المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
محو غزة: مشهد من خان يونس. (ِشينخوا)
  • كلمة في البداية
  • 474
  • أنطوان شلحت

(*) ما عاد سرّاً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هو الأكثر إصراراً على إطالة أمد حرب الإبادة على قطاع غزة، والمؤشرات المتراكمة إلى ذلك كثيرة وتظهر تباعاً على نحو يوميّ.

ومن المؤشرات الأخيرة- حتى ساعة كتابة هذه السطور- يمكن أن نذكر ما يلي:

أولاً، ما زال نتنياهو مصمماً على الاحتفاظ بوجود عسكري إسرائيلي في محور فيلادلفيا بالرغم من معارضة مصر لمثل هذا الأمر، وبالرغم من وجود شبه إجماع في إسرائيل، بما في ذلك من جانب المؤسسة الأمنيّة، على أن تحويل موضوع السيطرة الإسرائيلية أو الوجود العسكري الإسرائيلي في محور فيلادلفيا وكذلك في معبر رفح بين قطاع غزة ومصر إلى هدف رئيسي من أهداف الحرب على القطاع غير ضروري بتاتاً، وأن الهدف المركزي يجب أن يكون إطلاق المخطوفين الإسرائيليين المحتجزين في القطاع من خلال صفقة تبادل مع حركة حماس. وبحسب ما أكّد أستاذ الدراسات الشرق أوسطية، الدكتور رفائيل سغيف، قبل أيام، ليس بوسع الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحالي أن تعرض أي إنجاز مهم للحرب التي تشنها على غزة منذ نحو 11 شهراً، وفي ضوء ذلك فإن صفقة إطلاق المخطوفين ضرورية للغاية حتى ولو بثمن الانسحاب من محور فيلادلفيا.

ثانياً، ذكرت صحيفة "هآرتس" اليوم (26/8/2024) أن مصدراً سياسياً إسرائيلياً رفيع المستوى وجّه نقداً حادّاً إلى تصريحات أدلى بها الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي دانييل هغاري، والذي يعبّر بطبيعة الحال عن موقف المؤسسة العسكرية، ووفقاً لها فإن الجيش يبقى ملتزماً بتحقيق هدف مركزي واحد للحرب على غزة وهو إعادة المخطوفين والمخطوفات، مؤكداً أنه سيعمل بكل الوسائل من أجل الوصول إليه. وبموجب ما شدّد المصدر السياسي نفسه فإن اختيار هغاري ذكر هدف واحد للحرب فقط والتغاضي عن سائر أهدافها يتناقض بشكل تام مع قرارات المؤسسة السياسية وتوجيهاتها. كما شدّد في الوقت عينه على أن أهداف الحرب كانت ولا تزال إعادة المخطوفين، وتدمير القدرات العسكرية والسلطوية لحركة حماس، وضمان ألا يشكّل قطاع غزة في اليوم التالي للحرب أي تهديد أمنيّ لإسرائيل، وإعادة السكان النازحين من الشمال (في منطقة الحدود مع لبنان) إلى منازلهم.

في غضون ذلك يمكن ملاحظة أن الاقتناع بأن موقف نتنياهو السالف هو فقط من أجل مصلحته السياسية والشخصية آخذ بالاتساع، وبموازاة ذلك تتصاعد الأصوات التي تدعو إلى ما يوصف بأنه "إنقاذ إسرائيل من نتنياهو". ومع أن صحيفة "هآرتس" تبدو الأكثر تبنياً لهذا المطلب، مثلما انعكس الأمر في سلسلة من المقالات التي ظهرت فيها خلال الأيام الأخيرة، وكان أبرزها بقلم رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت، إلا إن ذلك لم يقتصر عليها فقط. كما أن الدعوة إلى إنقاذ البلد من نتنياهو لم تنحصر في الجانب الرغبيّ فقط بل تجاوزته إلى الغوص على الوسائل الكفيلة بالوصول إلى مثل هذا الإنقاذ في الواقع القائم. فمثلاً دعا الأديب إيال ميغد ("هآرتس"، 16/8/2024) رئيس الدولة الإسرائيلية إسحق هرتسوغ إلى الوقوف علناً ضد نتنياهو الذي يتمسك بالكرسي ويستخدم الأدوات والصلاحيات المنوطة به (على غرار خوض حرب دامية لا تاريخ لانتهائها، بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر ترك المخطوفين لمصيرهم) بصورة غير مسؤولة ومدمرة، من أجل ضمان بقائه الشخصي والسياسي، والالتفاف على وضعه القضائي. ويشير ميغد إلى أن ما يحول بين قيام رئيس الدولة وبين دعوة رئيس الحكومة، الذي يضع مصلحته فوق مصلحة بلده، إلى الانضباط، هو مبدأ الحفاظ على الصلاحيات المؤسساتية، والذي يرى هرتسوغ أن عليه الالتزام به، لأنه لا يريد أن يظهر كرئيس للمعارضة، بل يرغب في الحفاظ على مكانته كرئيس جامع للدولة.

ويعني هذا التفسير لسلوك هرتسوغ، من ضمن أمور أخرى، أنه لا يمكن التعويل عليه. وبرأي المحلل السياسي أوري مسغاف ("هآرتس"، 15/8/2024)، تمّ انتخاب هرتسوغ لمنصب رئيس الدولة بفضل نتنياهو، ولذا فإن الأول "موجود في جيب الأخير". وفي الوقت ذاته فإن بيني غانتس وجدعون ساعر قاما بتدمير المعارضة وهما ليسا البديل. والشرطة الإسرائيلية تم احتلالها من طرف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. والمحكمة العليا ترتدع مرة تلو الأخرى من نتنياهو في لحظة الحقيقة. والقضاة في المحكمة المركزية التي يُحاكم فيها نتنياهو بشبهة ارتكاب مخالفات جنائيّة، مصابون بالشلل من الخوف. وفي ظل ذلك كله يؤكد مسغاف أنه يتعيّن على قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بدءاً من وزير الدفاع وانتهاء برئيس شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") مروراً برئيس هيئة الأركان العامة للجيش ونائبه ورئيس جهاز الأمن العام ("الشاباك") ورئيس جهاز الموساد عدم الاستقالة من مناصبهم، بل على العكس ينبغي بهم الخروج الآن علناً ضد نتنياهو، وأن يرفضوا مواصلة تنفيذ تعليماته، وأن يطالبوا باعتباره عديم الأهلية، وباستقالته. وبرأي مسغاف "في إسرائيل لا يوجد حكم لشخص واحد، وإذا ما أصيب رئيس الحكومة بالجنون أو تشوّش عقله يجب إزاحته من المنصب، كون الدولة أكثر أهمية منه بكثير"!

ويعتقد المؤرخ الدكتور ديميتري شومسكي أن القول إن مثل هذه الدعوة تهدف إلى انقلاب عسكري ضد رئيس حكومة منتخَب، في تناقض مع نواظم الديمقراطية، ليس سوى ديماغوغية رخيصة لا أساس لها من الصحة. وبرأيه كل ما هو مطلوب، في حال أفشل نتنياهو مجدداً الصفقة التي يتم التفاوض بشأنها الآن، والرامية إلى إطلاق المخطوفين وإعلان وقف إطلاق النار، هو أن يقوم قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعقد مؤتمر صحافي في أفضل ساعات البث، وأن يعرضوا أمام الشعب، بصورة مفصلة ومحسوسة، كيف يتسبب نتنياهو، على نحو ملموس، باستمرار الحرب من دون أن تكون لهذا الاستمرار أيّ فائدة أمنية، وكيف قام ويقوم بإحباط التوصل إلى صفقة تبادُل، ولماذا سيؤدي استمرار تمسُّكه بكرسي الحكم إلى تهشيم الدولة بصورة تامة، إذا ما بقي جالساً عليه. وبمجرد تقديم قادة المؤسسة الأمنية تحليلاتهم الأمنية والمهنية إلى الشعب، وقبل الشروع في إقرار استخدام إجراء "عدم الأهلية" القانونية ضد نتنياهو ربما هناك احتمال برأيه لتدفّق جموع غفيرة من الإسرائيليين إلى الشوارع، والبقاء فيها إلى أن يستقيل من منصبه.

عند هذا الحدّ ينبغي أن نعيد إلى الأذهان ما كشف النقاب عنه الناطق السابق بلسان الجيش الإسرائيلي آفي بنياهو في سياق مقاله الأسبوعي في صحيفة "معاريف" (12/4/2024) بشأن قيام الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للجيش غابي أشكنازي بوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 2008- 2009 والتي عُرفت إسرائيلياً باسم "عملية الرصاص المصبوب"، وذلك في أعقاب ما وصفه بأنه تلكؤ الحكومة في ذلك الوقت والتي كانت برئاسة إيهود أولمرت في تقديم اقتراح خطة سياسية لما اصطلح عليه بأنه "اليوم التالي" للحرب.

ومن بين ما كتبه بنياهو: لقد تهرّب الساسة في إسرائيل آنذاك من الإجابة عن السؤال الذي طرحه أشكنازي والمتعلق بالغاية الاستراتيجية لتلك العملية العسكريّة، وأجابوه بأن ما يتعيّن عليه فعله هو استمرار القتال، ولكن أشكنازي أجابهم بقوله إن رئيس هيئة الأركان العامة الذي يقود الجيش "ليس مقاول تفجيرات لدى الحكومة"!

وأضاف بنياهو: سأكشف لكم سرّاً لأول مرة، وفحواه أنه بعد مرور عدة أسابيع على تلك العملية وفي ضوء عدم تلقي أشكنازي أي توجيهات حول الغاية الاستراتيجية لها على الصعيد السياسي، أصدر هذا الأخير أوامر بوقف العملية من دون أن يكون هناك أي قرار حكومي بهذا الخصوص.  

بالعودة إلى آخر المستجدات المرتبطة بالحرب على غزة والجدل الدائر بين المؤسستين السياسية والأمنية والذي ينعكس بدوره على السجال في أوساط الرأي العام، يمكن التقدير بأنّ نظرة المؤسسة الأمنيّة لا تزال مشوبة بالكثير من اللاحسم في الوقت الذي تمتلك فيه القدرة على أن تسلك مسلكاً مغايراً إذا ما توفرت لديها الرغبة بعدم إمساك العصا من المنتصف.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات