرفضون التعهد خطيا بالولاء المطلق لدولة اسرائيل”! وهو يقترح ترحيلهم الى “مناطق فلسطينية” في غزة واريحا و “منطقة يهودا”، يطالب البرنامج باعلانها ككانتونات صغيرة منزوعة السلاح ولا يوجد أي تواصل اقليمي بينها، باعتبار ان اقامة هذه المناطق الثلاث هي اوج ما يمكن ان يتغيأه حل دائم للصراع تسعى اليه اسرائيل، بموجب هذا البرنامج.

* نبقى في اطار معسكر اليمين الاستيطاني لنشير الى ان حزب “حيروت” (احد الاطراف الشريكة في تحالف “الاتحاد القومي”) يرفض الحديث جهارا عن تأييد “الترانسفير” ضد الفلسطينيين سواء داخل اسرائيل او في الضفة الغربية وغزة. لكن زعيم هذا الحزب عضو الكنيست ميخائيل كلاينر طرح مؤخرا على جدول اعمال الكنيست مشروع قانون يدعو الى اعتماد “سلة امتيازات” (مُغريات) لتشجيع الهجرة الى “الدول العربية”.

اما في حزب “المفدال” فان الاتجاه الطاغي على قادة الحزب هو انتظار “ان تضع الحرب الدائرة هنا حاليا اوزارها” ومن ثم يجري طرح برنامج سياسي للحل الدائم يعارض ضمن اشياء اخرى قيام دولة فلسطينية مستقلة ويدعو الى اعتبار المستوطنين الكولونياليين في الضفة الغربية وغزة مواطنين اسرائيليين (كما هي وضعيتهم حاليا) واعتبار الفلسطينيين في هذه المناطق مواطنين في الاردن، الاردن نفسها التي يدعو برنامج “موليدت” الى ترحيل الفلسطينيين اليها إما جسديا واما مواطنةً، حسبما اسلفت الاشارة.

مؤخرا انضم “المفدال” الى ائتلاف حكومة ارئيل شارون، بعد ان نصّب عليه زعيما جديدا هو الجنرال في الاحتياط ايفي ايتام، الذي اصبح وزيرا. وقبل تزعمه ادلى ايتام بحوار طويل لملحق صحيفة “هآرتس” دعا فيه علنا لطرد الفلسطينيين الى صحراء سيناء. كما تطرق الى موضوع “الترانسفير” بهذه العبارات:

“الترانسفير ليس مسألة من الضروري التكلم عنها. لكن الحرب لعبة اخرى. اعتقد ان الاساتذة الجامعيين، الذين يدعمون السلام ويعيشون في راحة في البيت الاخضر الذي يقع في حرم جامعة تل ابيب، يعرفون ان الحرم الجامعي كان في زمن مضى قرية تدعى الشيخ مؤنس. دولة اسرائيل لن تجبر الافراد على تغيير اماكن اقامتهم، ولكن اذا فرضت علينا الحرب الشاملة، فالنتيجة ان أكثر من شيخ مؤنس سوف تنشأ في اماكن اخرى. انا لا اريد لذلك ان يحدث لأني ارى نتيجته المريرة. على العكس اقترح حلا يمنع ذلك. ولكن اذا كانوا لا يريدون الالتقاء معنا في منتصف الطريق، واذا لم يكن هناك من حل اقليمي، واستمر الهجوم الفلسطيني، فان النتيجة ستكون حربا شاملة تؤدي الى مأساة على الشعب الفلسطيني. اذا فرضت علينا الحرب يجب ان نتصرف كما في الحرب. واستطيع رؤية ان نتيجة الحرب ستكون ان العرب الذين سيبقون هنا لن يكونوا كثيري العدد”.

* في “الليكود” لا يبدون ميالين، على مستوى التصريح العلني، لتبني برامج تتحدث مباشرة عن “الترانسفير”. لكن الناطقين بلسان هذا الحزب يعبّرون عن تفهمهم البالغ لنزوع جماهير اليهود الاسرائيليين الى تأييد “برامج ترحيل الفلسطينيين”. وقد اعتبر وزير القضاء، أحد قادة هذا الحزب، مئير شطريت، ان الحديث المجرد عن “الترانسفير” لا يعد تحريضا، بموجب احكام القانون الاسرائيلي، بل يبقى حديثا تكفله “حرية التعبير عن الرأي”.

ربما يجدر بنا، عند هذا الحد، ذكر ما يلي:

أ) اشرت، في سياق سالف، الى ان فكرة “الترانسفير” عادت لتطل برأسها من جديد وتحشد لها المزيد من المؤيدين، منزاحة من الاطراف الى المركز، في اعقاب تفجر الانتفاضة وهبّة الاحتجاج الشعبية للفلسطينيين في اسرائيل. وبحسب أحد الباحثين، فان التوصيف المشوّه من جانب الاسرائيليين لما حدث في “كامب ديفيد” ولمترتبات “عملية التسوية” برمتها/ لا سيما منذ صعود بنيامين نتنياهو الى الحكم في 1996، ادى ايضا الى توحيد خطاب المركز السياسي في اسرائيل المتمثل في حزبي “الليكود” و “العمل”. وطبقا لهذا الخطاب فانه بسبب “خيانة” الفلسطينيين لمبدأ التسوية (وبالتالي مبدأ “السلام” لا يبقى امام اسرائيل سوى محاولة حل مشكلة النزاع من خلال القوة. وعليه يمكن القول ان الالحاح على تطبيق “الترانسفير” يضمر طرحا لاحدى الطرق التي تتسق مع متطلبات “الحل بواسطة القوة”. وبكلمات اخرى فان تأييد “الترانسفير” هو الوجه الآخر من عملة القوة التي تمارسها اسرائيل في المناطق الفلسطينية، والتي تشتمل على وسائل تضييق الخناق والحصار والاغلاق وعلى التصفيات وقتل المدنيين والهدم والتدمير.. إلخ. ب) سياسة القوة هذه لا تقفز، بطبيعة الحال، عن الفلسطينيين في اسرائيل.

ومن الامور الجلية انه فضلا عن سياسة التمييز العنصري السافر واللجوء الى العنف كوسيلة رئيسة في السياسة الاسرائيلية تجاه المواطنين الفلسطينيين، فان سياسة القوة هذه تستهدف ايضا ان تصيب الهوية الوطنية والسياسية لهؤلاء الفلسطينيين في مقتل. وهذا ما تؤكده بعض التشريعات القانونية الاخيرة، بمقدار ما تؤكده المحاكمة السياسية غير المسبوقة المنعقدة ضد النائب عزمي بشارة، رئيس “التجمع الوطني الديمقراطي”.

* اذا شئنا اجمال الاختيار الثاني لمعدي “ميثاق طبريا” المحدد في التمسك بتعريف اسرائيل كدولة للشعب اليهودي، يبدو ان اهم ما ينبغي التشديد عليه هو كون الحديث عن مراعاة “الحفاظ على أغلبية يهودية ملحوظة” بواسطة “طرق اخلاقية فقط” حديثا بعيدا جدا عن الرؤية الحقيقية السائدة لهذه المسألة كما بينت التفاصيل المذكورة اعلاه. ومرة اخرى فان هذه الرؤية سائدة ليس فقط بين اوساط اليمين القومي والديني والعنصري.

ثالثا: يختار “ميثاق طبريا” لدى الحديث عن النزاع الاسرائيلي الفلسطيني تعابير ومصطلحات غائمة في توصيف وقائع التاريخ. وهو اختيار يراد به بالاساس، من باب اولي، قطع صلة الحاضر بالماضي، اذ ان التدقيق في هذه الصلة يفترض، ولو من منطق الاستقامة الفكرية او المعقولية السياسية، العودة الى جذور الصراع.

وهذا القطع افضى بمعدي الميثاق، كما تقول يولي تمير، الى رؤية ان الحل الانسب للصراع هو: دولتان لشعبين، أو بشكل أدق، دولتان قوميتان لقوميتين. وبربط هذا الحل مع سائر بنود الميثاق يتبين ان الحديث يجري عن حل دائم، او نهائي.

لا شك ان اقامة دولة فلسطينية، تطبيقا لحل “دولتين لشعبين”، هو مرحلة حيوية لكنها بكل تأكيد ليست “حلا نهائيا”، وليست حلا “تكون فيه الحقوق متساوية لجميع الشعوب”. وهذا الحل ليس فقط غير متضمن مقترحاً كافيا لقضية اللاجئين وحق العودة، وانما من شأنه كذلك ان يكرس مكانة المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، وان يمس بحقوقهم، نظرا لكونه في الواقع الحالي حلا يجسد ويشدد على رؤية اسرائيل كدولة للشعب اليهودي. وفي اطار ذلك ما من ضمان في ان لا ينظر الى كل مطلب يطرحه هؤلاء المواطنون باعتباره مطلبا غير شرعي يشكل أساسا لمعركة سياسية وقضائية وحتى عسكرية ضدهم. والدليل على ذلك هو قتل ثلاثة عشر شابا عربيا مواطنين في اسرائيل بايدي الشرطة في تشرين الاول (اكتوبر) 2000.

في هذا الخصوص يؤكد أحد الباحثين ان من شأن العودة الى حدود 1967 ان تكون بالنسبة للمواطنين العرب عودة الى 1966، أي الى فترة الحكم العسكري. ففي غالبية الفترة من 1948 الى 1967 خضعت حقوق العرب في اسرائيل لقيود الاحكام العسكرية. وعندما يطرح حل “دولتين لشعبين” كاطار لنهاية النزاع فمعنى ذلك العودة الى المبادئ نفسها التي شرعنت القيود الكاملة التي فرضت في تلك الفترة على العرب في اسرائيل.

بتعابير اخرى، موازية لما سبق ذكره ومكملة له، في مقدرتنا القول ان التمسك بحل “دولتين لشعبين” بوصفه حلا نهائيا يعبّر عن تمسك بنهج حصر النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني في حدود “دائرة مغلقة” هي دائرة انهاء الاحتلال الاسرائيلي للارض الفلسطينية منذ حزيران 1967. وهو النهج نفسه الذي تتبناه الصهيونية الجديدة والمنطلق من نقض مبدأ التوسع الصهيوني الاستيطاني، القائم على قضم المزيد من الارض خارج “تخوم الدولة”. وعلى رغم اهمية هذا النقض فان ذلك لا يبرر عدم رؤية انه، في العمق، يعلل الحاجة والضرورة الى المس بالمبدأ الاصلي لهذا التوسع الذي افضى، في لحظة ما، الى نشوء تلك الدولة وما استجره هذا النشوء من تبعات شديدة الوطأة على الشعب الفلسطيني.

اما بالنسبة للديمقراطية فانه في ضوء هذه الاختيارات، لا يمكن ان نعير حديث يولي تمير عنها اهمية اضافية، اللهم الا فيما هو مختص بالنوايا الحسنة.

وفي الاجمال العام، فان ما ادت هذه الاختيارات بمعدي الميثاق اليه هو سلوك مسار الهروب الى الامام من الواقع الحالي الذي يوجد النزاع في خضمه، اخذين بالاعتبار ايضا التطورات المتراكمة منذ تفجر الانتفاضة وصولا الى زمان صياغة الميثاق الذي سبق الاجتياح الاسرائيلي الاخير في نيسان 2002.

ونتيجة هذا المسار/ حسبما تشف عن ذلك بنود الميثاق ببريق اخاذ، تمثلت في اعادة ترسيم قواسم مشتركة تشكل “حدود اتفاق قومي”، لم يتخلخل قط تحت سقف ما اصطلح على اعتباره “الروح الصهيونية”. وفي الوقت الراهن لا يعني ذلك سوى اعادة انتاج الاسباب التي افضت الى مفاقمة النزاع حتى الآن.

“ميثاق طبريا”: النص الكامل

انطلاقاً من الالتزام بوجود دولة اسرائيل كدولة يهودية - ديمقراطية، وانطلاقا من الاحساس بالمسؤولية والقلق على مستقبل اسرائيل وصورة المجتمع في اسرائيل، اجتمعنا نحن، كمواطنين اسرائيليين أبناء الشعب اليهودي، وبروح وثيقة الاستقلال تبنينا هذا الميثاق.

1. دولة اسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي

على مرّ أكثر من ألف وثماني مائة سنة كان الشعب اليهودي بلا وطن. وقد لوحق في بلاد عديدة وفي أوضاع تاريخية كثيرة، حتى الموت. وفي القرن العشرين، بينما كان في المهجر، حلت بالشعب اليهودي فاجعة تاريخية لم يعرف لها أي شعب آخر مثيلا، ألا وهي الكارثة. نحن نؤمن أن هناك ضرورة وجودية عليا، وثمة مبرر أخلاقي تام لأن يكون للشعب اليهودي وطن قومي خاص به، هو دولة اسرائيل.

لقد حافظ الشعب اليهودي، طوال كل تاريخه، على صلة عميقة ومتواصلة مع بلاده. وقد ظل الحنين الى أرض اسرائيل والى القدس في مركز حياته الروحانية والثقافية والقومية. ويعتبر تشبث الشعب الاسرائيلي بتراثه وتوراته ولغته وأرضه ظاهرة انسانية وتاريخية قلت مثيلاتها في تاريخ الشعوب. وهذا التشبث هو الذي أوجد الصهيونية، وجمع الشعب من جديد في أرضه، وأدى الى قيام دولة اسرائيل وتأسيس القدس كعاصمة لها.

اننا نؤكد أن حق الشعب اليهودي في أن يعيش حياة ذات سيادة في أرض اسرائيل هو حق راسخ لا طعن فيه. وان دولة اسرائيل تجسد في أرض اسرائيل حق شعب اسرائيل في الحياة والسيادة والحرية.

اسرائيل هي الوطن القومي والمقر الروحي وقاعدة حرية الشعب اليهودي.

2. دولة اسرائيل هي دولة ديمقراطية

بموجب اعلان استقلالها، فان اسرائيل مبنية على مبادىء الحرية، العدل والسلام. اسرائيل ملزمة بتحقيق مساواة تامة في الحقوق لكل مواطنيها دون تمييز على أساس الدين، الأصل والجنس. واسرائيل ملزمة بحرية الدين والضمير، اللغة، التربية والثقافة. حسب قوانين الأساس وقيمها الأساسية، تؤمن دولة اسرائيل بكرامة الانسان وحريته وهي ملزمة بالدفاع عن حقوق الانسان والمواطن. كل بني البشر خلقوا على صورة الله. كل مواطنة وكل مواطن في اسرائيل متساوون مع الآخرين. كل مواطنة وكل مواطن في اسرائيل هم أحرار.

دولة اسرائيل هي دولة ديمقراطية تقبل حسم الأغلبية وتحترم حقوق الأقلية. كل مواطني اسرائيل شركاء بشكل كامل ومتساو في صياغة صورتها ونهجها.

3. دولة اسرائيل هي دولة يهودية

من حيث انها دولة يهودية فان اسرائيل تجسد حق الشعب اليهودي في تقرير المصير. واستنادا الى قيمها، فان دولة اسرائيل ملزمة باستمرار وجود الشعب اليهودي وبحقه في أن يكون سيد نفسه في دولته ذات السيادة.

ان الطابع اليهودي لدولة اسرائيل تم التعبير عنه بـ: الالتزام العميق بالتاريخ اليهودي وبثقافة اسرائيل بالصلة مع يهود المهجر، بقانون العودة، بتشجيع القدوم الى البلاد والاستيعاب، بالابداع الاسرائيلي، وباللغة العبرية التي هي لغة الدولة الأساسية، بالأعياد وبأيام الراحة الرسمية للدولة، برموزها ونشيدها الوطني، بالثقافة اليهودية ذات الجذور اليهودية وبالمؤسسات التي تطورها، وبجهاز التعليم العبري والذي مهمته أن ينمي، الى جانب الثقافة العامة والعلمية والقيم البشرية، وإلى جانب الاخلاص للدولة وحب البلاد ومناظرها الطبيعية، صلة الطلاب بالشعب اليهودي، وبتراث اسرائيل وبسفر الأسفار. لدولة اسرائيل مصلحة وجودية بتقوية اليهود في الشتات وبتوثيق العلاقات معهم. وستدعم اسرائيل التعليم اليهودي في كل مكان ومكان وتهب لاغاثة اليهود الواقعين في ضيق بسبب يهوديتهم. يهود اسرائيل ويهود الشتات متكافلون.

4. دولة اسرائيل هي دولة يهودية - ديمقراطية

استنادا الى الحق التاريخي للشعب اليهودي، وبموجب قرارات الأمم المتحدة، فان دولة اسرائيل هي دولة يهودية. ووفق مبادىء الأساس التي أقيمت عليها، فدولة اسرائيل هي دولة ديمقراطية. لا يوجد تناقض بين كون دولة اسرائيل يهودية وبين كونها ديمقراطية. وجود الدولة اليهودية لا يتناقض مع القيم الديمقراطية وليس فيه ما يمس بمبدأ الحرية ومبدأ المساواة المدنية.

من أجل ضمان استمرار وجود اسرائيل يهودية - ديمقراطية يجب الاستمرار في بناء أغلبية يهودية ملحوظة فيها. وهذه الأغلبية يحافظ عليها بطرق أخلاقية فقط. على دولة اسرائيل أن توجد تعبيرا لاحساس التقارب بين أبناء الشعب اليهودي وبين أبناء كل مجموعة قومية ودينية أخرى، ترى في نفسها شريكة تامة في بناء الدولة وفي الدفاع عنها.

5. دولة اسرائيل تحترم حقوق الأقلية العربية

دولة اسرائيل ملزمة بأن تتعامل مع كل مواطنيها بشكل متساو وبدون تحيز. في تلك المجالات التي يعاني فيها مواطنون اسرائيليون ليسوا يهودا من غبن واهمال، يجب العمل بشكل حاسم وفوري من أجل تحقيق مبدأ المساواة المدنية بشكل عملي.

تمنح اسرائيل الأقلية العربية حقها في الحفاظ على هويتها اللغوية، الثقافية والقومية. علمنا التاريخ اليهودي والتقاليد اليهودية المغزى الخطير للتمييز تجاه الأقليات. واسرائيل لا تستطيع أن تتجاهل هذه العبرة. الطابع اليهودي لدولة اسرائيل لا يشكل ذريعة للتمييز بين مواطن وآخر.

6. دولة اسرائيل هي دولة محبة للسلام

منذ قيامها، اسرائيل موجودة في نزاع دام. وعلى مدى كل سنوات وجودها يرافقها الصراع، الثكل والدمار. ورغم ذلك لم تفقد اسرائيل، خلال كل سنوات النزاع، ايمانها بالسلام وأملها في السلام.

حق الدفاع عن النفس محفوظ لاسرائيل. يجب التأكد من أن يبقى هذا الحق محفوظا وأن تمارس اسرائيل على الدوام قدرتها على الدفاع عن وجودها.

دولة اسرائيل على علم بطبيعة الصراع المأساوي والمحدق بها. وهي تطلب انهاءه والتخفيف من معاناة كل ضحاياه. وتمد يدها الى جيرانها وتطلب اقامة سلام دائم في الشرق الأوسط. اسرائيل مستعدة للاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الجار، بشرط أن يعترف بالحقوق المشروعة للشعب اليهودي. لا تطلب اسرائيل السيطرة على شعب آخر، لكنها مصرة على الا يحاول أي شعب أو دولة القضاء عليها كدولة يهودية. وترى اسرائيل في مبدأ تقرير المصير والتعبير عنه في اطار دولة قومية، وكذلك في الاستعداد لتنازلات من الطرفين، أساسا لحل النزاع.

7. دولة اسرائيل هي دولة متعددة الأوجه

لقد تجمع وقدم الى دولة اسرائيل كل أسباط اسرائيل، أبناء جاليات عديدة، وسوية مع سكان البلاد، يهودا وغير يهود، شكلوا فيها مجتمعا متعدد الأوجه.

الفسيفساء البشري والثقافي الاسرائيلي غني ومميز. ومن منطلق التقدير لمساهمة مختلف الأوساط المتعددة في اقامة الدولة وتأسيسها، ومن منطلق احترام الثقافات على اختلافها، وكذلك الأفراد، يجب على اسرائيل أن تنمي وتحافظ على مجموعة التقاليد الموجودة فيها. على دولة اسرائيل أن تحافظ على جوهر مشترك من ناحية وعلى حرية ثقافية وجماهيرية من ناحية أخرى. وعلى اسرائيل أن تخلق بيئة انسانية متسامحة تمكن كل المجموعات القومية من أن تستخلص منها أفضل ما لديها، وتمكن أيضا كل المجموعات معا من العيش في المكان نفسه، بانسجام ومن خلال علاقات احترام متبادل.

8. دولة اسرائيل هي دولة أخوة

تمشيا مع ارادة مؤسسيها ومن تاقوا اليها تطمح اسرائيل الى بناء واقامة مجتمع محب للعدل. بيد أنه، منذ قيامها، رسخت في اسرائيل ضائقات اجتماعية قاسية. نحن نؤمن أن هناك حاجة ضرورية لتجديد روح الأخوة الاسرائيلية على أساس تكافؤ الفرص والعدل الاجتماعي. على اسرائيل أن تعمل على رأب الصدع الذي يقطع أوصالها وأن تخلق شراكة حقيقية بين كل مواطنيها. عليها أن تكون دولة تكافل متبادل.

بناء على ذلك، على المجتمع الاسرائيلي أن يكون مجتمعا أخلاقيا حساسا ازاء رغبات الأفراد والجماعات بين ظهرانيه. عليه أن يكون مجتمعا مانحا لكل المواطنين احساسا بالشراكة. كل انسان في اسرائيل يحق له أن يعطى الفرصة لتطوير القدرات الكامنة فيه، ومن شأن تخصيص الموارد العامة أن تمنح كل فرد جل الإمكانيات لكي ينمي مهاراته ويحسن حياته بغض النظر عن مكان سكناه، أصله أو جنسه. ومن أجل ذلك، يجب الاستثمار بشكل كبير في التربية والتعليم وفي البنى التحتية في الضواحي. على اسرائيل أن تكون مكانا يليق ويطيب العيش فيه.

9. دولة اسرائيل ودين اسرائيل

يعيش في اسرائيل يهود علمانيون، تقليديون ومتدينون. وعملية الابتعاد والاغتراب بين هذه المجموعات خطيرة وهدامة. نحن كعلمانيين، تقليديين ومتدينين كل منا يعترف بمساهمة الآخر في الوجود المادي والروحي للشعب اليهودي. نحن نؤمن أنه يوجد للتقاليد اليهودية مكان مهم بالعلانية والتأملات العامة في حياة الدولة، لكن لا يجوز للدولة أن تفرض معايير دينية على حياة الفرد. أما النقاش حول أمور الدين والدولة فيجب ادارته بطريق الحوار، بعيدا عن التشويه والتحريض، بأدوات قانونية وديمقراطية ومن خلال احترام الغير. أبناء شعب واحد نحن. ماضينا ومصيرنا مشترك. رغم خلافات الرأي وتباين وجهات النظر بيننا، الا أننا جميعا ملزمون باستمرار الحياة اليهودية وباستمرار وجود الشعب اليهودي وضمان مستقبل دولة اسرائيل.

10. مسؤولية وطنية

لقد عمل اباء الدولة عملا تاريخيا نادرا باقامتهم دولة اسرائيل. وهذا العمل لم يكتمل، بل هو في أوجه. ان جهود عودة صهيون ومحاولة اقامة سيادة يهودية - ديمقراطية في أرض اسرائيل تقف في القرن الحادي والعشرين أمام تحديات صعبة. نحن، المساهمين في هذا الميثاق، نرى أنفسنا كمسؤولين عن استمرار العمل. ونرى في دولة اسرائيل وطننا المشترك. وبقبولنا هذا الميثاق فاننا ملتزمون بعمل كل ما ينبغي عمله من أجل أن نضمن بقاء ومتانة وأخلاقيات هذا الوطن.

قائمة بأسماء اعضاء “طاقم المسؤولية القومية”

المحامي عيدو اوحيون، ادار ازينكوت، ايرينه اولفينسكي، ايفي ايتان، د. يشاي الموغ، د. عوزي اراد، الجنرال احتياط هرتسل بودينغر، د. مئير بوزغلو، ماشا بومان، دافيد بوعز، الحاخام الياهو بيرنبويم، البروفيسور ميخال بيلر، نوعه بن ارتسي، د. دان بن دافيد، الحاخام يوئل بن نون، الحاخام الياهو بن موشيه، الحاخام موطي باراور، دافيد بروديت، شوش برلينسكي، المحامية تمار باراك، روتي بار شليف، يوحنان باشي، عنات غوف، الحاخام يهودا جلعاد، الجنرال عوزي ديان، د. ارئيل هلفرين، الحاخام البروفسور داني هرشكوفتش، د. يورام حزوني، مئير يافه، المحامي بن درور يميني، الجنرال احتياط اهوفه يناي، د. الكس يعقوبسون، حافه بنحاس كوهن، اهرون كوهن، د. هنرييت كلاف، غيورا ميوحاس، هليل مالو، المحامي د. عمرام ملتس، شموئيل مرحاف، بروفسور زئيف سيغال، بروفسور ارنون سوفر، بروفسور شاي فلدمان، المحامي سيغال بعيل، داليا فريشكر، د. تسفي تسميرت، الحاخام مردخاي كرليتس، شالوم كيتال، الحاخام د. اوري ريغف، تسفي راموت، آري شفيط، شبتاي شفيط، بمبي شيلغ، د. زكي شالوم، موطي شكلر، بروفسور زئيف تدمور، بروفسور يولي تمير.

مغسلة “طبريا”

ابيراما غولان

ربما كان بالامكان الاكتفاء بالرد على “وثيقة طبريا” بالسخرية. لعل هذه الوثيقة الصفراء، التي تقلد بأسلوبها بشكل رديء ومحرج جدا اللغة الاحتفالية والجميلة في “وثيقة الاستقلال”، غير جديرة بالرد عليها. الاّ أن استعمال “وثيقة الاستقلال” كأساس، وخلق الانطباع الكاذب وكأن “وثيقة طبريا” هي تعديل لوثيقة لا تحتاج الى التعديل (بل الى التحقيق) - تتطلب فضح المخاطر الكامنة تحت كم كبير من النوايا الحسنة والمرنة لـ “فوروم (طاقم) المسؤولية الوطنية”. “وثيقة طبريا” هي مغسلة للكلام الفاخر، وهي تحطم، تحت ستار جنون العظمة الكامن في الصياغة “نحن اجتمعنا هنا” (باسم من؟)، الأسس الثلاثة المهندِسَة للوفاق في المجتمع الإسرائيلي: النهج الديمقراطي، المفهوم المدني والمبدأ الصهيوني. وفي استعمال التعريف “المسؤولية الوطنية” افتراض بأن الجهاز السياسي الحزبي، الذي يدعي أعضاء الفوروم في المناسبات المختلفة أنه قد فشل، لا يتمتع بالمسؤولية مثلهم. هذه صفعة مدوية على خد الديمقراطية.

وماذا يقترحون بدلا عن ذلك؟ سلاما مقنعا بين إيفي إيتام وممثلي الجيش ونوعه بن أرتسي؟ التعبير “نحن مواطنون إسرائيليون من أبناء الشعب اليهودي” يموّه الانتماء المدني لصالح الانتماء العرقي. يقترح هذا الخطاب الجديد حيزا رائعا لنشاط روح القيم الجمعية للمستوطنة اليهودية في الخليل من جهة، ولنزعة الوحدة العربية التي ينادي بها عزمي بشارة من جهة اخرى.

لكن ما قيمة هذين الأمرين مقابل ازاحة الصهيونية الى موضع تفقد فيه تبريرها الأخلاقي. “إن تمسك شعب إسرائيل بتراثه، دينه وبلاده هو ظاهرة انسانية وتاريخية يندر مثيلها في تاريخ الشعوب (وماذا بالنسبة للهنود؟ والتبيت؟). هذا التمسك هو الذي “خلق الصهيونية”. هذه الصياغة التي تبدو وكأنها ساذجة، تنفي الصهيونية الى أقاليم “غوش إمونيم” المسيحانية. مسحت مغسلة “طبريا” من تاريخ الصهيونية التمرد في تاريخ اليهودية، والفكرة الثورية لخلق مجتمع جديد، والفصل بين الدين والدولة وغيرها. فليس صدفة غياب المستوطنات من الوثيقة. تحت ستار ممثلي اليسار يُسمع من الوثيقة فقط الخطاب الايديولوجي للمستوطنين اليهود في الخليل. أمر آخر يستفز هو استعمال صيغة الحاضر. على عكس “وثيقة الاستقلال” التي تتحدث عن التطلعات المستقبلية، فإن وثيقة القلقين على “مستقبل دولة إسرائيل” تُبيّض كل غبن عبر تعريفاتها. “دولة إسرائيل هي دولة ديمقراطية”، تحدد الوثيقة، وتلغي بذلك كل نقاش حول ديمقراطية الدولة التي تتحكم بشعب آخر. وهنالك ملاحظة في الوثيقة حول الأمر: “إسرائيل لا تريد أن تحكم شعبا آخر”. من هي هذه “دولة إسرائيل”؟ الحكومة؟ الشعب؟ حي يوسف طال، أم حي تسميرت؟ لماذا نحن مع ذلك نتحكم بشعب آخر منذ 35 سنة؟ “دولة إسرائيل هي دولة مسالمة”. هذا التعريف يلقي نهائيا، كما في الخمسينيات، وبتناقض كلي مع عملية السلام التي قادها رابين، بمسؤولية السلام على جيراننا. أما زبدة الوثيقة: “تحترم دولة إسرائيل حقوق الأقلية”، فهي تبييض مكثف للتمييز المؤسساتي المتواصل ضد المواطنين العرب. لكن المغسلة تناقض نفسها حتى هنا. من يحترم حقوق الأقلية؟ “مواطنو إسرائيل أبناء الشعب اليهودي”؟ يتضح من صياغات الوثيقة، كما هو مقبول في المستوطنات، أن الخطر يحلق فوق الوجود اليهودي لإسرائيل. هذه فكرة مهووسة، وأخطر منها فقط الشراكة التي بدأ بها أعضاء فوروم “المسؤولية الوطنية” مع الجيش الإسرائيلي. يصعب التصديق أن واضعي الوثيقة لا يدركون كم هي باطلة هذه الشراكة بين من يدعي بلورة الصورة المدنية لإسرائيل وبين المؤسسة العسكرية. على كل من يريد التوقيع على الوثيقة أن يطالب بازالة الحيف عن “وثيقة الاستقلال”. ربما تكون هذه النتيجة الايجابية الوحيدة لهذه المناورة الغريبة، التي تستغل ذكرى اسحق رابين، الشخص الذي قُتل لأنه لم يكن مستعدا لتمويه الموافقة حول أمور قد تعرض المجتمع والدولة للخطر.

أفضل جواب على انتفاضة الاقصى

حيوتا دويتش

“وثيقة طبريا” هي أفضل جواب في هذه المرحلة على انتفاضة الاقصى. في مواجهة الأعداء، حيث ان تفكك المجتمع الإسرائيلي هو الوضع الأكثر سهولة ونجاعة بالنسبة لهم، تشكل “وثيقة طبريا” سلاحاً سرياً.

جاء في مقدمة الوثيقة: “من خلال الالتزام بوجود إسرائيل، كدولة يهودية - ديمقراطية، وبدافع المسؤولية والقلق العميقين على مستقبل إسرائيل، وصورة المجتمع الإسرائيلي، اجتمعنا هنا، مواطنون إسرائيليون من أبناء الشعب اليهودي، وبروح وثيقة الاستقلال - تبنينا هذه الوثيقة”.

من السهل ملاحظة الفزع العميق المنبثق من كل كلمة. إن شعور محرري الوثيقة يشبه شعور المسافرين على متن سفينة تغرق، لكن وعلى خلاف “التايتانيك” - كتل الجليد ليست في الخارج، بل عندنا، في الداخل، وجذورها في انعدام تماسك المجتمع الإسرائيلي المتفكك.

وكما كل سلاح، فان “وثيقة طبريا” ايضا غير متكاملة. من السهل تعداد ما لا تتضمنه: لا وجود فيها للهيكل، ولا وعد الرب لابراهيم، ولا الخلاص ولا الوعد الرباني على البلاد - مجموعة المصطلحات التي يتضمنها كل خطاب جدي عن الدولة اليهودية وحقنا على البلاد بشكل اوتوماتيكي. لهجة الافتتاح جدا تبريرية. المحرقة أكثر من اللزوم لتسويغ وجودنا هنا. وهذا صحيح، فلو كنت أنا هناك لما تنازلت عن ذكر اسم الرب - على الأقل بصيغة “سبحانه وتعالى” كما وردت في وثيقة الاستقلال. لكنه يسهل اسداء النصائح من الخارج. لا أحسد من عمل على الصياغة ووزن كل كلمة. ومن لم يقف عن قرب على الديناميكية الداخلية التي لا بد أنها كانت هناك - بين اليسار واليمين، بين المتدينين والعلمانيين - لا يحق له اللوم. وكان يئير شيلغ قد صاغ ذلك بشكل مختلف، ففي مقالة له في صحيفة “هآرتس” قال أن كل من يتذمر من تفاصيل أو صياغات معينة في “وثيقة طبريا” هو كمن يتذمر من لائحة الطعام في سفينة “التايتانيك”؛ أمر مهم لكنه ليس بأمر مبدئي.

هنالك من هو موقن أن “وثيقة طبريا” هي شبكة اغراء يسارية تهدف الى الايقاع باليمينيين السذج، وهنالك من يؤمن بنفس الشيء لكن بالمقلوب: “وثيقة طبريا هي وثيقة مأساوية، لا أفهم كيف يستطيع أشخاص من المعسكر القومي التوقيع عليها”، اشتكت ممثلة عن “نساء بالأخضر” في رسالتها. “هل لنا ولأحمد طيبي وزن متساو كمواطنين في الحسم بمصيرنا؟ وهل سنقبل بازالة مستوطنات باسم “الاستعداد للقيام بتنازلات” كما جاء في الوثيقة؟ وهي تعتقد أن الوثيقة مؤامرة يسارية من قبل “السلام الآن”.

قبالة ذلك توجد ادعاءات عكسية، وكأن الحديث عن مؤامرة قومية ثقيلة الظل (المؤامرات القومية دائما ثقيلة الظل) تستثني العرب. الحديث هنا عن ادعاء ساخر بشكل خاص، بموجبه لا يحق لمجموعة متجانسة التحدث مع نفسها والتوصل الى مواقف مشتركة. استغرب إن كانوا سيقولون نفس الشيء عن مؤتمر عربي من هذا النوع.

ادرك محررو الوثيقة أنهم لن يستطيعوا إرضاء الجميع. كُتبت هذه الوثيقة مسبقا للثمانين بالمائة الذين سيوافقون عليها، مع التنازل عن 20% من الهامش السياسي والمتديّن. الوثيقة المفصلة للحاخام ميدان والبروفيسور روت غبيزون هي أحدى ملاحق هذه الوثيقة. أيضا هذه الوثيقة حظيت بقسط وافر من الغضب من جهة، وبصمت صارخ، ربما عدم مبالاة، من جهة ثانية. “قانون السبت” لعضو الكنيست لنغنطال هو أحد اسقاطاتها الفورية. لا أدري على ماذا نتأسف أكثر: على المعارضة لهاتين الوثيقتين البقائيتين، أم على الصوت العام البائس الضعيف، الذي واجهته الوثيقتان من قبل الجمهور.

وجدت نفسي (هذا الاسبوع) أمام صف من طالبات الثانوية في احدى المدارس أحاول شرح المنطق الداخلي للوثيقة، ومشيرة مع ذلك الى النشاز والاشكاليات، مدعية أنه يجب قبولها بالرغم من كل ذلك. السؤال الصعب كان من معلمة الفتيات: “كيف يجرؤ الموقعون على القرار بالتنازل عن فكرة أرض إسرائيل الكاملة باسم التسوية الاجتماعية؟ ليس هذا ما تربينا عليه. من خولهم القرار أن التماسك الاجتماعي هو الأساس، فربما الأهم هو بالذات الحفاظ على هذه الجذوة، والتمسك بصواب موقفنا بكل قوتنا”؟.

“بكل قوتنا” هو تعبير مركزي. يستعير واضعو الوثيقة تصوير لعبة شد الحبل. تؤمن القوى المختلفة في إسرائيل أنها قادرة على شد الحبل الى جهتها، ففي حال الطبيعة فان فعل الشد العكسي للمجموعة المتنافسة يضع التوازن. الشعار في هذه اللعبة هو “بكل قوتك”. نتيجة عمليات الشد هذه هي المحصلة النهائية، حيث ستجد كل فئة نفسها ملقاة على الأرض وفي يدها حبل صغير ممزق. “حقا إنها عملية حاسمة” في نهاية الأمر، قلت للمعلمة، “ولها ثمنها كما لعملية حاسمة عكسية”.

هل تريد القيادة الدينية - القومية وتستطيع الوقوف مع حسم من هذا النوع؟ أحصيت عدد الحاخامات من أعضاء هيئة الوحدة القومية، وضمن المجموعة الأولى من الموقعين - المجموع عشرة في كلا المجموعتين، بما في ذلك الحاخامات الاصلاحيون (بدون رئيسة مصلحة السجون أوريت أداتو...) هل سيزداد عدد الموقعين في المرة القادمة؟ وماذا سيكون مصير هذه الوثيقة؟ هل ستحدث انطلاقة صهيونية جديدة؟ هذا غير معقول، بالرغم من أن واضعي الوثيقة كانوا يرغبون بذلك مؤكدا. في أسوء الحالات سوف يتم وضعها على الرف ونسيانها، مثل المحاولات الفاشلة التي سبقتها، أما في أفضل حال فسوف تنجح في انقاذنا من ذاتنا وانقاذ السفينة التي صنعناها بجهد كبير، من الغرق.

امتحان النتيجة لـ “وثيقة طبريا”

الوثيقة هي نشاط للمجتمع المدني اليهودي في إسرائيل وليست وثيقة تأسيسية للدولة

روت غبيزون

مرة أخرى ندخل أنفسنا في متاهة: بدل أن نفحص هل وكيف تستطيع “وثيقة طبريا” مساعدتنا، ننشغل في السؤال المسبق حول شرعية المشروع والمبادرين له. باعتقادي أن السؤال المهم حقا هو: هل التضامن اليهودي المنعكس في هذه الوثيقة سيدفع المجتمع الإسرائيلي لمواجهة المشاكل الوجودية، أم سيوفر فقط غطاء لزجا لوفاق ضبابي يتيح لنا مواصلة الهروب من ضرورة مواجهة هذه المشاكل؟.

تنبع شرعية “وثيقة طبريا” بشكل واضح من تجربة تفكير بسيط. لنفترض أن ممثلي الجماهير العربية كانوا قد اجتمعوا لمناقشات ماراثونية في الناصرة، وأصدروا في نهاية المطاف وثيقة ضبابية في الاماكن الصحيحة حول فهمهم لمكانتهم في دولة إسرائيل، وتطلعاتهم بالنسبة لصورة الدولة، ومطالبهم منها. على ما يبدو كان سيتطور نقاش عام فعّال حول ما جاء في الوثيقة، ولم يكن أحد لينفي شرعيتها بسبب استنادها الى نقاش إسرائيلي عربي داخلي. صحيح أن الأغلبية لا تشعر عادة بضرورة الانشغال فيما هو مفهوم ضمنا وضروري للأقلية. لكنه يحق للأكثرية القيام بذلك، وخاصة إذا كانت أغلبية في بلدها الصغير فقط، ومحاطة بدول تنتمي الأقلية الأساسية داخلها الى شعوب وثقافة هذه الدول.

فقط من يعتقد أن الصراع المتواصل بين حركتي حق تقرير المصير للشعب اليهودي وللشعب الفلسطيني هو بمثابة لعبة مجموعها صفر، يمكنه أن يعتقد أن كل ما يعزز التضامن اليهودي هو بالضرورة سيء لغير اليهود، وللعرب بشكل خاص. تشدد هذه الوثيقة على ما اعتدنا أحيانا نسيانه وتمويهه: بين اليهود والعرب، وبين اليهود أنفسهم، وبين مجموعات سكانية مختلفة في إسرائيل توجد أيضا مواجهات وتناقضات عميقة في المصالح. لهذا السبب بالذات، من الضروري توضيح الاطر المشتركة، المدنية، لجميع الفئات، وكذلك خصوصية كل منها. هنالك حرية تامة للمجموعات المختلفة للعمل أيضا داخل أُطرها الداخلية. تقوم الديمقراطية الفاعلة على الاعتراف بمركزية مثل هذه المجموعات.

والأهم من ذلك أن المجموعات القوية والمبلورة تستطيع الوصول الى تسويات جيدة أكثر من غيرها. بلورة المجموعات تمنحها قوة أمام المجموعات الاخرى لم تكن لتتوفر لها لولا ذلك. من يدرك قوته يشعر بالتهديد أقل، ولذلك يستطيع أن يستغل قوته بحكمة لفائدة الجميع. باختصار، المجموعات المدنية القوية جيدة للديمقراطية أيضا، عندما تعكس تطلعات وميول جزء من السكان فقط.

“وثيقة طبريا” ليست وثيقة تأسيسية للدولة. فإسرائيل قائمة، وهي الأطار المشترك لجميع مواطنيها. “وثيقة طبريا” هي نشاط للمجتمع المدني اليهودي في إسرائيل. إنها لا تلزم أحدا، لذلك فإن مسألة: من يمثل واضعوها لا صلة لها بالموضوع. وضعت الوثيقة على خلفية الخلاف العميق بين اليهود في إسرائيل، وهدفها المعلن هو منح إطار وفاقي لممثلي المجموعات المتنازعة، يوفر ما يكفي من الثقة المتبادلة من أجل السعي معا لمعالجة الخلافات عندما يتطلب الأمر. نتفق جميعا على وجود العديد من المشاكل في إسرائيل، لا نواجهها بشكل ناجع بسبب هذه الخلافات، وفقط بعضها يخص مسألة تعامل إسرائيل مع العرب في الداخل وفي الخارج. لنضع الوثيقة في امتحان النتيجة: كل مشكلة قد تحل بشكل صحيح بفضل الاطار المشترك الذي أنتجته الوثيقة، ستشكل حجرا ثمينا في تاجها. في المقابل، إذا اقتصر النجاح على التفاخر بمجرد انجاز الاتفاق على الاطار، فمن الأفضل لو تم توظيف الطاقات المهمة التي انتجت الوثيقة في آفاق أكثر نفعا.

 

طبريا أم متسادا؟

بن درور يميني

منذ نشرها حظيت “وثيقة طبريا” على الغالب بالانتقاد وخاصة الاستفزازي. للتذكير، وثيقة طبريا هي محاولة للتوصل الى وفاق وطني وربما أيضا الى حلم مشترك. الحديث هو، في الحقبة الصهيونية التي نعيشها،عن السير ضد التيار المسيطر على النقاش العام، وكانت ردود الفعل بالتلاؤم، خاصة من قبل من يتخيلون أنه يحق لهم وحدهم احتكار هذا النقاش.

ينتمي رافضو وثيقة طبريا الى قسم من معسكر الحريديم، وأيضا الى قسم مما يسمى يسارا. يوجد قاسم مشترك للمعارضين: فهم ينتمون، غالبا، لمعسكر ما بعد وضد الصهيونية. الحلم القومي المشترك في دولة هي يهودية وايضا ديمقراطية يتعارض مع أجندتهم. هم يريدون، كل حسب طريقه، دولة متجزئة، يسمونها، في اطار مغسلة الكلام، أيضا باسم “متعددة القوميات” أو “متعددة الثقافات”.

ومن غير المهم أن “دولة يهودية وديمقراطية” هي بالضبط ما هو مقبول لدى الغالبية المطلقة للجمهور اليهودي. ومن غير المهم أيضا أن هذا كان مقبولاً أيضا حتى قبل بضع سنين على غالبية الجمهور العربي، الذي كان يرفع في مسيراته شعارات كتب عليها “دولتان لشعبين”. المهم هو أن السيطرة على النقاش العام هي التي تُملي الفجوة المذهلة بين ما تريده الأغلبية - إرادة تحولت الى فكرة منبوذة - وبين ما تريده الأقلية الصاخبة. الأقلية الما بعد والضد صهيونية ممثلة في النقاش العام بشكل متناسب، أكثر بكثير من وزنها بين السكان. هذا هو سبب كون معظم ردود الفعل على وثيقة طبريا سلبية وانتقادية. تريد هذه الأقلية أن تملي، وربما أن تفرض، عالم مفاهيمها. الوفاق الوطني بالنسبة لها هو أمر فظ وتافه، تماما مثل “دولة يهودية وديمقراطية”.

لا تستطيع هذه الأقلية العنيفة قبول الحقيقة بأن شخصيات رائدة من معسكر الحمائم والصقور، وأيضا جزءاً من معسكر الحريديم (الكثيرين من شاس مثلا) توصلت الى قاسم مشترك. بالرغم من أن الردود الاستفزازية جاءت في الأساس من قبل الجهة الحمائمية المتخيلة، فهي تذكرنا بردود فعل اليمين المتطرف لدى سماعه تصريحا معتدلا، مثل التنازل عن حق العودة من قبل شخصيات فلسطينية.

الصراع الأساسي للمجتمع الإسرائيلي اليوم هو ضد القوى الانتباذية. هنالك جبهة موحّدة تسعى الى هدف واحد: فكفكة القاسم المشترك. يتواجد في هذه الجبهة الموحّدة قسم من الحريديم، الذين ينفون كل حوار، اليسار غريب الأطوار، مع جزء من الوسط العربي، وخاصة الحركة الاسلامية في الشمال. وهم يسعون سوية للقضاء على فكرة “دولتان لشعبين” لصالح دولة واحدة او دولتين لا يكون لأي منها طابع يهودي.

وثيقة طبريا ليست برنامجا حزبيا، إنها تسوية. بدون تسوية فنحن محكومون الى الزوال الداخلي والخارجي. وثيقة طبريا هي انجاز هائل، لأنها تتضمن رفع راية مشتركة لغالبية قد سئمت المصطلحات الضد صهيونية، الضد يهودية وضد ديمقراطية. توصلت هذه الأغلبية، بجهد غير قليل، الى خطوط مشتركة أيضا حول النقاط الخلافية، مثل الدين والدولة ومثل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.

لن تحل الوثيقة بحركة سحرية جميع الخلافات. هذه كانت قائمة وسوف تستمر. من أجل مهاجمة وثيقة طبريا يلجأ مهاجموها الى الاكاذيب أيضا. فهم ينسبون الى أحد أفراد اليمين الرأي القائل بأن تحقيق الحقوق القومية للفلسطينيين، كما جاء في الوثيقة، سيتم فقط عبر نهر الأردن. وهكذا وجدوا سببا للاستهزاء بالوثيقة، لأن أنصار الترانسفير يستطيعون هم أيضا التوقيع عليها. لكن هذا الشخص اليميني لم يعبر عن موقف كهذا.

امتحان وثيقة طبريا لن يكون عبر سيل المقالات الانتقادية من قبل الأقلية التي تحتقر التسوية وتقدس الخلاف. الامتحان الحقيقي سيكون عبر رفع الراية ضد الأقلية الصاخبة التي تريد قيادتنا نحو التفكك. إن لم تنتصر هذه الوثيقة والفكرة التي تعبر عنها، فسيكون البديل التفكك القومي.

 

في طبريا عرّفنا الدولة اليهودية

بقلم: بروفيسور زئيف تدمور رئيس مركز رابين سابقا

 

تقتبس فيرد ليفي- برزلاي في مقالها “في طبريا عرّفنا الدولة اليهودية” (“هآرتس” 4/1/2002) عن السيدة شلوميت ألوني قولها أن “مركز رابين مأسور بيد اليمين كليا”. بصفتي رئيسا سابقا للمركز، راعتني قراءة هذه الملاحظة غير الموثوقة. أقيم “مركز رابين لدراسة إسرائيل” بناء على قانون كنيست إسرائيل، ويديره مجلس شعبي، الوزير المعين هو رئيس الدولة، لذلك فهو جسم حكومي لا سياسي. عندما تم تعييني لرئاسة المركز، اضافة الى نشاط المركز في اقامة متحف عصري، أسست أرشيفا ودراسات اكاديمية، وبدأنا بنشاطات جماهيرية حول التصدعات في المجتمع الاسرائيلي. وكان التوجه الفلسفي من وراء هذه النشاطات هو أن مقتل رابين نتاج التصدعات العميقة في المجتمع والتي ولّدت الكراهية، والانغلاق وعدم التسامح، لذلك كان شرعيا وضروريا أن يعمل مركز رابين ضمن نشاطه الجماهيري على رأب الصدع الذي يهدد مستقبل المجتمع الاسرائيلي، وكذلك دفع التفاهم، التسامح والقيم الديمقراطية. تمت المصادقة على النشاطات الجماهيرية من قبل سلطات المركز وبناء على موافقة رئيس الحكومة انذاك ايهود باراك.

في اطار هذه النشاطات، تبنى المركز من ضمن أعماله استكمال عمل البروفيسور روت غبيزون والحاخام ي. ميدان لوضع وثيقة للمتدينين والعلمانيين؛ أُقيمت مجموعة “المسؤولية القومية”؛ أُفتتحت بالتعاون مع صحيفة “هآرتس” دورة صحافة للشبان والشابات العربيات بهدف دمجهم في الصحافة العبرية؛ أُقيمت مجموعة للحوار بين زعامة حركة “شاس” ومجموعة من اساتذة الجامعات؛ باشرنا في مشروع مشترك مع جمعية “بَشاعر”، و “صندوق رائي سخطا ويد هنديب”، “جامعةً متوفرة للجميع” بهدف مشاركة آلاف الأطفال من الضواحي في مخيم صيفي في الجامعة من أجل “تحطيم الحواجز”، وعلى أمل ادخال التعليم الجامعي الى حلم هؤلاء الأطفال، وأن يعمل تحقيق هذا الحلم على جسر الهوة الاجتماعية - الاقتصادية.

حازت هذه النشاطات على دعم المرحومة ليئا رابين. وهي التي عرفتني بإسرائيل هرئيل الذي بادر الى اقامة الفوروم من أجل المسؤولية القومية، وشجعت عمله في المركز. على عكس ما جاء في المقال، ترك هرئيل الفوروم لم يكن على خلفية “نزاع شخصي أو على خلفية مادية”، كما لا يوجد أي أساس من الحقيقة للادعاء بأن مشاركة ثلاثة عسكريين برتبة لواء في الفوروم هي بسبب وظيفة داليا رابين كنائبة لوزير الامن. لم يكن لداليا أي يد في انتخاب أعضاء الفوروم.

لدى التعامل مع التصدعات في المجتمع فمن الواضح أن الأمر يتطلب مشاركة رجال ونساء من جميع ألوان الطيف السياسي والمجتمعي في إسرائيل، كما يليق القيام به في كل هيئة حكومية. على ضوء هذا وعلى ضوء أنواع النشاطات المذكورة أعلاه أستغرب كيف يمكن الموافقة على الادعاء أن المركز “مأسور بيد اليمين كليا”؟

ما تتجاهله “وثيقة طبريا”

شمعون بلاص

تنفي البروفيسورة يولي تمير في ردها على منتقدي “وثيقة طبريا” (ملحق “هآرتس” 2/8/200)، موقف اليسار الصهيوني الذي يقترح “أن يتبنى المواطنون العرب الحلم الصهيوني ويعتبروه هدفا جديرا بالتحقيق”، وكذلك موقف اليسار ما بعد الصهيوني الذي يقترح “تشييد وثيقة مدنية على أساس التنازل عن الصهيونية”. وتقول ضد هذين الموقفين أنه “ستتم المحافظة التامة على حقوق المواطنين العرب فقط اذا تم الاعتراف بحق الأقلية العربية في الحفاظ على هويتها اللغوية، والثقافية والقومية”. وبرأيها فإن “وثيقة طبريا” تستجيب لهذا الحق. وتلخص رأيها بقولها أنه يجب “الحفاظ على حقوق الأقلية القومية العربية في اطار الدولة القومية اليهودية واقتراح صيغة معقولة لمكانة الأقلية اليهودية في الدولة القومية الفلسطينية”.

بالاضافة الى الافتراض الضمني أن المستوطنات اليهودية سوف تستمر في الوجود في الدولة القومية الفلسطينية، فهي تتجاهل التناقض القائم في المقارنة بين القومية الفلسطينية القائمة على أساس اطار الأرض المشتركة، وبين القومية اليهودية القائمة على أساس الانتماء الديني. لذا يطرح السؤال: بماذا يختلف موقفها عن موقف اليسار الصهيوني، الذي يبدو وكأنها ترفضه؟ الكلام الجميل حول حق الأقلية العربية الفلسطينية في المحافظة على هويتها القومية في الدولة القومية اليهودية، لا يقدم الجواب حول سؤال: كيف يستطيع المواطن من أبناء هذه الأقلية أن يعتبر نفسه متساويا في الحقوق مع المواطن اليهودي في دولة تقوم على أساس الهوية الدينية مع قانون العودة وجميع الرموز الرسمية، مثل العلم والنشيد الوطني؟ لا يملك اليسار الصهيوني وواضعو “وثيقة طبريا” جوابا لهذا السؤال، وكما يبدو لن يكون لديهم جواب الى أن يعترفوا بالحقيقة العينية: أن دولة إسرائيل في بنيتها الحالية، هي دولة ثنائية القومية مع كل ما تعنيها الكلمة من معنى.

حوار وليس “مونولوج”

رد البروفيسورة يولي تمير، رئيسة مركز رابين، على منتقدي وثيقة طبريا من اليسار

بروفيسورة يولي تمير

للحظة قصيرة من السعادة نشأت وحدة نادرة بين بضع حاخامات من حي “مئة شعريم” وبعض أعضاء قسم الفلسفة في جامعة تل أبيب. توحد الطرفان لشجب محاولة التوصل الى الوفاق المعبر عنه في “وثيقة طبريا”. لم يبخل المستنكرون في كلامهم بتعابير من نوع: عار، وثيقة عنصرية، صفراء، كفر. لا جدوى من الحوار، قالوا جازمين، بل فيه ضرر كبير وجسيم. “لن نؤثر بهذه الطريقة على العلمانيين ولن نغيّر طريقهم، بينما سيؤثرون هم علينا بشكل سيء لمجرد سماع أقوالهم”، قررت صحيفة الحريديم “يتيد نئمان”. ذُعر معسكر اليسار الما بعد صهيوني أيضا من فكرة الحوار مع “الحريديم”، واليمين والمستوطنين، أو باختصار مع كل من يملك رأيا مغايرا لرأيهم. في غياب الحاخامات، اختار كل رجل وامرأة طريقته الخاصة للاحتجاج، وهي في الأساس الاشمئزاز من فكرة الحوار مع من نحن على خلاف حاد ومرير معهم.

يؤجج الواقع الإسرائيلي المونولوجات. ففيها يناجي الأفراد أنفسهم، حول أنفسهم، بمصطلحات مقبولة عليهم وفقط عليهم. يتم كسر المونولوج فقط بواسطة تبادل الصراخ الذي يزجر فيه كل طرف الآخر على خطئه. الاصغاء، بناء على هذا المفهوم، هو الخطيئة الكبرى، فهو قد يؤدى الى الاقتناع، وقد يسبب لنا ليس فقط أن نرى الآخر قرينا لنا، بل أيضا، معاذ الله، محاورا. من يعتبر الحوار أسلوب حياة، وطريقا للتربية الذاتية والتأثير على الآخر، مستعد للتحدث مع: الفلسطينيين في المناطق، ومع الفلسطينيين مواطني إسرائيل، ومع شعوب العالم، وأيضا.. مع اليمين الإسرائيلي. الحديث من خلال الاحتجاج، والغضب، والتخوف، وعدم الثقة، وأيضا من خلال الاصغاء والرغبة بتوسيع حدود الوفاق.

الأشخاص الذين اجتمعوا على شاطئ بحيرة طبريا يؤمنون بالحوار. هم يؤمنون أيضا بأنفسهم. يؤمنون أن الحوار لن يسحق وجهة نظرهم برمتها. من يخشى ألاّ تصمد وجهة نظره أمام سيف الحوار يمتنع عنه. من يؤمن بنهجه، يؤمن ولا يخشى، يكون مستعدا للحوار.

تدرك المجموعة التي جلست على شاطئ بحيرة طبريا أنها مجموعة ثانوية من المجتمع الإسرائيلي، “مواطنون إسرائيليون أبناء الشعب اليهودي”. هكذا تجاوزت “وثيقة طبريا” الميل المغلوط والشائع لتشخيص الإسرائيلية مع اليهودية. في “وثيقة طبريا”، وربما للمرة الأولى، يُعرف اليهود أنفسهم كمجموعة ثانوية محدودة ومُعرّفة، لها خصوصيتها ولا تشكل تعبيرا للمجمل الإسرائيلي كله. يترك هذا التعريف حيزا واسعا وضروريا خارج حدود الوثيقة.

من هنا يتضح أن النقاش في طبريا لم يتطلع لأن يكون بديلا للحوار المدني الشامل لجميع مواطني الدولة. إذا لم يتم وضع وثيقة مدنية، وبمشاركة جميع مواطني إسرائيل، تُعرف الحقوق المتساوية لأبناء جميع الشعوب الكائنة في إسرائيل، وتُعرِّف واجبات الدولة تجاه مواطنيها، وتحدد معايير لتوزيع عادل للموارد، لن تصبح إسرائيل مجتمعا ديمقراطيا جديرا باسمه. لكن من الخطأ الادعاء بأن الحديث الديمقراطي هو الحديث الجماهيري الشرعي الوحيد. تدور في المجال العام بعض المحادثات؛ لجميعها يوجد مكان، ولجميعها يوجد دور.

كان من المطلوب والجدير كتابة وثيقة مدنية شاملة تسبق كتابة وثائق خاصة، وبضمنها “وثيقة طبريا”. لكن الواقع يعلمنا أن محاولات عديدة لكتابة وثيقة يهودية عربية قد فشلت بسبب عدم الاتفاق حول تعريف طابع دولة إسرائيل. الفشل لم يكن صدفة، فهو يشير الى الحاجة لتعريف جديد لمضامين النقاش وحدوده.

يقترح اليسار الصهيوني أن يتبنى العرب الحلم الصهيوني ويعتبروه هدفا جديرا بالتحقيق. ويرفض الاعتراف بأن الدولة اليهودية فرضت على مواطني إسرائيل العرب، لذلك، فأقصى ما يمكن أن يطلب منهم هو قبول هذا الواقع كحقيقة في المستقبل وربما كجزء من الحل الشامل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ويقترح اليسار الما بعد صهيوني وضع وثيقة مدنية على أساس التنازل عن الصهيونية. دولة جميع مواطنيها ستفرض على الحركة الصهيونية التنازل عن جميع املاكها، وعلى العرب مواطني إسرائيل التنازل عن مكانتهم كأقلية قومية. في دولة جميع مواطنيها يعيش المواطنون، للوهلة الأولى، بانقطاع عن كل سياق قومي، وثقافي أو لغوي. وسوف يتخذ هؤلاء المواطنون قرارات حول بنية الدولة والمجتمع، وحول اللغة والثقافة، وحول التعليم والتراث، وهي قرارات لا تستطيع أية دولة الامتناع عن اتخاذها.

تغيير تعريف الدولة لن يُغيّر من إرادة المواطنين. اليهود بكونهم الأغلبية سوف يستطيعون تحقيق جزء كبير من تطلعاتهم. الأقلية العربية، التي من أجلها يقترح الما بعد صهيونيون هذا التغيير، ستفقد من قوتها ولن تستطيع المطالبة بمكانة الأقلية القومية التي لها حقوق معرّفة، وستبقى مجموعة من الأفراد تملك القليل من القوة والكثير من الاحباط. دولة جميع مواطنيها هي وهم خطير، دولة الـ “كأنه يخيل لي”: “كأنه” لا يوجد هنا أكثرية وأقلية، “كأنه” لا يوجد للأكثرية أو للأقلية هوية قومية.

لن يتخلى الشرق الأوسط بسرعة عن الخطاب القومي. يجب الاعتراف بذلك علنا. ستتم المحافظة التامة على حقوق المواطنين العرب فقط اذا تم الاعتراف بحق الأقلية العربية في الحفاظ “على هويتها اللغوية، والثقافية والقومية” - وهو حق يعترف به لأول مرة في “وثيقة طبريا” من قبل هذا الإئتلاف العريض من شخصيات جماهيرية من اليمين واليسار على حدّ سواء. لذلك، من المفروض أن يُعرِّف الحوار المدني حقوق الأقلية القومية العربية في اطار دولة القومية اليهودية (واقتراح صيغة ممكنة لمكانة الأقلية اليهودية في دولة القومية الفلسطينية).

بدون الخطاب القومي المرتكز على التبادلية لن تتم المصالحة الداخلية ولن يتم السلام مع جيراننا. لقد تطلعت الصهيونية لأن نكون “شعبا كسائر شعوب العالم”، وعرضت حلما قوميا كونيا، تكون فيه الحقوق متساوية لجميع الشعوب. ينبع تأييد الحقوق الشرعية للشعب اليهودي وللشعب الفلسطيني من نفس المصدر - من منظور القومية الليبرالية التي تضع في مركزها قيما انسانية كونية. هذه القيم تلزمني بالاصغاء لأبناء شعبي، ولكن دون سد الاذان أمام ابناء الشعب المجاور. كما تلزمني أيضا بمعارضة من يدعونا، نحن مواطني إسرائيل أبناء الشعب اليهودي، بالتنازل عن قوميتنا بينما نمنح جيراننا حقوقا قومية. لقد تمت صياغة الحل الانسب منذ زمن: دولتان لشعبين، أو بشكل أدق، دولتان قوميتان لقوميتين.

لماذا هنالك حاجة لكتابة نص جديد؟، هكذا يقول منتقدو “وثيقة طبريا” ويضيفون، فكما هو معروف توجد “وثيقة الاستقلال”. وهي نَص رائع، لكن مصطلح الديمقراطية غير وارد فيها بتاتا. لقد وضعت “وثيقة طبريا” الديمقراطية بكل مفاهيمها - المساواة في الحقوق وحماية كرامة الانسان وحريته - في مركز تعريف دولة إسرائيل. كما اكدت أن الديمقراطية ترشد وتلزم بأن يكون جميع مواطني الدولة شركاء متساوون وكاملون في صياغة صورتها وطريقها. حاولت “وثيقة طبريا” وبروح قرارات المحكمة العليا التسوية بين القيم المختلفة التي على الدولة الالتزام بها؛ ومحاولة تعريف مصطلح “دولة يهودية وديمقراطية” بشكل يعطي المضمون لكلا الشقين معا. ليس هذا أو ذاك، بل هذا وذاك.

لـ “وثيقة طبريا”، كما لكل وثيقة تُعد من قبل لجنة، العديد من المساوئ، هنالك عدة صياغات أفضل منها، وهناك العديد من المواضيع التي لم تناقش أو لم تُستوف. لذلك فهذه هي فقط بداية النقاش الجماهيري العام. لم تبغ “وثيقة طبريا” أن تكون خاتمة للنقاش الجماهيري، بل بدايته. أي: اقتراح أرضية يمكن للنقاش الجماهيري الاستمرار منها دون العودة كل مرة الى نقطة البداية. واجب علينا المناقشة في مواضيع الدين والدولة، ومناقشة الفجوات الاجتماعية، والبطالة، وانعدام العدل الاجتماعي وكذلك طرق مواجهتها، والنقاش حول الاحتلال، وحول طابعه المُفسِد وحول طرق انهائه.

الامتحان الحقيقي لـ “وثيقة طبريا” هو جودة النقاش، وقدرة مؤلفيها والموقعين عليها على تحويلها الى نصّ حيّ، يتنفس، لا يعيش أحد معه بسلام لكن لا يمكن لأحد تجاهله. هنالك أيضا امتحان آخر هو امتحان العمل. مؤلفو الوثيقة لا يوهمون أنفسهم أنه قد تم تحقيق جميع الأهداف التي وضعوها صوب أعينهم. العكس هو الصحيح، الهوة الكبيرة بين المنشود والموجود هي التي دفعتهم لصياغة أهدافهم كمجموعة من جديد، وتعريفها.

سيطالب موقعو الوثيقة بالوفاء بدينهم، دين النضال من أجل القيّم التي حددوها لأنفسهم. فقط إذا قاموا بذلك فهم جديرون بحمل الاسم الذي أخذوه على عاتقهم - فوروم المسؤولية الوطنية. اذن فالوثيقة هي البداية التي يعقبها الكثير من العمل. بداية ونهاية.

الجنرال والحاخام

ما المشترك بين اليهودي الحريدي والمسلم المتزمت في دينه؟

يرون لندن

أعلن رئيس باكستان، برويز مشرف، الجنرال في لباس مدني، لأبناء شعبه أنه ملّ تعصب دعاة المساجد والكليات الدينية. في خطاب له على الهواء لمدة ساعة أعلن: أن “الاسلام المتطرف يسبب الفقر وسفك الدما”، “الباكستان هي دولة اسلامية لكنها ليست ثيوقراطية”، وأن “الجهاد بمفهومه العريض يعني الالتزام بالسلام والعدل وليس فرض الايمان بقوة الذراع”. وأصدر تعليماته أنه منذ الآن على الكليات الدينية أن تشمل ضمن برامجها التعليمية مواضيع غير دينية أيضا، لأنه على كل مسلم أن يتأهل للحياة العملية في عالمنا العصري. وقد وجد في القرآن مرجعية لأقواله: فلقد وافق النبي محمد على اطلاق سراح الأسرى شريطة أن يعلّم كل واحد منهم عشرة مسلمين، وبما أن هؤلاء الأسرى كانوا من الكفار، فمن الواضح ضمنا أن النبي محمد أراد أن يلم أتباعه بما يسميه رجال الدين المتعصبين عندنا باشمئزاز “حكمة غير اليهود”.

يبدو أن مشرف أراد تقليد النموذج الذي وضعه مصطفي أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية العلمانية، لكنه تجاوز ذلك الى فصل الدين عن الدولة. ما زالت الشريعة الاسلامية تشكل قانون الدولة في بلاده.

الحقيقة أن فكرة فصل الدين عن الدولة ترسخت فقط في الدول التي سادت فيها الثقافة المسيحية. الكنيسة التي خسرت في صراعها ضد الملكية، سلمت بتقليص تطلعاتها مبررة ذلك بمقولة من العهد الجديد: “اعط ما للقيصر للقيصر وما لله لله”. لا يوجد في علم الكلام الاسلامي ما يقابل ذلك، والحكم الاسلامي العلماني يتم فرضه من قبل وكلاء الحداثة - رجال الجيش غالبا. نادرا ما يتعامل اللاهوت اليهودي - باختلاف الفلسفة الدينية - مع موضوع علاقة الدين بدولة إسرائيل. ثمة أهمية دينية في فكر الحاخام كوك وتلاميذه لاقامة الدولة، كما أن العلمانيين السذج جزء من الغاية العليا. تبنت الصهيونية المتدينة عمليا نموذجا يشبه النموذج الذي قبلت به الكنيسة المسيحية، لكن المبتغى يختلف: حلم الدولة اليهودية التي تشكل الديانة اليهودية مرجعيتها في جميع نواحي الحياة ما زال قائما. لا يوجد شخص متدين وبكامل وعيه يوافق على مبدأ سيادة الشعب. ربما من الممكن وجود “دولة يهودية ديمقراطية”، لكن من المؤكد أنه لا يوجد تعايش بين فصل الدين عن الدولة وبين تأسيس الدولة على أساس تفوق الديانة اليهودية.

الحريديم الذين لا يعتبرون الدولة “بداية نشوء الخلاص”، يعتبرون أنفسهم مكرهين متصالحين مع واقع قوي فُرض عليهم. بنظرهم مجرد فكرة الدولة هي فكرة مقيتة والخلاف بين الكهنوت والملكية يسوى فقط مع مجيء الملك المسيح. التسوية التي يقيمونها مع القوى السياسية الأقوى منهم ليست بروح احترام مواقف الغير، وهي ليست فكرية أبداً.

هذا هو السبب أن “وثيقة طبريا” التي تتباهى في صياغة الوفاق بين جميع الإسرائيليين لا تشمل ثلثهم على ألأقل. فهي غير قادرة على شمل الحريديم، والعرب، لأسباب مختلفة. أظهر رئيس بلدية بني براك، مردخاي كرليتس، شجاعة كبيرة عندما وقع على الوثيقة، لكن قبل أن يجف الحبر عن الوثيقة دعاه معلموه، وعلى رأسهم يوسف شلوم الياشيب، المعروف بصفته ككبير المفتين للجمهور اللتواني، بالعودة الى الصواب.

كتب مبعوث الحاخام الياشيب في صحيفة “يتيد نئمان” أن الطريق لتقريب البعيدين هي التعلم معهم وارشادهم الى طريق التوراة والفرائض الدينية، لكن بدون تبادل الآراء لا سمح الله.

المسلم المتزمت واليهودي المتزمت قريبون في آرائهم بالنسبة للعلاقة بين المؤمنين والكفرة وفصل الدين عن الدولة. وبنظرهم لا يجوز الاعتراف بمبدأ حق الآخر بالتمسك بأسلوب حياته. لو آمنت بالله لصليت له: “انقذني من يوم يتعاظم فيه المؤمنون بك الى أن يفرضوا عليّ رغباتهم”.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات