ما زالت قضية تصدير شركة NSO الإسرائيلية لبرمجية التجسس "بيغاسوس" إلى أنحاء مختلفة من العالم واستخدامها على نحو واسع، ولا سيما من جانب أنظمة استبدادية، لملاحقة نشطاء في الدفاع عن حقوق الإنسان وخصوم سياسيين وصحافيين، تتفاعل وتلقي مزيداً من الضوء على كل موضوع علاقات إسرائيل بهذه الأنظمة، وعلى حجم تجارتها الأمنية بما في ذلك صادرات السلاح.
ويمكن القول إن هذا التفاعل اكتسب زخماً على خلفية إشارة التحقيق الدولي بشأن برنامج "بيغاسوس" إلى استخدامه للتجسس على زعماء بمن في ذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما جعل هذا الأخير يتحادث مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينيت وتبليغه أن فرنسا فتحت تحقيقاً بهذا الصدد. ووفقاً لتقارير إسرائيلية، لدى الفرنسيين كل الأسباب لمطالبة الحكومة الإسرائيلية بتقديم توضيحات لأنها هي التي سمحت للشركة الإسرائيلية ببيع تكنولوجيا تُستخدم كسلاح للتجسس على رئيس دولة صديقة مثل فرنسا. ولا تستطيع إسرائيل التهرب من تحمّل المسؤولية مثلما لا يمكنها أن تفعل ذلك عندما تسلح شركة إسرائيلية حكومات ببنادق وصواريخ تستخدمها ضد مواطنيها.
وسارعت وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى نشر بيان ذكرت فيه أن عدداً من المسؤولين الحكوميين قاموا بزيارة إلى مكاتب شركة NSO للبدء بالتحقيق، وأن فريق التحقيق سيضم ممثلين عن وزارتيْ الدفاع والأمن الداخلي وجهاز الموساد، وسيُجري تحقيقاً لمعرفة ما إذا كانت الشركة انتهكت تصريح التصدير الدفاعي الصادر من قسم مراقبة الصادرات الدفاعية (AFI) في وزارة الدفاع، وما إذا كانت برامجها استُخدمت بطريقة مخالفة لشروط التصريح. وتزامن بيان وزارة الدفاع مع وصول وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى باريس لعقد اجتماع مع وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي وإحاطتها علماً بأنه تم القيام بتفتيش في إسرائيل من طرف العديد من الأجهزة الأمنية. وبعد الاجتماع مع بارلي نُقل عن غانتس أنه بلّغها بزيارة مندوبي وزارة الدفاع إلى مكاتب الشركة، وأن "إسرائيل تدرس الموضوع بكل جدية". وبحسب بيان صادر عن غانتس، فإن إسرائيل تعطي أذونات للتصدير السيبراني فقط للدول، وفقط "من أجل استخدامه في مواجهة الإرهاب والجريمة"!
من المهم أن يُشار أن عدة تعليقات نُشرت في إسرائيل اعتبرت أن التفصيل المرتبط بماكرون على وجه الخصوص يُعدّ بمثابة "حادثة دبلوماسية مع فرنسا" لا يمكن التكهن بكيفية تطوّرها في قادم الأيام. فيما جزمت تعليقات أخرى، بينها مقال افتتاحي أنشأته صحيفة "هآرتس"، أن المسّ بحليف لإسرائيل، مثل الرئيس الفرنسي، هو دليل على أن هناك عدم سيطرة على استخدام التكنولوجيا المصدّرة. كما شدّدت على أنه من أجل تنظيم مسألة حساسة من هذا النوع يتعين على الحكومة أن تأمر بفتح تحقيق خارجي مستقل يكشف كل التقصيرات، ويتوجب عليها تنظيم التصدير الأمني وكبحه وجعله أكثر شفافية، وأن تضع قواعد جديدة وتقوم بتنظيم الموضوع. وشكّك معظم التعليقات في احتمال حدوث ذلك.
بطبيعة الحال سيرافقنا هذا الموضوع في الفترة المقبلة. وإلى أن تحين عودة لاحقة إليه لا بُدّ من إيراد بعض الملاحظات في سياق عام يمكنه أن يكون بمثابة إطار لهذه القضية التي تندرج كما أشير في العنوان ضمن علاقات إسرائيل بالأنظمة الظلامية الاستبدادية، وضمن مسألة التصدير الأمني وتجارة الأسلحة:
أولاً، من المعروف أن أي صفقة تصدير أمنية مشروطة بالحصول على موافقة من وزارة الدفاع الإسرائيلية. يُضاف إلى ذلك أن الكثير من العاملين في NSO وشركات سيبرانية أُخرى والذين يطورون وسائل تُستخدم في التجسس وقمع السكان، جرى إعدادهم في الجيش الإسرائيلي ومعظمهم من خريجي الوحدة 8200 ووحدات أُخرى في المنظومة التكنولوجية للجيش الإسرائيلي.
ثانياً، احتل اسم NSO العناوين الأولى قبل 3 أعوام في إثر مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول/ تركيا في تشرين الأول 2018. فقد أظهر التحقيق الذي أجرته صحيفة "الغارديان"، التي تتعاون الآن فيما يتعلق بـ"مشروع بيغاسوس" مع عشرات الصحف والصحافيين في العالم للتحقيق في تورُّط الشركة في برامج قضايا تجسس، أن برنامجاً تجسسياً أُلصق بهاتف زوجة خاشقجي قبل بضعة أشهر من مقتل زوجها، وبعد بضعة أيام على مقتله جرت محاولة إلصاق البرنامج بهواتف أصدقاء خاشقجي، كما وُضع رقم هاتف المدعي العام التركي في قائمة الهواتف الجديرة بالاهتمام التي جرى كشفها.
ثالثاً، في بداية العام الفائت، 2020، ضمّت NSO إلى صفوفها الرئيسة السابقة للرقابة العسكرية (إحدى أذرع شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي- "أمان")، وأوكلت إليها منصب "مديرة وحدة العلاقات مع الجمهور". وبعد ذلك بأيام معدودة جندت الشركة رئيس طاقم وزارة الدفاع، الذي عيّنه وزير الدفاع السابق أفيغدور ليبرمان، لتولي منصب "مدير قسم السياسات الدولية" في الشركة. وقبل ذلك بشهرين كانت الشركة أنهت تعاقدها مع مكتب العلاقات العامة الذي كانت تتعامل معه وانتقلت إلى مكتب آخر هو MFU، الذي يملكه عوديد هرشكوفيتش، نائب الناطق الرسمي بلسان الجيش الإسرائيلي سابقًا. وفي مجرّد هذا ما يجسّد شراكة الطريق بين هذه الشركة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
رابعاً، تعتبر إسرائيل واحدة من أكبر الدول المصدرة للأسلحة في العالم، ولكنها خلافاً لمعظم الدول لا تتقيّد بقرارات ومعاهدات دولية تمنع تصدير الأسلحة والخبرات الأمنية لأنظمة يُحظر التعاون معها وتفرض عليها عقوبات. ويعمل في هذا المجال عدد كبير من الإسرائيليين، بينهم ضباط جيش، يحظون بمعاملة متساهلة من وزارة الدفاع الإسرائيلية حيال خرقهم القرارات الدولية. ووفقاً لما يؤكده المحامي إيتاي ماك، وهو خبير في مجال حقوق الإنسان وأبرز ناشط من أجل زيادة الشفافية والإشراف العام على التصدير الأمني الإسرائيلي، فإن التصدير الأمني هو "أمر مقبول وجميع الدول تفعل ذلك، لكن المشكلة هي أن إسرائيل، اليوم، ضالعة في أماكن كثيرة، قررت الولايات المتحدة وأوروبا منذ فترة أن تمتنع عن التصدير الأمني إليها.. وهذه دول ليست ديمقراطية وبعضها ديكتاتوريات تقتل وتنهب وتقمع مواطنيها". وأضاف ماك أنه يوجد في إسرائيل عدد قليل من الشركات الأمنية العملاقة، وتوجد أكثر من 300 شركة تعمل في مجال تصدير الأسلحة والخدمات الأمنية، أقامها أشخاص من أجل جني أموال طائلة، "وجميع هذه الشركات تعمل تحت مظلة وزارة الدفاع، التي تصدّق على عمل الشركات". وأوضح آلية تصدير الأسلحة والخدمات الأمنية، حيث تصل إلى إسرائيل ميزانيات من دول وجهات معنية بشراء أسلحة، ووزارة الدفاع تقرر لمن تمنح تراخيص تصديرها "وكيفية توزيع الكعكة"، إذ إن قسماً من المصدرين هم ضباط كبار في الجيش وموظفون سابقون في وزارة الدفاع وسياسيون سابقون.
خامساً، أغلب الحكومات في إسرائيل اتبعت سياسة تتمثل بشراء مؤيدين في الحلبة الدولية عن طريق تزويدهم بالسلاح، وبدأت هذه السياسة في إبان ولاية الحكومات التي وصفت بأنها "يسارية"، بما في ذلك مثلاً حكومة إسحق رابين، حيث كانت إسرائيل ضالعة في تشيلي والأرجنتين وكذلك في رواندا والبوسنة والهرسك، وهي أماكن ارتُكبت فيها جرائم رهيبة ضد المدنيين.
ولإجمال كل موضوع التصدير الأمني وتجارة السلاح في إسرائيل يكفي أن نترجم عنوان تعليق محلل الشؤون الأمنية يوسي ميلمان حياله، والذي ظهر قبل أيام قليلة في "هآرتس" وجاء فيه: "هنا تُباع أسلحة، بدون قيود وبدون ضمير!".