منذ أكثر من أسبوعين ثمة انشغال في إسرائيل، بالأساس على صفحات جريدة "هآرتس"، بمضمون مقالٍ كتبه الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي المعروف بمناهضة الاحتلال ومناصرة حقوق الشعب الفلسطيني، زعم فيه أن رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو لم يكن الأسوأ من بين الزعماء الذين تعاقبوا على رئاسة الحكومات الإسرائيلية، وتحديداً في كل ما يتعلق بركل ما تسمى بـ"عملية السلام"، وتكريس الاحتلال الإسرائيلي لأراضي 1967، والذي آل إلى نشوء واقع الأبارتهايد، بمن في ذلك رؤساء حكومة انتموا إما إلى "اليسار الصهيوني" أو إلى معسكر الوسط.
ومع أن ليفي أكد في سياق مقابلة مع الملحق الأسبوعي لـ"هآرتس" يوم الجمعة الفائت، أنه قال ما قاله لا من أجل تبييض صفحة نتنياهو وسياسته ونهجه بل لتأطير ما سبق أن وُصف مرات عديدة بأنه بؤس اليسار الإسرائيلي، إلا أن هذه الواقعة أثارت من جديد المعركة حول سردية ما بات يعرف باسم "عهد نتنياهو" الذي استمر بشكل متواصل نحو 12 عاماً (2009-2021).
إذا كان ليفي يصيب كبد الحقيقة عندما يصوغ ماهية "بؤس اليسار الإسرائيلي" إزاء موضوع الاحتلال والقضية الفلسطينية عموماً، فإنه لا يفعل الشيء نفسه في سياق إجمال عهد نتنياهو حيالهما. ومن أجل القيام بمثل هذا الإجمال، وإن بنظرة طائر، لا بُدّ من الإشارة إلى أنه لم يكن من قبيل المصادفة أنه في سياق أول خطاب ألقاه نتنياهو كرئيس للمعارضة في الكنيست الإسرائيلي لدى تصويت هذا الأخير على منح الثقة إلى الحكومة الجديدة، يوم 13 حزيران 2021، اعتبر أن التحدّي الثاني الماثل أمام هذه الحكومة، والذي زعم أنها لن تفلح في أن تجتازه، هو الحؤول دون قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، وذلك بعد التحدّي الأول المتمثل في إيران وملفها النووي على وجه الخصوص.
وقد أشار نتنياهو إلى أن التحدي الثاني الماثل أمام إسرائيل هو مسألة فلسطين والتي أكثر ما ينبغي أن يعني سياسة إسرائيل تجاهها، برأيه، هو منع قيام دولة فلسطينية تهدّد دولة الاحتلال بأفدح الأخطار، ولفت إلى أن الإدارة الجديدة في الولايات المتحدة شرعت في استئناف جهودها الرامية إلى تحقيق هذه الغاية، وهي تطالب بتجميد الاستيطان في أراضي الضفة الغربية وفي الأحياء (المستوطنات) اليهودية في القدس. ومع أنه قصد بهذا أن يغمز من قناة الحكومة الجديدة التي اعتبر أن "أغلبية واضحة فيها تؤيد إقامة دولة فلسطينية"، فإنه جاهر بهدف رئيس له طوال فترة حكمه التي استمرت أكثر من عقد. وبالرغم من أن هذه الفترة اتسمت في معظمها باللهاث وراء هدف البقاء في سدّة السلطة، والذي صار بمثابة منزع أعلى في سلم الأولوية في إثر تعرض نتنياهو إلى المحاكمة بشبهات فساد، فقد انطوت على ملامح أخرى كانت واشية بأهداف لم يكن هو نفسه أقل تصويباً نحوها. وفي مُجرّد وضعه هدف منع إقامة دولة فلسطينية كتحدٍّ ثانٍ من حيث أهميته أمام الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ما يوضّح أن السعي لبلوغ هذا الهدف وقف في صلب سياسته.
ومن سيل مقالاتٍ تُكتب في هذه الأيام، بما في ذلك مقالات بأقلام إسرائيلية، في إطار تلخيص "عهد نتنياهو" يُشار في شأن هذه المسألة إلى عددٍ من الأمور. بادئ ذي بدء يُشار إلى أن نتنياهو هو أحد أنصار "أرض إسرائيل الكبرى" الذين يعارضون قيام دولة فلسطينية، ولكن ليست لديه أدنى مشكلة في عدم المجاهرة بهذه المعارضة بموازاة عدم المجاهرة بأن وجهته هي نحو ضم أكثرية الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 لإدراكه الثمن الباهظ الذي يمكن أن يترتب على هكذا ضمّ في الساحة الدولية، في الوقت الذي يظل ماثلاً أمام ناظريه الثمن الذي تدفعه روسيا من جراء قيامها مؤخراً بضم شبه جزيرة القرم. في ضوء ذلك، يبني نتنياهو سياسته لإبقاء مثل هذا المنع ساري المفعول على ركيزتين: الأولى، عدم الدخول في مفاوضات جوهرية مع الجانب الفلسطيني، والثانية، تعميق السيطرة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة منذ 1967 من خلال توسعة الاستيطان. ووفقاً للعديد من التقارير بشأن مشروع الاستيطان الكولونيالي في أراضي 1967، فإن نتنياهو وجه جهوده الرئيسة منذ العام 2009 نحو توسيع المستوطنات القائمة إلى الشرق من الجدار الفاصل ولا سيما في رؤوس الجبال، ومن جراء ذلك تضاعف عدد المستوطنين خارج ما يُعرف بـ"الكتل الاستيطانية الكبرى" من 65 ألفاً إلى 130 ألفاً بين الأعوام 2009- 2018 بموجب الإحصاءات الإسرائيلية الرسمية.
وبطبيعة الحال ينبغي أن نضيف إلى هذا، أنه خلال فترة حكم نتنياهو دأب الخطاب السياسي الإسرائيلي، فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، على الدفع قدماً بمصطلحات إما أنها جديدة أو كانت قديمة وتقهقرت، منها السلام الاقتصادي، والسلام الإقليمي، والسلام مقابل السلام وغيرها؛ وجميعها جاءت لكي تحلّ محل مصطلحات على غرار الأرض مقابل السلام وحلّ الدولتين؛ والأول يعني التنازل عن أجزاء من "أرض إسرائيل الكبرى"، في حين يقول الثاني بضرورة قيام دولة فلسطينية.
ثمة من يقول إن هدف إحباط قيام دولة فلسطينية كان جزءاً من استراتيجيا نتنياهو حيال الصراع مع الفلسطينيين، وذلك في مواجهة من يقول إن نتنياهو ليس لديه استراتيجيا، كما أنه يترك الأمور تتدهور أحياناً إلى اعتبارات سياسية ضيقة، وهو ما جرى التلميح له خلال المواجهة العسكرية الأخيرة في قطاع غزة في أيار الفائت. غير أنه سواء كان هذا الهدف جزءاً من استراتيجيا نتنياهو أو كان هذا الأخير لا يمتلك استراتيجيا، كما يدعي بعض منتقديه، فإن تلك المواجهة وما سبقها ولازمها من هبّة شعبية فلسطينية أعادت إلى أذهان كثيرين أنه لا يمكن القفز على الفلسطينيين في معادلة الصراع، فكم بالحري عندما يدور الحديث حول قضيتهم.