المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
أثر التوحش الإسرائيلي في غزة. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 62
  • أنطوان شلحت

يُعرّف البروفسور آسا كاشير (84 عاماً) بأنه "الفيلسوف" و"المؤدلج الأكبر" لـ"المنظومة القيمية والسلوكية للجيش الإسرائيلي"، وقد عمل أستاذاً للفلسفة في جامعة تل أبيب، وحصل على عدد من الجوائز الإسرائيلية الكبرى تقديراً لجهوده ومساهماته في مجالات تخصصه، ومنها "جائزة إسرائيل" في بحث الفلسفة العامة. كما يعد أحد الألسنيين المعروفين عالمياً، وله العديد من المؤلفات في الألسنيات والفلسفة والمنطق والأخلاق وغيرها. كذلك ترأس العديد من اللجان العامة المهمة وأشغل وما زال يشغل عضوية عدة لجان عامة أخرى، ويوصف بأنه "مفتي الأخلاق" الأعلى في إسرائيل.

وأدلى كاشير أخيراً بمقابلة مطولة إلى الملحق الأسبوعي لصحيفة "هآرتس" (20/2/2025) أكد فيها أن الممارسات التي يقوم الجيش الإسرائيلي بارتكابها في مجرى الحرب التي يشنها على قطاع غزة مروّعة ورهيبة، ولكنها لا تصل إلى درجة جرائم الحرب وإبادة شعب، ومع ذلك شدّد على أن سلوكاً مثل دخول المنازل والتخريب ليس هو المطلوب. كذلك أكد أنه لا يمكن للجيش الإسرائيلي أن يترك ما وصفها بأنها القيم والمعايير في الحياة إلى وحدات الاحتياط التي يشارك مئات ألوف الإسرائيليين فيها، لافتاً إلى أن هؤلاء يأتون- برأيه- إلى الجيش الذين لم يكونوا في صفوفه أعواماً طويلة ويتصرفون  بحسب الأجواء العامة السائدة في الشارع.

وأعرب عن اعتقاده بأن الحرب على غزة تعكس التغيير في الجو الإسرائيلي العام، حيث باتت هناك منظومة في إسرائيل تعمل مثل عصابة إجرام مكلفة بقيادة حيّ سكنيّ. وهذه المنظومة لا تتردّد في اتخاذ أي وسيلة من أجل خدمة قادة العصابة، والذين هم قيادة إسرائيل في الوقت الحالي. وتتمثل إحدى الطرق في تصنيف أي موضوع في العالم في خانة اليمين أو اليسار، خانة نحن وهم: "نحن اليمين الوطني اليميني في سدّة الحُكم، وهم اليسار الخونة المعادون للصهيونية". وفي قراءته هذا التصرّف لا يصدر عن قيادة دولة، إنما عن قيادة عصابة تريد فرض ترهيبها على الحيّ السكنيّ الذي تنشط فيه. وهذا السلوك العصاباتي ينطبق على كل شيء بما في ذلك على المحكمة الإسرائيلية العليا.  

وبرأيه أيضاً لا يُعقل بتاتاً أن لا تُقام لجنة تحقيق رسمية بعد أحداث مثل هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فهذا بكل بساطة هو مجرد إفلاس أخلاقي للدولة. ومع ذلك ما زال لديه أمل يستمده مما نعته بأنه النجاح بدرجة كبيرة في كبح الانقلاب على الجهاز القضائي. ورأى أنه كان هنا عملاق (غوليفر) تولّى وضع أسس الدولة، والجيش، والمنظومة الصحية، والصناعة، والجامعات. وبعد أن انتهى من تأسيس كل ذلك خلد إلى النوم فخرج الأقزام من جحورهم وبدأوا بالاستيلاء رويداً رويداً على كل شيء. بيد أنه في مجرى الصراع بشأن الانقلاب القضائي أظهر العملاق قوته وربما يريد مزيداً من النوم مرة أخرى، ولكن يتعيّن على كل من يرى الصورة على حقيقتها ألا يدعه ينام مرة أخرى.

وأعرب كاشير عن أمله بأن لا تتعاون المؤسسة الأمنية مع عصابة الإجرام التي تقود الدولة قائلاً: "باستثناء الشرطة، فإن جهاز الموساد وجهاز الأمن العام (الشاباك) وجهاز الجيش لن تتعاون مع العصابة. إن الجيش هو الأضعف بعد الشرطة، ولكنه هو أيضاً لن يتعاون".

ويعتقد كاشير أن "الكود الأخلاقي" (المدونة الأخلاقيّة) للجيش الإسرائيلي بات مجرّد ضريبة كلاميّة، وأن الجيش نفسه لا يمتلك تصوّراً حيال كيفية ترسيخه في صفوف جنود وضباط تشكيلات الاحتياط.

ويصل كاشير إلى بيت القصيد عندما يقول: "أحياناً أسأل نفسي: ربما أن الأمر أكبر منا؟ ربما أن فكرة دولة مستقلة كبيرة على الشعب اليهودي؟ فلقد كان شعبنا لأعوام عديدة يعيش في عقلية أقلية، وسمح لنفسه بفعل كل شيء من أجل البقاء على قيد الحياة. وربما بقينا مخادعين وكذابين لا يمكن الوثوق بكلمتهم. ولقد أقمنا في الآونة الأخيرة حكومة مع مثل هذه الأصناف من البشر، ورئيس حكومتنا شخص كاذب لا يمكن الوثوق بأي كلمة يقولها وبأي وعد يتعهد به. لقد وصلنا إلى أماكن فظيعة، وربما فكرة الدولة أكبر منّا فعلاً".

عند هذا الحدّ يجدر أن ننوّه بما يلي:

أولاً، آسا كاشير هو نفسه الذي وضع، بطلب من نفتالي بينيت عندما أشغل منصب وزير التربية والتعليم الإسرائيلي، "المدونة الأخلاقية" للمحاضرين في الجامعات الإسرائيلية. وأتت هذه "المدونة" في سياق الجهود الكبيرة والحثيثة لليمين الإسرائيلي لا سيما الديني الصهيوني منه للسيطرة والتأثير على مساحات صوغ المجال العمومي الإسرائيلي ومنها المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية. فقد بدأ بينيت فور توليه منصب وزير التربية والتعليم في تغيير مناهج التعليم الإسرائيلية بحيث يتم فيها التأكيد على الهوية اليهودية في بعدها الديني أو التراثي، علاوة على إقامة برامج ومشاريع تربوية تهدف إلى التشديد على هذه الهوية حتى في المدارس الذي تصنف بأنها حكومية غير دينية. وتندرج "المدونة الأخلاقية" التي سكها كاشير في هذا السياق، وهي تندرج أيضا ضمن زيادة شرطية المعرفة الحكومية وغير الحكومية (عبر منظمات مثل "إم ترتسو"، ومؤسسة "أكاديميك مونيتور" وغيرهما من المؤسسات اليمينية) التي تحاول فرض شرطية معرفية على المؤسسات الجامعية والضغط عليها من أجل تقليص مساحة الحرية الأكاديمية من جهة، ومن جهة أخرى التضييق على النشاط السياسي لمحاضرين يهود وفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية ينتقدون سياسات إسرائيل في الضفة الغربية وينتظمون ضمن حركات مناهضة للاحتلال. وفي نفس السياق جاء الإعلان عن إقامة كلية للطب لـ "جامعة يهودا والسامرة" في مستوطنة أريئيل كمدماك آخر في ضرب المؤسسة الأكاديمية، وإعطاء دفعة أخرى للمشروع الاستيطاني في الضفة الغربية لا سيما وأن الجامعات الإسرائيلية داخل الخط الأخضر عارضت إقامة كلية للطب في الجامعة كما عارضت في السابق الاعتراف بكلية أريئيل كجامعة، مع التأكيد على أن مسوغات المعارضة الرسمية للجامعات كانت مادية ومهنية ولم تكن نابعة من كون الجامعة مقامة في أراض محتلة.

وكاشير، مثلما سلفت الإشارة، هو ذات الشخص الذي صاغ "المدونة الأخلاقية" للجيش الإسرائيلي، والتي برّر الجيش من خلالها ضربه للمدنيين الفلسطينيين. وبحسبها فإن إصابة المدنيين الفلسطينيين مبررة للدفاع عن حياة الجنود الإسرائيليين، مما أعطى الجيش مسوغاً "أخلاقياً" لقصف وقتل المدنيين الفلسطينيين في المعارك وفي عمليات القمع الذي يقوم بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

ثانياً، يحلو لكثيرين في إسرائيل، على غرار كاشير، أن يُرجعوا التوحّش الذي يفوق الخيال في جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة وفي لبنان إلى سبب واحد ووحيد هو انتشار الأصولية الدينية، ومثابرتها على إرسال أذرعها إلى جميع أجزاء المجتمع بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنيّة. ولدى سبر التفاصيل يمكن العثور على شبه إجماع بين هؤلاء على أن هذا الانتشار بدأ جليّاً أكثر على أعتاب خطة فك الارتباط مع قطاع غزة التي جرى تنفيذها العام 2005، عندما قال أحد الحاخامين (أبراهام شابيرا)، في كانون الأول 2004، لجنود الجيش الإسرائيلي "إن رئيس الحكومة ليس ربّ البيت، بل إن ربّ البيت هو الله جلّ جلاله". وبلغ إحدى ذُراه في كانون الأول 2019 عندما دعا وزير العدل الإسرائيلي في ذلك الوقت، يعقوب نئمان، إلى فرض قوانين الشريعة اليهودية رويداً رويداً على الحياة العامة في إسرائيل. وقبلهما، إبان انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية العام 2000، أعلن الحاخام إلياكيم لفانون، وهو أحد أبرز "حاخامي يهودا والسامرة"، أنه "آن الأوان لأخذ الصولجان، والعودة الى فترة الملك داود ومعرفة أن الحاخامين ليس عملهم تدريس التوراة فقط بل أيضاً إقامة قيادة تكون بمنزلة الحكومة الحقيقية لشعب إسرائيل"!

وفي الواقع فإن ما يقف وراء هذه الرؤية، سواء أكانت تنطوي على عمى أو على تعامٍ، هو سعي من يصفها الباحث والأكاديمي الإسرائيلي يغيل ليفي بـ "الطبقة البيضاء العلمانية" لتطهير نفسها من المسؤولية عن النتائج الأخلاقية والاستراتيجية للحرب الراهنة والتي سبق لها أن وضعت أسسها. وبصفته باحثاً متخصصاً في الفكر العسكري، يؤكد ليفي أن هذه الحرب ليست نتاج تغلغل الأصولية الدينية في معظم شرايين المجتمع الإسرائيلي، وأنه بالرغم من أن دوافع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو السياسية تتجلّى فيها، إلا أنه لا يجوز اعتبار تلك الدوافع المحرّك الرئيس لها، لكونها حرباً مزروعة عميقاً في الثقافة السياسية الإسرائيلية العلمانية، حتى لو ازداد تطرُّفها بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.  كما أنه يشير إلى أن طواقم سلاح الجو والاستخبارات، وكذلك العناصر الذين يقومون بتطبيقات برامج الذكاء الاصطناعي، ليسوا من تيارات الأصولية الدينية، وطبعاً ليسوا من داعمي نتنياهو، بل هم من ناحية اجتماعية جزء من النواة الصلبة لما يعرف بمعسكر الوسط- يسار. ويجب القول إنهم كذلك المسؤولون عن القتل غير المسبوق للمدنيين في غزة خلال الأسابيع الأولى من الحرب. ولدى بعضهم الشغف والرغبة في الانتقام، بحسب ما كشفت أبحاث وتحقيقات صحافيّة عديدة. 

وما يقوله هذا الباحث بالنسبة إلى القبيلة البيضاء العلمانية ينسحب أيضاً على رموزها في المعارضة الإسرائيلية الحالية. فمثلاً زعيم حزب "المعسكر الرسمي" بيني غانتس يتصرّف كقائد عسكري، وما عاد سرّاً أنه خلال مشاركته في حكومة الطوارئ كان من أشدّ الداعين إلى أن تكون الحرب في غزة ولبنان أكثر صداماً وهجوماً، وإلى أنه كان من الأفضل برأيه احتلال رفح منذ شباط وليس في أيار 2024 كما حدث بالفعل. 

والدعوة إلى هذا النهج الحربيّ الهجومي هو أيضاً ديدن يائير غولان، زعيم حزب "الديمقراطيون" الذي أعلن عن تأسيسه خلال الحرب في سبيل توحيد صفوف اليسار الصهيوني، ونجم عن تحالف حزبي العمل وميرتس. ففي مقال نشره غولان، وهو جنرال سابق، مع خبير عسكري إسرائيلي آخر، في صحيفة هآرتس، في مناسبة مرور عام على الحرب، أكد أنه من الضروري إعادة تقييم الافتراضات الأساسية الكامنة في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، والمكونات الأساسية في مفهوم الأمن القومي. وجزم بما يلي: من الواضح فعلاً أنه ستكون هناك حاجة إلى جيش وميزانية أمنية أكبر، وإلى نهج أكثر هجوماً. وعلى إسرائيل أن تحافظ على وجود قوة برية ضاربة، لأن مثل هذه القوة تحسم الحروب!

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات