ثارت في الأسبوع الماضي وعلى خلفية تعيين عضو الكنيست دافيد أمسالم من حزب الليكود في ثلاثة مناصب وزارية في حكومة بنيامين نتنياهو السادسة (هي: وزير ثانٍ في وزارة العدل، ووزير التعاون الإقليمي، والوزير المسؤول عن التنسيق بين الحكومة والكنيست)، قضية الصراع الطائفي بين اليهود الأشكناز والشرقيين في إسرائيل، إذ جاء تعيين أمسالم بعد أن شنّ هجوماً حادّاً على نتنياهو اتهمه فيه بتفضيل الأشكناز في تولية المناصب الوزارية المهمة والتمييز ضد الشرقيين بالرغم من كون الأغلبية الساحقة من المصوتين لليكود على مدار معارك الانتخابات كافة يهوداً شرقيين. وكان أمسالم أعرب كذلك عن استيائه من نتنياهو خلال مقابلات صحافية أدلى بها مؤخراً، وحمّله مسؤولية عدم تعيينه رئيساً للكنيست، بحجة أنه سيقوم بتصفية الحسابات مع المعارضة. كما أشار إلى أن اليهود الشرقيين الذين ينتمي إليهم يشكلون 70 بالمئة من الليكود، واعتبر أنهم تعرّضوا للإهانة من جرّاء عدم تعيينه في منصب رفيع. وعلى أعتاب أداء الحكومة الحالية اليمين الدستورية، كتب في تغريدة نشرها في حسابه الخاص على موقع "تويتر": "لسوء الحظ، هذا هو الثمن الذي تدفعه في مقابل الولاء والالتزام بالمبادئ."
لا يعد الاستقطاب الأشكنازي الشرقي بين اليهود في إسرائيل جديداً، ولكنه يثور بين الفينة والأخرى. وإن كانت إثارته تدل على شيء، فهي تدل بالأساس على وجوده في العمق، وأيضاً على أن مفاعيله ما زالت مؤثرة، سواء على مستوى السياسات عموماً، أو على صعيد التصدعات والشروخ الاجتماعية، وعلى صعيد الفروق في الأوضاع الاقتصادية والمكانة العامة بين الإسرائيليين.
ويمكن القول إن هذا الاستقطاب هو دالّ وعنصر أساس في أيِ عملية استقراء للواقع الإسرائيلي في مراحله الشتيتة. وفي واقع الحال فإنه عاد منذ أعوام قليلة إلى صدارة الأحداث من جديد إنما بحدّة كبيرة، وخلال ذلك شهدت إسرائيل نقاشات متجدّدة حول قضايا اعتقد البعض أنها اختفت، وأخذت أبعاداً مختلفة تحملها عدة دوافع منها ما هي سياسية تتمثل في تعزيز سياسات الهوية في مجتمع اليهود الشرقيين تحديداً لأن لها مدلولات انتخابية واضحة، ومنها دوافع تتعلق بالهوية والثقافة الشرقية ومناقشة التمييز التاريخي الذي عانى منه الشرقيون في إسرائيل بهدف تحسين مكانتهم وإبقاء هذا الظلم حاضراً في المشهد الإسرائيلي ولا تحركه أي اعتبارات سياسات هوية بالرغم من أنه في النهاية يساهم في تأسيسها. وكان ثمة من أشار إلى أن حدّة الاستقطاب تشبه إلى درجة كبيرة تلك التي كانت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين الفائت وساهمت بصورة كبيرة في صعود الليكود الى سدّة الحكم.
ولدى العودة إلى الوراء لا بُدّ من أن نشير إلى أن عوامل عديدة أدّت إلى تأجيج هذا الاستقطاب، منها عوامل سياسية انتخابية تتمثل في حرص اليمين عموماً والجانب الشرقي منه خصوصاً على الحفاظ على هذا الاستقطاب لأنه يمثل الضمانة لبقاء اليمين في الحكم من خلال الحفاظ على قواعده الشرقية بالرغم من سياساته الاقتصادية التي ساهمت في ضربها، ومن الجهة الأخرى شعور النخب الأشكنازية اليسارية خاصة بأن المرحلة الحالية تنذر بنهاية دورها في مشروع الدولة ما جعلها أكثر نقداً للنخب الشرقية التي تنتج سياسات هوية بوعي وبدون وعي. كذلك ينبغي أن نشير إلى أن قضية الجندي القاتل إليئور أزاريا الذي أدين بقتل الشهيد الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل بدمٍ باردٍ (ارتكب جريمة القتل في آذار 2016)، كانت بمثابة وقود للاستقطاب الشرقي الأشكنازي، فقد حظي هذا الجندي ذو الأصول الشرقية بنوعين من التأييد: الأول، من اليمين الذي طالب بالعفو عنه واعتبر أن محاكمته هي تسفيه للجيش والقضاء العسكري، والنوع الثاني جاء من قطاعات شرقية اعتبرت أن الجندي يدفع ثمن فعل قام به الكثيرون لكن المؤسسة العسكرية لاحقته لأنه شرقي. وعلى الرغم من أن هناك تقاطعاً بين النوعين من التأييد، لا يمكن تغييب أنه كانت هناك قطاعات شرقية غير يمينية أو غير مغالية في مواقفها اليمينية تعاطفت معه بسبب خلفيته الشرقية.
كما أن توجهات وزيرة الثقافة الإسرائيلية في ذلك الوقت ميري ريغف، وهي شرقية من أصول مغربية، صبّت الزيت على نار الاستقطاب الشرقي في إسرائيل حيث حملت أجندة إضعاف النخب الأشكنازية الثقافية التي اعتبرتها معادية للدولة وسرديتها، بموازاة تمكين نخب شرقية من أخذ حيز أوسع في المشهد الثقافي. وقد اتخذت ريغف سلسلة كبيرة من الإجراءات في هذا السياق، مثل إعادة توزيع ميزانيات وزارة الثقافة بما يخدم توجهاتها السياسية والإثنية، ووضع شروط للتمويل من الوزارة تتمثل في التماهي مع التوجهات اليمينية، ومنع الميزانية عن مؤسسات تقاطع المستوطنات أو ترفض الظهور هناك، بالإضافة الى استعمال خطاب حادّ في تعاملها مع النخب الثقافية الأشكنازية يفتقر إلى أي لياقة سياسية. وهي انطلقت من محورين في المشهد الثقافي: الأيديولوجي اليميني من جهة، والإثني الشرقي من جهة أخرى.
في هذا السياق استطاعت ريغف في بداية الأمر أن تحدث انشقاقاً في صفوف النخب الثقافية والفنية بين الشرقيين ذوي التوجهات اليمينية وبين النخب الأشكنازية الثقافية ذات التوجهات اليسارية أو الليبرالية، ولكن ما حدث لاحقاً أنها استطاعت أن تحدث شرخا ولو صغيراً بين النخب الشرقية اليسارية الليبرالية والنخب الأشكنازية من نفس المعسكر الأيديولوجي في قضايا عينية. فعلى سبيل المثال أبدت الكاتبة الليبرالية من أصول شرقية، إيفا إيلوز، المعروفة بمناهضتها للاحتلال واليمين في إسرائيل على نحو شديد، دعمها للوزيرة ريغف في مسألة توزيع جائزة إسرائيل وتركيبة اللجنة التي توزع الجائزة، حيث لم يحصل أي شرقي في ذلك العام على جائزة إسرائيل، ودعمت الوزيرة في توجهها الناقد للمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية التي تميز وتقصي الشرقيين. وكذلك فعل الكاتب الشرقي اليساري رون كحليلي في سلسلة مقالات دعم فيها توجهات الوزيرة ريغف في أجندتها الشرقية، وهاجم فيها النخب الأشكنازية التي لم تمكن الشرقيين من الوصول الى الكثير من مراكز القوة والحكم. وفي أحد مقالاته كتب كحليلي: "لنفترض أن ريغف ليست ريغف، وإنما نيتسا شوسطر، أشكنازية من عين حارود أو من مرحافيا، هل كان طلبها للعدل التوزيعي سوف يواجه بجدار من العدائية، ومن معسكر اليسار؟ أنا مقتنع بأنه لا. ولأن ريغف بحسب فهمي، ليست مجرد شرقية، بل "شرقية جديدة"، يمينية، محافظة، من الأطراف البرجوازية الناجحة، وبخلاف آبائها الذين طأطأوا رؤوسهم وتوكلوا على الله، فإنها لا تخشى أن تطالب بحقوقها وتطالب بالعدل التوزيعي".
في ذلك الوقت كان من أبرز الاستخلاصات ذلك الذي دعا إلى الإقرار بحقيقة أن هناك "شعبين يهوديين" في إسرائيل: الشعب الأول، يسمى أشكنازي ويشمل الإسرائيليين من أصول أوروبية وأميركية، وينطلق أبناؤه من القيم الغربية... أما الشعب الثاني فهو الشرقيون، الذين أطلقوا عليهم في الماضي اسم السفاراديم، ولكنه كان اسماً مغلوطاً، إذ إن قسماً صغيراً من الشرقيين ينتمي الى سلالة المطرودين من إسبانيا، والجمهور الشرقي يشمل الإسرائيليين الذين جاءت عائلاتهم من البلدان التي تمتد من المغرب حتى إيران. ووفقاً للاستخلاص نفسه، من الناحية التاريخية لوحق اليهود كثيراً في أوروبا وأقلّ في البلدان الإسلامية، غير أن الأشكنازيين يفتخرون اليوم بتراثهم الأوروبي (بالرغم من أنهم يبتعدون عنه عملياً)، بينما يشعر الشرقيون بالإهانة عندما يقارنونهم بالعرب!