المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1394
  • أنطوان شلحت

كان من أبرز تداعيات قرار وزارة التجارة الأميركية، في أول أسبوع من شهر تشرين الثاني الحالي، والذي قضى بإدراج شركتي سايبر هجومي إسرائيليتين لأهداف التجسس هماNSO وكانديرو ضمن قائمة الجهات التي تتناقض نشاطاتها مع المصالح الوطنية للولايات المتحدة، إشهارُ العلاقة الوثيقة القائمة بين الشركة الأولى والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. ففي إثر هذا القرار الأميركي، أكد مسؤولان إسرائيليان رفيعا المستوى أن الحكومة الإسرائيلية تعتبر برنامج "بيغاسوس" للتجسّس عبر الهواتف الخليوية، والذي طورته شركة NSO الإسرائيلية، عنصراً مهماً وحاسماً في سياستها الخارجية، وأشارا إلى أنها تقوم بممارسة ضغوط على الإدارة الأميركية من أجل إزالة هذه الشركة (وكذلك شركة كانديرو) من القائمة السوداء للشركات التي تعمل ضد مصالح الأمن القومي الأميركي.

ووفقاً لتصريحات أدلى بها هذان المسؤولان إلى صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإن الحملة التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية من أجل إزالة العقوبات المفروضة علىNSO وكانديرو، تسعى بالأساس لإقناع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بأن نشاطات الشركتين لا تزال ذات أهمية كبيرة للأمن القومي لكلا البلدين، وأشارا إلى أن إسرائيل تؤكد في الوقت عينه أنها على استعداد للالتزام بإشراف أكثر صرامةً على ترخيص برنامج "بيغاسوس". بالإضافة إلى ذلك ذكرت الصحيفة الأميركية أن ديوانيْ رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع في إسرائيل نفيا استخدام

برنامج "بيغاسوس" لاختراق هواتف أشخاص فلسطينيين يعملون في مؤسسات حقوقية، وفي وزارة الخارجية الفلسطينية، كما ورد في تقرير نشرته وسائل إعلام أجنبية. وقال المسؤولان الإسرائيليان إن حقيقة أن مثل هذه التقارير أدت إلى حدوث خرق في العلاقات مع الولايات المتحدة أثارت قلق الحكومة الإسرائيلية. وأكدا أنه إذا كانت الولايات المتحدة تتهم NSO بالعمل ضد مصالحها فإنها تتهم، ضمنياً، إسرائيل التي تشرف على ترخيص البرنامج بفعل الشيء نفسه.

وللعلم، NSO هي الأحرف الأولى من أسماء الشركاء الثلاثة مؤسسي هذه الشركة ومالكيها، وهم: نيف كرمي، شاليف خوليو وعومري لافي. وموضوع العلاقات الوثيقة جداً بين هذه الشركة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية الرسمية كان موضوع عدة تحقيقات في الآونة الأخيرة. ويتبيّن من بعض هذه التحقيقات أنه في بداية العام الفائت، 2020، ضمت الشركة إلى صفوفها، بسرعة واضحة، العميد أريئيلا بن أبراهام التي أشغلت، حتى تلك اللحظة، منصب رئيس الرقابة العسكرية (وهي إحدى أذرع شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي ـ "أمان")، وأوكلت إليها منصب "مديرة وحدة العلاقات مع الجمهور". وبدأت المفاوضات بين الشركة وبن أبراهام قبل أن تخلع هذه الأخيرة بزتها العسكرية، بل لجأت إلى تبكير موعد إنهائها إشغال المنصب العسكري من أجل الانتقال إلى الشركة الجديدة. وبعد ذلك بأيام معدودة، جندت الشركة شارون شالوم، رئيس طاقم وزارة الدفاع الذي عيّنه وزير الدفاع الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان، لكي يشغل منصب "مدير قسم السياسات الدولية" في الشركة. وقبل ذلك بشهرين كانت الشركة قد أنهت تعاقدها مع مكتب العلاقات العامة الذي كانت تتعامل معه وانتقلت إلى مكتب آخر هو MFU، الذي يملكه عوديد هرشكوفيتش، نائب الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي سابقاً. وبذا فإنه في غضون شهرين اثنين، أقامت NSO منظومة جديدة للعلاقات الخارجية، كان جميع العاملين فيها من خريجي الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وهم ليسوا مجرد خريجين عاديين وإنما خريجون حديثاً جداً. وبموجب أحد التحقيقات فإن السياق الفوري لهذه الخطوة واضح تماماً؛ حيث وجدت NSO نفسها تحت وطأة هجمة واسعة من جانب الرأي العام مع بدء ظهور ضحايا منظومة الرصد والتعقب التي باعتها (إلى جهات مختلفة) للعلن، ثم تقديم دعاوى قضائية ضدها، وانكشاف نشاطها ليس في دول "العالم الثالث" فحسب إنما أيضاً في دول "العالم الأول".

وأكد تحقيق آخر أن فحص العلاقات الوثيقة جداً بين NSO والأجهزة الأمنية الرسمية في إسرائيل ينبغي أن يجري في سياق أوسع وأعمق، سابق لهذه الكشوفات الأخيرة. وهو سياق منظومة متشعبة من المصالح المتقاطعة والمتداخلة بين الشركة وحكومات إسرائيل التي بدأت تجد نفسها أكثر عزلة في العالم الغربي باستمرار وبصورة متزايدة، وباتت في أثناء عمليات تصويت تُجرى في الأمم المتحدة وفي محافل دولية أخرى مضطرة إلى الاعتماد على أصوات دول هي موضع شكوك متزايدة. في هذا السياق، أيضاً، تزدهر العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والأنظمة الاستبدادية في بعض دول الخليج العربي وفي أميركا الجنوبية وأفريقيا. وأي مقابل يمكن لإسرائيل أن تعرض على تلك الأنظمة أفضل من تقنيات الرصد والتعقب؟ ويؤكد التحقيق أنه في ضوء هذا فإن المعادلة التي تشكلت هي التالية: تقترح الدولة على NSO (لكن ليس عليها وحدها فقط) ما يلي: خذوا رخصة تصدير إلى هذه الأنظمة القذرة، أنتم ستجنون أرباحاً بملايين الدولارات، ونحن سنكسب شركاء مخلصين في طريقنا السياسية!

وكان بالإمكان الاستدلال على مدى عمق وقوة هذا التكافل من ردة فعل إسرائيل على الدعوى التي تقدمت بها منظمة العفو الدولية "أمنستي" وطالبت في إطارها بسحب رخصة تصدير برمجية التجسس الاختراقية "بيغاسوس"، من إصدار شركة NSO (وهي البرمجية التي استُخدمت في ملاحقة واعتقال ناشطين في مجال حقوق الإنسان في دول عديدة). فقد طالبت إسرائيل، في ردها على هذه الدعوى، بأن تجري مناقشتها والنظر فيها في نطاق جلسات سرية مغلقة، ذلك أن لدولة إسرائيل ولشركة NSO أسراراً مشتركة ولا ترغبان في رفع النقاب عن حيثياتها وتفاصيلها. وحين استجابت المحكمة لهذا الطلب، فقد أكدت ما يعتمل تحت السطح: ليس ثمة فصل حقيقي بين المصالح الأمنية الإسرائيلية في تصدير السايبر الهجومي وبين المصالح التجارية لشركة NSO. إنها تغطية متبادلة بدماء الأبرياء. وتجسدت شراكة الطريق هذه حين ادعى المدير العام لشركة NSO، شاليف خوليو، خلال النظر في إحدى الدعاوى القضائية ضدها، بأن المدّعين هم "منظمات معادية تنشط ضدنا كجزء من معركة أوسع غايتها الإضرار بالشركة نفسها وبدولة إسرائيل". وبذا أضحت حجة معاداة السامية كادعاء دفاعي انعكاسي، من جانب الدعاية الإسرائيلية، مكوّناً أساسياً في العلاقات العامة لدى الشركة.

كما يُشار إلى أن رئيسة هذه الشركة، شيري دوليف، هي صديقة شخصية مقربة لأييلت شاكيد وزيرة الداخلية الإسرائيلية الحالية، كما أنها من معارف رئيس الحكومة الحالي نفتالي بينيت نفسه.

وشركة NSO ليست وحيدة ب8الطبع، إذ ثمة شركات أخرى عديدة مثلها تجرّ كل واحدة منها وراءها سلسلة كريهة من الجرائم في خدمة الأنظمة المستبدة. وسبق لأستاذ الألسنية في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، عيدان لانْداو، أن أجرى دراسة مطوّلة حول هذه الشركات والمنظمات توقف بالتفصيل فيها عند ما أسماها "ظاهرة البلطجة السلطوية المُخصخصة للمهمات القذرة (الـ"بسملق")"، مشيراً إلى أنها ازدهرت في إسرائيل خلال العقدين الفائتين بغية تطبيق سياسة نظام حكمها اليميني، وبالأساس فيما يرتبط بسرقة الأرض الفلسطينية، وبقمع أي معارضة داخلية لهذه السياسة يمكن أن تشكل سنداً للمعارضة من الخارج. وتتكرّر في كل هذه الشركات والمنظمات المكوّنات التالية: أعمال قذرة؛ سلوك جنائي؛ إخفاء وانعدام الشفافية؛ باب دوّار إلى السلطة؛ قناة تمويلية إلى السلطة؛ دعم وغطاء قانونيان من السلطة؛ احتضان أيديولوجي من السلطة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات