المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
شمال غزة: "خطة الجنرالات" قيد التنفيذ. (أ.ف.ب)
  • كلمة في البداية
  • 1204
  • أنطوان شلحت

في الوقت الذي تُسلّط فيه الأضواء على الحرب مع حزب الله في الجبهة الشماليّة، وعلى الردّ الإسرائيلي على إيران، يبدو أن إسرائيل بدأت بتنفيذ ما تخطط له في كل ما هو مرتبط بـ "اليوم التالي" للحرب بالنسبة إلى قطاع غزة. ولعل ما أثار مثل هذا الاحتمال هو قيام إسرائيل بإعادة "الفرقة العسكرية 162" إلى جباليا برفقة دعوة سكان شمال القطاع إلى إخلاء منازلهم والتوجه جنوباً عبر "محور نتساريم"، وهو ما اعتبره الكثير من المحللين بمثابة تحقيق لجزء كبير من الفكرة التي يُطلق عليها اسم "خطة الجنرالات" والتي يُعَد اللواء في الاحتياط غيورا آيلاند من أبرز الممثلين لها في الإعلام، وهي تهدف إلى السيطرة على شمال قطاع غزة، وإخلائه من السكان المدنيين هناك، وفرض حصار على المنطقة، كخطوة يُفترض أن تعزّز تحقيق أهداف الحرب ضد حركة حماس (استعادة المخطوفين، وتقويض القوة العسكرية والسياسية لحماس). وفي الخطة اقتراح ينص على تجويع الناس الذين سيبقون في شمال القطاع بافتراض أنهم بصورة أساسية من عناصر حماس. وأشير في أكثر من مناسبة، كان آخرها في سياق ورقة تقدير موقف صادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، إلى أن المنظومة الحكومية والسياسية في إسرائيل تفاعلت مع الخطة بإيجابية، على الرغم من أنها لم تعتمدها بالكامل بعد.

وإلى أن تنجلي الأمور أكثر فأكثر يجب أن ننوّه بما يلي:

أولاً، نقلت صحيفة "هآرتس" أمس الأحد (13/10/2024) عن مسؤولين كبار في المنظومة الأمنية الإسرائيلية قولهم إن الحكومة لا تضغط في اتجاه التقدم في صفقة تبادُل الأسرى مع حماس، وأن المؤسسة السياسية تدفع في اتجاه ضم زاحف لأجزاء كبيرة من قطاع غزة، بدلاً من إنهاء الحرب وإعادة المخطوفين. ووفقاً لهؤلاء المسؤولين، فإن فرص التوصل إلى اتفاق بشأن صفقة تبادل تبدو ضئيلة حالياً، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المفاوضات بشأن الصفقة توقفت منذ فترة، ولم تُجرَ محادثات بهذا الشأن مع جهات دولية. ويضيفون أنه لم يتمّ أيّ نقاش بين المؤسسة السياسية وكبار المسؤولين في المنظومة الأمنية بشأن وضع المخطوفين منذ ذلك الحين. وعلى الرغم من ذلك ترى المنظومة الأمنية أن حُكم حماس في القطاع يشكل تحدياً أكثر تعقيداً من نشاط جناحها العسكري. ويشير كبار المسؤولين إلى أنه على الرغم من تعرُّض الجناح العسكري إلى ضربات قاسية، فإن حماس لا تزال هي السلطة الوحيدة في المجالات المدنية. وبحسب هؤلاء المسؤولين، فإن اعتماد السكان على حماس ازداد جزئياً، لأن المساعدات الإنسانية تصل إلى يد الحركة، وهي المسؤولة عن توزيعها على الأرض. هناك سبب آخر كامن في أن كثيرين يسعون للعمل مع الحركة لكسب رزقهم، حتى لو لم يؤمنوا بمسارها أو يدعموه.

ثانياً، لفتت "هآرتس" أيضاً إلى أن ضباطاً ميدانيين تحدثوا معها أفادوا بأن قرار الانتقال إلى العمل في شمال القطاع اتُّخذ من دون أيّ نقاش معمّق، وبرأي هؤلاء الضباط يبدو أن هذه الخطوة تهدف بشكل رئيس إلى الضغط على سكان غزة الذين يُطلب منهم، مرة أُخرى، الانتقال من المنطقة إلى ساحل القطاع مع اقتراب فصل الشتاء. كما أنه من غير المستبعد أن يكون ما يتم تنفيذه حالياً تمهيداً لقرار صادر عن المؤسسة السياسية بشأن تحضير شمال القطاع لتنفيذ خطة الحصار والتجويع التي طرحها اللواء المتقاعد غيورا آيلاند، والتي بموجبها يتم، مثلما أشرنا أعلاه، إجلاء جميع سكان شمال القطاع إلى "المناطق الإنسانية" في جنوبه، ومَن يختار البقاء في شمال القطاع يُعتبر ناشطاً في حركة حماس ويُسمح بمهاجمته. بالإضافة إلى ذلك، وبينما سيحصل سكان جنوب القطاع على مساعدات إنسانية سيتم تجويع سكان شمال القطاع إذا ما قرروا البقاء هناك.

ثالثاً، أكد أكثر من محلل وباحث في إسرائيل أن ما تقوم به إسرائيل في ما يخص القطاع يُعدّ بمنزلة خطوة كبيرة على طريق السيطرة المدنية على قطاع غزة، مع كل ما يستتبع ذلك، مثلما كتب مثلاً عوفر شيلح، الباحث في "معهد أبحاث الأمن القومي" (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 10/10/2024). 

ويشير شيلح، من ضمن أمور أخرى، إلى أن الجنرال ديفيد بترايوس، الذي كان قائداً للقوات الأميركية في العراق، قال ذات مرة في إسرائيل: "عندما تواجه عدوّاً (مثل حماس) عليك أن تبني خلال تدميرك". ولكن إسرائيل، أضاف شيلح، لا تريد البناء، لأن هذا يتطلب العمل مع ائتلاف من الأطراف الإقليمية التي تصرّ على وجود للسلطة الفلسطينية، ولو بصورة رمزية. وعلى الرغم من أن التدمير من دون بناء معناه العودة، المرة تلو المرة، إلى الأماكن التي سبق أن قامت إسرائيل باحتلالها و"تطهيرها" ونزع السلاح منها، وأنه وسط الفراغ الناتج من الدمار ستبرز حماس مجدداً وما هو أسوأ منها. وبرأيه يوجد في إسرائيل مَن يريد البناء، وهو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش (رئيس "الصهيونية الدينية") الذي يريد أن يبني في غزة مستوطنات إسرائيلية، ويريد تفكيك السلطة الفلسطينية، وإقامة دولة يهودية مكانها، ضمن إطار "خطة الحسم" التي نشرها قبل عدة أعوام. وفي قراءة هذا الباحث يدرك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الضرر الهائل الناتج من تحقيق خطة سموتريتش هذه، غير أنه يمضي نحوها لأسباب تتعلق ببقائه الشخصي والسياسي. وفي ضوء ذلك فإن مسؤولية من يصفهم بأنهم المستوى المهني، ويقصد وزير الدفاع وقادة الجيش الإسرائيلي، عمّا سيحدث لا تقل خطورة، ولفت إلى أن كثيرين من بينهم (وزير الدفاع يوآف غالانت قال هذا بصوت واضح، بينما كان صوت قادة الجيش أقل وضوحاً) يدركون تماماً أن السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة رسمياً ستُلحق ضرراً جسيماً بالجيش، وتحوّل إسرائيل إلى دولة منبوذة.

وينبغي أن نشير هنا إلى أن صحيفة "هآرتس" أنشأت يوم 8/10/2024 مقالاً افتتاحياً أكدت فيه أن سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير (رئيس "قوة يهودية") ما زالا يتمكسان بمهمة استغلال ما يعتبرانه "فرصة تاريخية حدثت للشعب اليهودي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023". وهدف هذا الثنائيّ هو احتلال غزة وإقامة مستوطنات يهودية، وتحقيق هذا الهدف هو الذي يُملي عليهما مواقفهما، بما في ذلك استعدادهما للتخلي عن المخطوفين والتضحية بهم. كما أن هذا هو سبب مطالبتهما بنقل المسؤولية عن توزيع المساعدات الإنسانية في قطاع غزة إلى الجيش الإسرائيلي. واعتبرت الصحيفة أن المشكلة العويصة أنهما يجدان أذناً صاغية لشهيتهم المفتوحة على مزيد من الاحتلال للأرض الفلسطينية لدى رئيس الحكومة نتنياهو.

رابعاً، شدّدت ورقة تقدير الموقف السالفة بشأن "خطة الجنرالات" الصادرة عن "معهد أبحاث الأمن القومي" على أن الخطة لا تقدم حلولاً سياسية تساهم في استقرار قطاع غزة، وفي تشكيل مستقبله على المدى الطويل، وهي أيضاً لا تهيئ الظروف لنشوء قيادة بديلة من حركة حماس في القطاع. كما شدّدت على أنه في الواقع القائم تتطابق هذه الخطة مع سياسة حكومة نتنياهو التي ترفض أيّ اقتراح لدمج السلطة الفلسطينية في إدارة القطاع. علاوةً على ذلك، قد تؤدي "خطة الجنرالات" إلى دفع إسرائيل نحو مسار احتلال قطاع غزة وفرض حُكم عسكري عليه، وهو ما سيضع المسؤولية عن أكثر من مليونَي نسمة على عاتقها. وهذا الوضع قد يزيد في تعقيد التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها، ويُثقل كاهل المجتمع الإسرائيلي من الناحيتين الأخلاقية والاقتصادية على حد سواء. بالإضافة إلى ذلك، لدى الجيش الإسرائيلي مقدّرات محدودة يمكن تخصيصها لملاحقة المقاتلين الذين سيبقون في شمال القطاع، أو الذين سيعودون ويتسللون إلى المنطقة. ومن المتوقع أن تتنافس هذه المهمة مع مهمات أُخرى تقع على كاهل الجيش، بما في ذلك في جبهات أُخرى مثل لبنان والضفة الغربية.

خامساً، تؤكد معظم التحليلات الإسرائيلية أنه لم يكن هناك إجماع بين كبار المسؤولين في المنظومة الأمنية على ضرورة القيام بالعملية العسكرية الأخيرة في شمال القطاع، وتلفت إلى أن هناك في الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) من يعتقد أن هذه العملية تعرّض حياة المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في القطاع إلى الخطر. كما أوضح الجيش الإسرائيلي في الأسابيع الأخيرة أن العمليات العسكريّة البريّة في القطاع تعرّض حياة المخطوفين إلى الخطر، وخصوصاً بعد العثور على ستة مخطوفين قتلى تم إطلاق النار عليهم بعد اقتراب قوات الجيش الإسرائيلي من المكان الذي كانوا محتجزين فيه. كذلك نُشر مؤخراً أن حركة حماس أصدرت أوامر إلى عناصرها بمنع أيّ عمليات إنقاذ للمخطوفين بكل ثمن، وتنفيذ عمليات إعدام بحقهم في حال اقتراب الجيش الإسرائيلي من المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك أشير في الكثير من التقارير والتحليلات الإسرائيلية إلى أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية طرحت على المؤسسة السياسية الإسرائيلية مسألة الحاجة إلى "توفير مسؤولية دولية عن قطاع غزة"، ولكن هذه الأخيرة رفضت، حتى الآن، جميع الاقتراحات التي قدمها كبار المسؤولين في المنظومة الأمنية.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات