المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
إثر صواريخ حزب الله في مدينة "بيتح تكفا" (وسط)، أمس الأحد. (وكالات)
  • كلمة في البداية
  • 529
  • أنطوان شلحت

ينبغي أن نعيد التذكير بأنه قبل أسبوع واحد من حلول الذكرى السنوية الأولى لاندلاع حرب الإبادة على غزة، التي بدأت يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أعلنت إسرائيل أنها دخلت إلى ما تصفها بأنها "مرحلة جديدة" من القتال تتسّم أساساً بتوسيع نطاق الحرب لتشمل الجبهة الشمالية، حيث شرع الجيش الإسرائيلي في شنّ ما قال إنها "عملية برّية مركزة" في جنوب لبنان، معلناً أنها ستركّز، في بدايتها، على البنى التحتية التي أنشأها حزب الله قريباً من منطقة الجدار الحدودي، تحضيراً لشنّ هجوم على المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية الحدودية على غرار هجوم "طوفان الأقصى".

وتترافق هذه المرحلة البرّية، حسبما يتم التأكيد في جلّ التقارير الإسرائيلية، مع احتكاكات يومية وجهاً لوجه مع مقاتلي حزب الله في جنوب لبنان، ما يؤدي إلى وقوع خسائر في الأرواح في صفوف الجيش الإسرائيلي على نحو شبه يومي. كما تترافق مع استمرار القصف المدفعي والجوي للجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت ومناطق أخرى في العمق اللبناني. ويمكن القول إنه بعد أن ركزت الحرب الإسرائيلية في البداية على غزة، تحوّل الجهد الرئيس الآن إلى الشمال، بالتوازي مع ما يُعتقد بأنه تصاعد الاحتكاك مع إيران وتفاقم خطر اندلاع حرب إقليمية. وبدأت هذه المرحلة بتحقيق إنجازات عسكرية إسرائيلية وعلى رأسها تصفية قيادة حزب الله وفي مقدمها الأمين العام حسن نصر الله، وإلحاق أضرار بالبنية التحتية للحزب، وهو ما أحدث، بحسب عدد من المحللين والباحثين، تحوّلاً كبيراً في المزاج الإسرائيلي من جوّ ميّزه انتشار الصدمة بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والإحباط من حرب استنزاف طويلة في غزة، إلى انتشاء مصحوب بازدراء مُتجدّد للخصم، وتوقعات بتغيير قريب في منطقة الشرق الأوسط برمتها.

ويشي المشهد المستجد حتى الآن، نتيجة توسعة نطاق الحرب، بما يلي:

بدايةً، تركت إسرائيل قضية قطاع غزة وحرب الإبادة الجماعية والتدمير الشامل عليه مفتوحة على أكثر من احتمال، وفتحت جبهة رئيسة في لبنان، وهي تعرب عن القلق من احتمال تدهور الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، كما أنها تحت تهديد من تصفهم بأنهم "وكلاء إيران" في اليمن وسورية والعراق، وربما تجد نفسها قريباً في مواجهة أكثر حدّة مع إيران. ويتفق معظم الخبراء الإسرائيليين في الشؤون العسكرية على أنه في خضم حرب تضرب فيها إسرائيل في كل الجبهات وتصارع فيها الأطراف كافة، يصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل وضع أولويات، فضلاً عن صوغ استراتيجيا طويلة المدى، كذلك من المستحيل توقع دعم دولي مستمر في جميع الجبهات. ووفقاً لما يشدّد عليه المقربون من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ما زالت حكومته تأمل في أن يؤدي الضغط العسكري في قطاع غزة إلى إطلاق المخطوفين الإسرائيليين، وتلقت بهذا الشأن "جرعة أمل زائدة" بعد اغتيال قائد حماس يحيى السنوار يوم 16/10/2024، وفي أن يؤدي الضغط العسكري المتدرج في لبنان إلى إبعاد قوة الرضوان عن منطقة الحدود، وإعادة النازحين الإسرائيليين إلى منازلهم في مستوطنات الشمال، لكن في هذه الأثناء وعلى الجبهتين لم يتحقق الهدف السياسي، وتجد إسرائيل نفسها في حالة استنزاف مستمرة من غير المعروف متى تنتهي.

ثانياً، ما يُستشف من التصريحات الإسرائيلية الرسميّة أن لدى إسرائيل "مصلحة استراتيجية طويلة المدى وضرورية" في إبادة حركة حماس كلياً، على الصعيدين العسكري والسلطوي. كما لديها أيضاً مصلحة ضرورية استراتيجية في إبعاد حزب الله على الأقل عن حدودها، وتفكيك قدراته الهجومية بالصواريخ والقذائف، فضلاً عن أن تفكيك ترسانة الصواريخ الإيرانية - اللبنانية هي أيضاً مصلحة عليا سعياً لنزع قدرة إيران على ردع إسرائيل عن ضرب مشروعها النووي. والرأي السائد الذي يتم الترويج له هو أن طريقة العمل الوحيدة التي يمكن أن تستجيب لهذه الحاجات في الجبهتين- قطاع غزة وجنوب لبنان- هي الاحتلال، والسيطرة على الأرض، وفرض حكم عسكري، والاقتحامات... إلخ. 

***********

برسم ما تقدّم يمكن الاستنتاج بأن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو تبدو معنيّة بأن تنهي الحرب في الشمال من خلال محاولة فرض إملاءاتها على خطة إنهائها التي يجري التداول بها من خلال وساطة أميركية بالأساس. 

وثمة أسباب كثيرة تجعلها معنيّة بذلك، لعل أهمها ما يلي:

أولاً، هناك أزمة صعبة في صفوف الجيش الإسرائيلي بدأ الحديث عنها يتواتر أكثر فأكثر في وسائل الإعلام الإسرائيلية ولا سيما التي تتبنى وجهات نظر نقدية نسبياً. وبحسب ما يؤكد اللواء في الاحتياط إسحاق بريك ("هآرتس"، 19/11/2024)، فإن 40 بالمائة من تشكيلات الاحتياط لم يستجيبوا لدعوة الالتحاق بالخدمة العسكرية، كما أن جنود الجيش النظامي يأخذون تقارير طبية بسبب عدم قدرتهم النفسية والجسدية على الاستمرار في القتال، كذلك فإن سلاح البر يشهد عملية تفكُك من ناحية نفاد القوة البشرية والسلاح.

وقبل بريك أكد المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس" عاموس هرئيل (17/11/2024) أن أزمة القوى البشرية في الجيش تهدّد موقف نتنياهو الداعي إلى استمرار القتال أكثر من وقائع الحرب نفسها، وأكثر من تكاليفها المتزايدة، ولا سيما مع نية الحكومة تمرير قوانين التجنيد. وهو ما تم التشديد عليه أيضاً من جانب المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت" يوسي يهوشواع. وقد كشف قسم القوى البشرية في الجيش عن أرقام وصفها هرئيل بأنها صادمة بشأن التكلفة البشرية للحرب، إذ أن الجيش بحاجة ماسة إلى عشرة آلاف جندي إضافي، منهم نحو 7500 مقاتل، لتعويض الخسائر البشرية التي تكبدها الجيش على مدار أشهر القتال المنقضية. وبرأيه، يدرك الجيش الإسرائيلي أن المصدر الأكثر توفراً لتجنيد مقاتلين جدد يكمن في توسيع قاعدة المُجنَدين إلى الخدمة النظامية، ولا سيما عبر استهداف اليهود الحريديم، إذ يمكن لإنشاء كتيبة نظامية جديدة أن يوفر، في فترات الأمن الروتيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة والحدود، استخدام عشرة كتائب احتياط سنوياً. ومع ذلك، فمن المشكوك فيه أن يتحقق هذا الهدف قريباً نظراً إلى معارضة أحزاب الحريديم وتهديدات قادتها بالانسحاب من الحكومة، وإلى اعتماد استمرار  الحكومة على بقاء هذه الأحزاب في الائتلاف. ولم يصدر عن نتنياهو أي تصريح مبدئي يدعو إلى تحقيق المساواة في توزيع الأعباء، وبدلاً من ذلك اكتفى بنشر صور من اجتماعه بزوجات جنود الاحتياط. وبناء على ذلك فإن الضغط على تشكيلات الاحتياط هائل، ولن ينتهي قريباً، ووفقاً لبيانات نشرتها صحيفة "هآرتس"، هناك 54 بالمائة من جنود الاحتياط الذين استُدعوا إلى الخدمة منذ 7 تشرين الأول من العام الماضي خدموا فعلاً أكثر من 100 يوم، و18 بالمائة تجاوزت خدمتهم الـ 200 يوم. 

ثانياً، خلافاً لسرديّة إسرائيلية رسمية تؤكد أن حزب الله أصبح ضعيفاً للغاية وأن التهديد بغزو قوات الرضوان وإطلاق الصواريخ القصيرة المدى قد أزيل، وأيضاً أنه جرى القضاء على آلاف عناصر الحزب وتدمير البنى التحتية العسكرية التابعة له في ما يوصف بأنه خط القرى الأول، وإلى حد ما خط القرى الثاني، كما تلقّت منظومة النار لدى الحزب ضربة قوية، وهو ما أدى إلى تقلُّصها بصورة كبيرة، وتم القضاء على القيادات العسكرية والسياسية للحزب، فإن الوقائع الميدانية لا تدعم هذه السرديّة بالمطلق. وهذه الوقائع بلغت ذروتها أمس الأحد. ولكن حتى قبل هذه الوقائع الأخيرة أكد الصحافي الإسرائيلي الاستقصائي إيتاي أنجل ضمن برنامج "عوفداه" في قناة التلفزة الإسرائيلية 12، أن حزب الله يزداد قوة، والثمن من حياة الناس آخذ بالارتفاع، والحل السياسي بات أبعد من أي وقت مضى. وأضاف: "إن الصورة التي تقدَّم إلى الرأي العام في إسرائيل والتي تقول إن حزب الله أصبح ضعيفاً وكفة الجيش الإسرائيلي هي الراجحة تتخذ منحى مختلفاً جداً. فعناصر حزب الله لا يظهرون كتنظيم مهزوم يريد التوصل إلى تسوية سياسية، إنما يظهرون كمقاتلين تملؤهم روح الانتقام. وإذا كنا خسرنا هذا العدد من المقاتلين من أجل تدمير المنازل في جنوب لبنان ومصادرة السلاح في الأنفاق، فإنها مسألة وقت إلى أن يعيدوا بناء كل شيء من جديد". وخلص أنجل إلى أن "الصورة التي يقدمها المراسلون أو المحللون العسكريون بشأن الواقع في لبنان لا تتطابق مع الواقع الحقيقي".

عند هذا الحدّ ينبغي التنويه بأنه في ضوء إصرار رئيس الحكومة نتنياهو على الاستمرار في الحرب التي بدأت قبل أكثر من عام (ولا سيما في قطاع غزة)، وفي ظل قيامه في الوقت عينه بإقالة وزير الدفاع يوآف غالانت وتعيين وزير دفاع جديد هو يسرائيل كاتس يفتقر، بحسب تقارير معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، إلى قدرات مهنية تتيح له إمكان فهم الوضع الأمني على حقيقته، ويعجز عن مواجهة الحكومة بثبات، بدأت تتعالى مطالبات بأن يتحمّل الرئيس الحاليّ لهيئة الأركان العامة في الجيش الإسرائيلي الجنرال هرتسي هليفي المسؤولية ويقف بحزم أمام دوائر صُنع القرار السياسي من أجل تأكيد ضرورة إنهاء الحرب، مثلما كتب مثلاً اللواء في الاحتياط يسرائيل زيف (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 17/11/2024)، مضيفاً أنه إذا ما استمر الجيش الإسرائيلي، حتى بعد نحو 14 شهراً من القتال، في نهج تنفيذ مهمات تكتيكية فقط تتمثل في القصف وقتل المسلحين، فهذا يشير إلى مشكلة خطِرة من الانفصال عن الواقع. كذلك، على الرغم من كل الإنجازات المهمة فإن الجيش يبدو كأنه يتجاهل الواقع، ويمتنع عن اتخاذ القرارات الجوهرية المطلوبة في هذه المرحلة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات