لا شكّ في أن قراءة ما صدر عن أغلب محللي الشؤون الأمنية في إسرائيل بشأن آخر المستجدات المتعلقة بما يوصف بـ"الملف النووي الإيراني"، من شأنها أن تعطي انطباعاً قويّاً بوجود شبه إجماع في صفوفهم على أن إيران قطعت شوطاً بعيداً في كل ما يتعلق بإنتاج قنبلة نووية، وأن طريقها إلى إنتاجها باتت الأقصر منذ أن هجست بهذا الأمر منذ نحو عقدين، وهذا في حال أنها قررت امتلاك سلاح نووي.
شبه الإجماع هذا ليس جديداً وقالوا به في الماضي، ولا سيما خلال الفترة القليلة المنصرمة، غير أن الذي يمكن أن نعدّه جديداً فعلاً هو أن ثمة بين هؤلاء المحللين من يعتقد أن هناك ما بالوسع اعتباره بمثابة "تسليم" بهذه النتيجة في إسرائيل، وأن سبب المعارضة الحازمة لإعادة إحياء الاتفاق النووي المبرم مع إيران في العام 2015- كما يُستشف من تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين السياسيين والأمنيين- لا يعود إلى رغبة الدفع قدماً بغاية وقف تسلّح إيران النووي وإنما إلى كبح ما يتيحه هذا الاتفاق من إمكان رفع العقوبات المفروضة على طهران، وعودة تدفّق الأموال الطائلة إلى خزينتها، واحتمال صرفها أيضاً في الوقت ذاته على ما يوصف بأنه "دعم النشاطات الإرهابية" في المنطقة والعالم.
وبحسب ما كشف عنه المحلل السياسي لصحيفة "يسرائيل هيوم" أريئيل كهانا (25/8/2022)، فعندما جلس نفتالي بينيت على كرسي رئيس الحكومة في إسرائيل، أعاد فتح "ملف إيران"، آخذاً بعين الاعتبار أن الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن ينوي العودة إلى الاتفاق الذي انسحبت منه الإدارة الأميركية السابقة برئاسة دونالد ترامب في العام 2018. وبناء على ذلك قرّر أن يدرس جوهر الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على الاتفاق بالنسبة إلى إسرائيل.
ويمضي كهانا فيقول إن النتيجة الأبلغ لهذا الدرس الذي أجراه بينيت كانت أن الاتفاق ينطوي على آثار سلبية كثيرة فيما يخصّ إسرائيل، وأن الضرر الرئيس غير كامن فقط في التسلّح النووي الإيراني إنما أيضاً في مئات المليارات التي ستُضّخ في شرايين "منظومة الإرهاب" التي تديرها إيران في شتى أنحاء العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط، وبالأساس ضد إسرائيل.
ووفقاً لكهانا فإن بينيت، سوية مع يائير لبيد الذي كان كذلك من رافعي لواء المصالحة مع الحزب الديمقراطي الأميركي، اتبع نهجاً مغايراً لذلك الذي اتبعه رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو. وهذا النهج المغاير يقوم على محاولة وضع عصي في دواليب الاتفاق بدلاً من بذل جهود ترمي إلى إحباط الاتفاق ذاته ومن المتوقع ألا يُكتب لها النجاح أبداً. وبرز اتباع هذا النهج، مثلاً، من خلال إبداء إسرائيل معارضتها لإخراج الحرس الثوري الإيراني من قائمة الولايات المتحدة لـ"المنظمات الإرهابية"، وكذلك من خلال معارضة إغلاق ملفات إيرانية مفتوحة من طرف الوكالة الدولية للطاقة الذريّة من دون استكمال التحقيق فيها. وقد يكون "حبل هذه العصي على الجرّار"، كما يُقال.
ومنذ الأسبوع الأخير، الذي تراكمت فيه وقائع عديدة تثبت أن الولايات المتحدة وإيران على وشك إعادة إحياء الاتفاق النووي، يتبع رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية يائير لبيد النهج ذاته الذي اختطه بينيت لأول مرة.
ففي يوم 24/8/2022 عقد لبيد مؤتمراً صحافياً بحضور مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في إسرائيل قال فيه (بموجب ما نُشر في الموقع الإلكتروني لرئاسة الحكومة الإسرائيلية):
"إن الاتفاق المطروح حالياً على الطاولة هو اتفاق سيء سيمنح إيران مئة مليار دولار سنوياً. هذه الأموال لن تُصرف على بناء مدارس أو مستشفيات.. ستُصرف على زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط وعلى ترويج الإرهاب في كل أنحاء العالم. هذه الأموال ستموّل الحرس الثوري وقوات الباسيج التي تقمع الشعب الإيراني، وستموّل المزيد من الهجمات على قواعد أميركية في الشرق الأوسط، وعلى تعزيز حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي. إنها ستصرف على تعزيز البرنامج النووي. هذه الأموال ستُحوّل تحديداً إلى هؤلاء الذين يحاولون قتل الأدباء والمفكرين في قلب مدينة نيويورك. وبطبيعة الحال، هذه الأموال ستصرف على تعزيز البرنامج النووي الإيراني.
"إن إسرائيل لا تعارض اتفاقا مهما يكن. نعارض هذا الاتفاق لأنه سيء، ولا يمكن قبوله بنصه الحالي. بنظرنا، هو لا يناسب المعايير التي حددها الرئيس بايدن نفسه التي تتعهد بمنع إيران من التحول إلى دولة نووية. هذا الاتفاق يُعرّض استقلالية الوكالة الدولية للطاقة الذرية للخطر وهو يخلق ضغوطاً سياسية تهدف إلى إغلاق الملفات المفتوحة بدون استكمال تحقيق مهني فيها.
"سألوا هذا الأسبوع رافائيل غروسي، رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إذا كان قد تلقى أجوبة مرضية من الإيرانيين حول التحقيقات المفتوحة. وكان ردّه: "كلا. إيران لم تزودنا حتى الآن بالأجوبة الفنية الصادقة والمطلوبة من أجل شرح تواجد بقايا كثيرة من اليورانيوم في بعض المواقع النووية. أعطونا أجوبة: إن كانت هناك مواد مشعة أو معدات نووية، فأينها الآن؟".
"كيف يمكن التوقيع على اتفاق مع إيران في حين أن هذا هو ما تقوله الجهة الرسمية المسؤولة عن مراقبة الاتفاق؟ كيف يمكن التوقيع على اتفاق مع الإيرانيين يمنحهم مئة مليار دولار سنوياً كجائزة على قيامهم بخرق جميع التزاماتهم؟
"إن رفع العقوبات الكامل عن قطاعات مثل المصارف الإيرانية ومؤسسات مالية معلن عنها اليوم كداعمة للإرهاب يلمّح إلى أن الإيرانيين لن يواجهوا أي مشاكل في تبييض الأموال. الإيرانيون سيساعدون دولاً أخرى فُرضت عليها عقوبات للالتفاف عليها. إنهم سيستطيعون خلق مسار مباشر لتمويل الإرهاب.
"إننا نجري حواراً مفتوحاً مع الإدارة الأميركية حول جميع القضايا المختلف عليها.. الولايات المتحدة كانت وما زالت أقرب حليفة لنا والرئيس بايدن هو من أفضل الأصدقاء لإسرائيل على مر تاريخها.
"تحدثت في الأيام الأخيرة مع الرئيس الفرنسي ومع المستشار الألماني ونجري محادثات حثيثة مع البريطانيين يوميا تقريباً. وقلت لهما إن المفاوضات مع الإيرانيين وصلت إلى مرحلة يجب التوقف فيها والقول: كفى.
ومع ذلك أوضحنا للجميع: إن تم التوقيع على الاتفاق، إسرائيل لن تكون ملزمة به. سنتحرك من أجل منع إيران من التحوّل إلى دولة نووية. لا ننوي العيش تحت تهديد نووي يوجهه إلينا نظام إسلامي متطرف وعنيف. هذا لن يحدث لأننا لن نسمح بحدوث ذلك".
عند هذا الحدّ يُطرح السؤال: وماذا بعد؟
وجواباً عليه سنكتفي بأن نشير إلى أن معظم التحليلات الإسرائيلية تؤكد أن زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى الولايات المتحدة، التي بدأت يوم الخميس 25 آب الحالي، لن تغيّر حقيقة أن الأوروبيين أعطوا ضوءاً أخضر للاتفاق مع إيران، وأن الرئيس الأميركي بايدن سينفّذ رغبته في الانضمام إلى الاتفاق. وفي ضوء ذلك، تشدّد التحليلات نفسها على أن جُلّ اهتمام إسرائيل ينبغي أن يُوجّه في الوقت الحالي نحو تطوير استراتيجيا جديدة يكون في صلبها التسبّب بردع أي نظام، يكون في سدّة الحكم في إيران الآن وفي المستقبل، عن شنّ حرب نووية ضد إسرائيل.
وثمة اجتهادات كثيرة حول جوهر الاستراتيجيا المطلوبة بهذا الصدد، ومعظمها ناجم، كما تؤكد وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن مناقشات تجري بين المؤسستين السياسية والأمنية. وربما يحتاج الخوض في تفاصيلها إلى وقفة لاحقة. ومع ذلك لا بُدّ من أن نستعيد أنه في كل ما يرتبط بـ"الملف النووي الإيراني" يجمع المحللون الإسرائيليون على أن ما يعرف باسم "عقيدة بيغن" قد انتهت. وتأسست هذه العقيدة على قاعدة قيام إسرائيل بتنفيذ هجوم استباقي هدفه تدمير أي برنامج نووي في الشرق الأوسط قبل أن يصبح عسكرياً، كما حدث في الهجمتين الإسرائيليتين على العراق العام 1981 وعلى سورية العام 2007 واللتين وصفتا في حينه بأنهما هجمتان ضد مفاعلين نوويين عراقي وسوري.
وانتهت العقيدة المذكورة لأسباب عديدة منها أن الهجمتين السالفتين كانتا أقرب إلى "عمليات جراحية" ضد منشآت موجودة في دول امتنعت عن الاعتراف علناً بأن لديها برامج نووية. وعلى خلفية ذلك فإن المخاطرة بأن تؤدي مهاجمة هذه المنشآت إلى حرب شاملة كانت ضئيلة، وتقريباً لم تكن موجودة. في المقابل لا يستطيع الإيرانيون عدم الرد بهجوم مباشر ضد أهداف إسرائيلية، وربما من خلال استخدام حزب الله في لبنان، مثلما ينوّه أغلب المحللين.
كذلك فإن إيران نفسها استخلصت دروسا عدة من ماهية تلك العقيدة، وبرسم ذلك أقدمت على توزيع منشآتها النووية جغرافياً. كما أنها، وهي في طريقها إلى دولة عتبة نووية، تعلمت أن القدرة النووية التي تملكها أنظمة قمعية مثل كوريا الشمالية تمنحها حصانة في مواجهة هجوم أميركي لإطاحة النظام. كما تعلمت أنه لو كان لدى صدام حسين سلاح نووي لما تجرأت الولايات المتحدة على غزو العراق العام 2003.
وأخيراً ثمة درس آخر مهم يمكن أن تتعلمه إيران من حالة أوكرانيا التي بقيت لديها، مع تفكك الاتحاد السوفييتي، ترسانة نووية كانت الثالثة من حيث الحجم في العالم، ولو لم توافق أوكرانيا في "مذكرة بودابست" العام 1994 على التخلي عن قدراتها النووية في مقابل ضمانات أميركية للحفاظ على سلامة أراضيها، فمن شبه المؤكد أنه ما كانت روسيا تجرأت على احتلال شبه جزيرة القرم، ولما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقوم بغزو أوكرانيا كما يفعل منذ نصف عام.
المصطلحات المستخدمة:
يسرائيل هيوم, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد, نفتالي بينيت