قبل خمسة أيام دخلت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الحادي عشر. وفي إجمال سريع لكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية أشير إلى أنه بالرغم من انقضاء هذه الفترة الطويلة فإن بنيامين نتنياهو، الذي يحملّه العديد من الساسة والمسؤولين الأمنيين السابقين، فضلاً عن العديد من المحللين السياسيين والأمنيين، المسؤولية الرئيسة عن هذه الحرب التي جاءت في أعقاب الهجوم المباغت الذي شنته حركة حماس ضد مواقع عسكريّة وعلى مستوطنات ما يعرف باسم "غلاف غزة" يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ما زال رئيساً للحكومة اليمينيّة الأكثر تطرفاً قومياً ودينياً والتي بدأت ولايتها بخطة الانقلاب على الجهاز القضائي وما تسببت به من انقسام عمودي في المجتمع الإسرائيلي، وما زال الجيش الإسرائيلي يعيث قتلاً ودماراً في قطاع غزة، كذلك فإن عشرات ألوف الإسرائيليين الذين تم إجلاؤهم من منطقتي الحدود مع غزة في الجنوب ومع لبنان في الشمال (على خلفية القصف المتبادل مع حزب الله) ما انفكّوا يقيمون في فنادق ولا يدرون متى تحين ساعة عودتهم إلى منازلهم، وفي الوقت الحالي فإن ملايين الإسرائيليين في حالة ترقّب غير مسبوقة لاحتمال تعرّضهم إلى هجمات من جانب إيران وحزب الله ردّاً على عمليتي اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في طهران، والقائد العسكري في حزب الله فؤاد شُكر في الضاحية الجنوبيّة لبيروت.
وبطبيعة الحال تزداد يوماً بعد يوم التساؤلات عن الأسباب التي تقف وراء نجاح نتنياهو في البقاء في منصبه بالرغم من اتهامه بالمسؤولية عن اندلاع الحرب، وعن إخفاق الجيش الإسرائيلي في تحقيق الأهداف التي وضعت لها، إلى جانب تحميله وزر إطالة أمد الحرب كونها تخدم مصلحته السياسية والشخصيّة واتهامه بأنه يسعى إلى توسيع نطاقها إلى حرب متعددة الساحات حتى ولو بثمن توريط الولايات المتحدة فيها.
لدى متابعة ما يُنشر في الإعلام الإسرائيلي بشأن تلك الأسباب يمكن الإشارة إلى أن الاستنتاج الرئيس هو أن ثمة ثلاثة أسباب رئيسة تتيح لنتنياهو إمكان البقاء في منصبه والاستئثار بصنع القرار في ما يتعلق بسير الحرب ومستقبلها. وهذه الأسباب الثلاثة هي: أولاً، كون المعارضة الإسرائيلية ضعيفة وليست موحدة في مواجهة الحكومة، وثانياً، وجود ائتلاف حكومي فاشل لكنه متماسك، وبالأساس في ظل تراجع قوته في استطلاعات الرأي العام ما يجعله متمسكّاً بسدّة الحكم، وثالثاً، خطورة الأوضاع الأمنية والسياسية التي تجد إسرائيل نفسها في خضمها وتعتبر غير مسبوقة في تاريخها كلّه. ولعلّ الأمر الأكثر أهمية، في ما يخصّ المعارضة الإسرائيلية، هو كونها فاقدة لأي بديل للسياسة التي يعرضها نتنياهو وعلى وجه الخصوص لما يوصف بأنه "اليوم التالي" للحرب. وهذا الواقع ليس جديداً، وبشكل عام فإن ما وصفه الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها السادس، بأنه الاشمئزاز من نتنياهو هو فقط ما يعيد التذكير بوجود معارضة في إسرائيل، ولكن هذا الاشمئزاز هو شخصي في الأصل، ولا وجود لمعارضة حقيقية بالنسبة إلى المسائل الأساسية التي يمكن أن تغيّر صورة إسرائيل في المدى القريب أو البعيد، كالاحتلال والحرب والديمقراطية، ففي هذه المسائل لا توجد فوارق كبيرة بين اليمين والوسط واليسار الصهيوني، وثمة دولة تتكلم بصوت واحد ولديها وجهة نظر واحدة ورأي واحد. وهناك أكثر من دليل مستجدّ قاطع على ذلك، ولعلّ الأبرز هو تصويت الكنيست الإسرائيلي يوم 21 شباط 2024 بأغلبية 99 عضو كنيست ضد 9 أعضاء تأييداً لقرار الحكومة معارضة الاعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية.
وسبق لنا أن نوّهنا بأن البعض أعاد إلى الذاكرة من ماضي المعارضات في إسرائيل، أمرين ينطويان على دلالة يوضحان التحوّل الذي تشهده الساحة السياسية الإسرائيلية خلال الحرب الحالية: الأول، أن اليسار والوسط في إسرائيل سبق أن أيّدا كل حروب إسرائيل السابقة، لكنهما كانا في بعضها يعودان بسرعة إلى رُشدهما؛ الثاني، أنه في كل حرب كانت هناك معارضة. أمّا في هذه الحرب فلا يوجد صوت معارض واحد في الكنيست، باستثناء أصوات أعضاء الكنيست العرب.
(2)
ازدادت في الآونة الأخيرة نبرة السخرية من إصرار رئيس الحكومة نتنياهو على تحقيق ما يصفه بأنه "النصر التام" أو "النصر المطلق" في الحرب على قطاع غزة. وبموجب أحد التحليلات الإسرائيلية الجديدة إذا كانت حركة حماس لا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ في اتجاه مستوطنات المنطقة الجنوبيّة، بعد مرور 10 أشهر على الحرب، وما زالت تسيطر على قطاع غزة من دون منازع، فلا مفرّ من القول إنه حتى هذه اللحظة، وعلى الرغم من الإنجازات التكتيكية التي تعدّ كبيرة للجيش الإسرائيلي، فإن إسرائيل فشلت في اختبار النتيجة، ويجب التفكير في مسار جديد. كما يتعين على نتنياهو أن يفهم أنه إذا لم يحقق النصر خلال عشرة أشهر، فإنه لن ينتصر قطّ، ويبدو أنه يجب على شخص آخر إكمال المهمة ("معاريف"، 8/8/2024).
على الرغم من هذا يبدو حتى الآن أن نتنياهو سائر في طريقين يؤدي كل منهما إلى "كارثة استراتيجية"، بحسب توصيف اللواء في الاحتياط عاموس يادلين، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") ومعهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب (موقع قناة التلفزة الإسرائيلية 12، 8/8/2024). وهذا الطريقان هما: الأول، طريق "النصر التام" الذي يعني استمرار الحرب في قطاع غزة، على الرغم من أنه منذ فترة طويلة تخوض إسرائيل مواجهة إقليمية تتجاوز حدود القطاع كثيراً، وفيها ساحات تنطوي على تهديدات لإسرائيل، أكبر كثيراً مما تبقى لحركة حماس من قوة في القطاع. وبرأي يادلين، فإن توزيع قوات الجيش الإسرائيلي (المحدودة العدد أصلاً) على محوري فيلادلفيا ونيتساريم لن يؤدي إلى القضاء على حماس في غزة، بل سيسفر عن حرب طويلة الأمد في مواجهة حرب أنصار في القطاع، وتصعيد متزامن في ساحات أُخرى. وسيواصل المخطوفون الإسرائيليون الموت في أنفاق حماس، وستتورط إسرائيل في حرب استنزاف طويلة، وسيستمر الاقتصاد الإسرائيلي في التدهور، وستنخفض مكانة إسرائيل في العالم إلى درك جديد، وسيشتد وقع الملاحقة القضائية ضدها في المحاكم الدولية. من ناحية أُخرى، هذه الاستراتيجيا ستقود إسرائيل إلى مواجهة مع الولايات المتحدة التي تسعى، بكل قوتها، لإنهاء الحرب على غزة، وتنتظر من إسرائيل الوفاء بالوعود التي قطعتها في ما يتعلق بالتقدّم في صفقة تبادل الأسرى. وثمة توقعات في واشنطن بأن ينتهج نتنياهو استراتيجية عمل أكثر إشكاليةً من "النصر التام" في غزة من شأنها أن تقود إلى حرب إقليمية ستتطلب، من دون شك، تدخُّل الولايات المتحدة، نظراً إلى عدم قدرة إسرائيل على خوضها منفردة، وهو آخر ما يحتاجه البيت الأبيض عشية الانتخابات الأميركية التي على الأبواب.
أما الطريق الثاني فهو طريق الحرب الإقليمية. وربما ليست هذه هي استراتيجية نتنياهو المعلنة، غير أن سلوكه، سواء في ما يقوم به بشكل مقصود، أو في ما يهمله من قضايا، وخصوصاً استمرار حرب الاستنزاف في غزة والساحات الست الأُخرى (لبنان، وإيران، وسورية، واليمن، والعراق، والضفة الغربية) سيؤدي بشكل كبير إلى اندلاع حرب إقليمية متعددة الساحات. ويعتبر يادلين وغيره كثر أن هذا المسار خطِر جدّاً، وهو سيناريو لم تبلور إسرائيل استراتيجيا وأهداف حرب ملائمة له. وبموازاة ذلك يسود شبه إجماع بين نظراء يادلين من المسؤولين العسكريين السابقين، وبين المحللين العسكريين، على أن هذا المسار سيقود إلى مقامرة كبيرة وخطِرة جداً.