المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1155
  • أنطوان شلحت

سلّطت آخر المستجدات في إسرائيل الأضواء مرة أخرى على مجموعة اليهود الحريديم المتشددين دينياً، ما يحتّم علينا المرة تلو الأخرى العودة إلى بعض الأدبيات البحثية حولهم والتي من شأنها في الوقت ذاته أن توضّح الكثير من النقاط الدالة على المشهد السياسي الإسرائيلي الراهن، ولا بُدّ من القول بداية إن قسماً كبيراً من هذه الأدبيات سبق أن تعامل معها "مركز مدار"، سواء من حيث ترجمتها إلى العربية، أو من خلال استخدامها في كتابة مواده العديدة بما في ذلك مواد "المشهد الإسرائيلي". 

بحسب جلّ الأبحاث، كانت مجموعة الحريديم مُعسكراً هامشياً في الماضي البعيد، لكنه يجتذب اليوم اهتماماً جماهيرياً واسعاً جدّاً بسبب وزنه العددي الكبير. والحريديم، إجمالاً، لا يتبنون الأيديولوجيا الصهيونية، ويعتبرون أنها "تسعى لإيجاد هوية وشعب يهوديين جديدين كنتاجٍ للفكر القومي الحديث الذي ظهر على خلفية التطوّرات في الغرب، ولذا فهي مرفوضة". ولم يتطلعوا، في الممارسة، إلى الاندماج في المجتمع الإسرائيلي أو إلى الانخراط في ما يُزعم بأنه "إعمار البلد". أما علاقتهم بالدولة فتتراوح بين البرود والجفاء من جهة، والرفض المطلق من جهة أخرى. وهم يتخبطون في أسئلة أيديولوجية وعملية صعبة يثيرها لديهم مجرد وجود الدولة، فيما يطرح قادتهم إجابات مختلفة، بل ومتناقضة أحياناً. 

وعادة ما يتم التمييز في معظم تلك الأبحاث بين ثلاثة تيارات في هذه المجموعة: الأول، التيار الحريدي المعتدل الذي يمارس تعاطفاً فعلياً مع الدولة ومصيرها، حتى وإن كان لا يوليها أهمية دينية بل يعتبرها مُجرّد أداة لا أكثر. ويشمل هذا التيار، حسب تصنيف بعض الأبحاث، مثلاً حركة "حباد" وحزب شاس لليهود الشرقيين. والثاني، تيار راديكالي يتبنى مواقف متطرفة في معاداة الصهيونية وينكر أي حق وجود لأي كيان سياسي يهودي قبل قدوم المسيح المنتظر ويعتبره تمرّداً على ملكوت السماء. ويشمل هذا التيار: الطائفة الحريدية، وحركة "ناتوري كارتا"، ومجموعات أخرى. أما الثالث فهو "التيار المركزي"، كما تصفه أغلب الأبحاث، ويتبنى مواقف براغماتية في القضايا السياسية من منطلق الحفاظ على التعايش المشترك مع أغلبية الشعب الإسرائيلي. ويعتبر هذا التيار نفسه غير صهيوني مؤكداً ما يلي: "نحن في الدياسبورا في الأرض المقدسة". ويركّز أغلب اهتمامه في الجهد الثقافي التربوي من خلال تعزيز وتحصين مؤسساته التعليمية والدينية، ويشمل هذا التيار بالأساس حركة وحزب "أغودات يسرائيل" وهما حالياً جزء من تحالف يهدوت هتوراه.

بموجب منشورات "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، تصل نسبة الزيادة الطبيعية في المجتمع الحريدي إلى 4.2 بالمئة مقارنة بـ 1.4 بالمئة في المجتمع اليهودي غير الحريدي، وستصل نسبتهم بين مجمل السكان إلى أكثر من الثلث في العام 2064.

في الوقت الحالي بالإمكان أن نحدّد أربعة نماذج رئيسة للتعامل مع اليهود الحريديم تسود في أوساط المجتمع الإسرائيلي حيال التغيرات الديموغرافية التي ستشهدها إسرائيل في الأعوام المقبلة. 

وهذه النماذج هي: 

الأول، النموذج الذي لا يرى أي غضاضة في ازدياد أعداد اليهود الحريديم، وهو يضم بالأساس أفراد هذه الفئة من السكان. 

النموذج الثاني يؤكد أنه لا داعي للهلع من هذه التغيرات وانعكاسها على المجتمع الإسرائيلي سياسياً والأهم اقتصاديّاً، وأنه من المتوقع أن يكون هناك مزيد من التحوّلات في صفوف هذه الفئة ينجم عنها انخراط أوساط أوسع من صفوفها أكثر فأكثر في الحياة السياسية والمدنية والاقتصادية في الدولة، مثلما تشي بذلك عديد المؤشرات المرتبطة بالحريديم ولا سيما المتعلقة بنسبتهم في سوق العمل ونسبة تجنّد شبانهم في الجيش. وهذا النموذج يضم في ثناياه الأحزاب اليمينية غير الحريدية وأتباع الصهيونية الدينية وجزءاً مما يعرف باسم معسكر الوسط على غرار حزب "أزرق أبيض" بزعامة بيني غانتس.   

النموذج الثالث هو ذلك الذي يحذّر من مغبة حدوث كارثة إذا لم يتم تدارك الأمر منذ الآن والقيام بفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الشبان اليهود الحريديم وكبح أي قوانين تتعلق بالإكراه الدينيّ. ويقف على رأس هذا النموذج حزب "إسرائيل بيتنا" بزعامة أفيغدور ليبرمان، ويحظى بتأييد حزب "يوجد مستقبل" بزعامة يائير لبيد. وربما ينبغي أن نشير هنا إلى أنه قبل إقامة ما بات يُعرف باسم حكومة بينيت- لبيد (الحكومة الإسرائيلية الـ36 واستمرت ولايتها بين حزيران 2021- كانون الأول 2022) والتي استثنت الحريديم، أسفرت  الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في 22 كانون الثاني 2013 عن بقاء الحريديم، الممثلين في حزبي شاس ويهدوت هتوراه، خارج الائتلاف الحكومي، وذلك على خلفية معارضة حزب "يوجد مستقبل" برئاسة يائير لبيد بالأساس وانضمام حزب "البيت اليهودي" برئاسة نفتالي بينيت إليه، المشاركة في ائتلاف حكومي يكون الحريديم جزءًا منه. ولكن لم تكن هذه هي المرة الأولى التي لا يشارك فيها الحريديم في الائتلاف الحكومي. فحزب شاس لم يشارك في حكومة أريئيل شارون الثانية، التي تشكلت في العام 2003. لكن كتلة يهدوت هتوراه شاركت في هذه الحكومة. والمثير في الأمر، أنه شارك في هذه الحكومة حزب شينوي، الذي كان يترأسه يوسف لبيد، والد يائير لبيد. وقد شن لبيد الأب، الذي كان يتولى منصب وزير العدل، هجمات كاسحة ضد الحريديم عموماً، وضد حزب شاس خصوصاً. ويوسف ويائير لبيد هما بالأساس صحافيان. وعندما كان يتولى الأب منصب الوزير قال في مقابلة أجراها معه ابنه الصحافي: "إننا ضد من يحوّل الدين، ومن يحول الرّب، إلى رجل المحاسبة خاصته، وضد من يستخدم الدين كي يكسب المال أو يبني قوته". وهاجم لبيد الأب بأقواله هذه الحريديم كافة. غير أنه ركز هجومه على حزب شاس، الذي يمثل السفاراديم، أي اليهود الشرقيين. وقال لابنه، في المقابلة نفسها: "إذا كنت غاضباً على أحد، فإنني غاضب على أولئك الذين يصنعون الفصل في البلاد بين الأشكناز والسفاراديم، وأنا لا أرى فرقاً بينهم. ومن يفعل من هذا الفصل نهجاً سياسياً فإنه شخص كريه في نظري. وما أريده هو أن نكون جميعا إسرائيليين، لا أشكناز ولا سفاراديم، فقد جئنا لنكون إسرائيليين. وهناك أشخاص يحوّلون هذا الموضوع إلى رصيد سياسي".  

أمّا النموذج الرابع والأخير فهو الذي يتبنى مقاربة فحواها أن المعركة ضد تديين أو حردنة إسرائيل خاسرة منذ الآن، وهو يجد تعبيراً عنه في تحليلات ومقالات تظهر تباعاً في صحيفة "هآرتس" المعارضة، وحتى في مقالاتها الافتتاحية. وبرأي آخر هذه المقالات الافتتاحية من يوم 15 أيار الحالي، فإن الإرث التاريخيّ لبنيامين نتنياهو كرئيس للحكومة سيكون دهورة إسرائيل إلى مكانة دولة عالم ثالث. ولعلّ المثير في هذا النموذج هو تلميح بعض وسائل إعلام في إسرائيل بأن أصحاب نموذج التعامل هذا باتوا يائسين كلياً من إمكان إصلاح الوضع، وثمة بينهم حركة هجرة كثيفة من إسرائيل في اتجاه دول العالم الأول!   

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات