المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 1147
  • أنطـوان شلحـت

صادفت يوم 20 أيار الحالي الذكرى السنوية الـ15 لوفاة أستاذ علم الاجتماع في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور باروخ كيمرلينغ، الذي عرف بأبحاثه الليبرالية والنقدية للمجتمع الإسرائيلي والحركة الصهيونية.

كان كيمرلينغ، الذي توفي في العام 2007 عن عمر يناهز 67 عاماً، من أوائل علماء الاجتماع الإسرائيليين الذين حلّلوا الحركة الصهيونية انطلاقاً من نظرية ما بعد الكولونيالية، وبحث كثيراً في مسألة تجانس المجتمع الإسرائيلي وانسجامه. وبالرغم من أنه لم يختص في علم التاريخ فإنه كان يعتبر من بين مجموعة "المؤرخين الجدد" وكان مثقفاً من الذين تناولوا القضايا السياسية والاجتماعية المتعلقة بإسرائيل من خلال مقال أسبوعي ظلّ ينشره في صحيفة "هآرتس" على مدار أعوام، كما نشر مقالات عدة في الشأن العام في موقع "واينت" الإلكتروني التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت".

ونقلت صحيفة "هآرتس" عن زوجة كيمرلينغ قولها إن زوجها "رقد مرات عديدة في المستشفى بسبب مرض عضال، ولكنه قرر أخيراً التوقف عن التنقل بين مستشفى وآخر، وقد قرر الموت في البيت".

الجدير بالذكر أن كيمرلينغ عاش حياته كلها كمُعاق حيث كان يعاني من شلل في الدماغ أصيب به في طفولته، وكان يصعب عليه الكلام، واحتاج إلى كرسي عجلات للتحرّك، لكن هذا لم يمنعه من السفر إلى مؤتمرات علمية في شتّى أنحاء العالم، وعمل قرابة 40 عاماً في الجامعة العبرية.

وقالت "هآرتس" إنه على الرغم من مواقفه النقدية جداً ضد إسرائيل والحركة الصهيونية فإنه كان يعرف نفسه بأنه صهيوني، لكنه من الجهة الأخرى قال إنه لم يشعر أبداً بأنه إسرائيلي بالرغم من أنه هاجر إلى إسرائيل من رومانيا في العام 1952.

نشر كيمرلينغ 9 كتب بينها "نهاية حكم الأشكناز العلمانيين القدامى الاشتراكيين القوميين" وبحث من خلاله في ضعف السيطرة المطلقة التي كانت لهذه المجموعة في إسرائيل. ومن أبرز مؤلفات كيمرلينغ كتاب "الفلسطينيون، صيرورة شعب"- ألفه بالمشاركة مع البروفسور يوئيل مجدال- وأكد فيه أن الفلسطينيين هم شعب عاش في إقليم جغرافي هو فلسطين وضمن حدود معينة حاول الدفاع عنها عبر انتفاضات عديدة منذ مطلع القرن التاسع عشر. وقد صدرت ترجمة عربية لهذين الكتابين عن منشورات المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.

وفي العام 2002 اقترح ناشر بريطاني على كيمرلينغ كتابة سيرة سياسية لحياة رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أريئيل شارون الذي كان في ذلك العام في أوج حكمه، فكتب كيمرلينغ كتابه "بوليتيسايد"، وهو مصطلح يعني الإبادة السياسية، وكان العنوان الثانوي لهذا الكتاب "حرب شارون ضد الفلسطينيين"، ومصطلح "بوليتيسايد" شبيه بمصطلح "جينوسايد" أي الإبادة العرقية.

وما تزال نبوءة كيمرلينغ التي وردت في مقال له بعنوان "حرب ثقافية" نشره في "واينت" قبل 20 عاماً (يوم 7 أيار 2002) تتصادى إلى اليوم، بينما تتقاطع الوقائع المتراكمة منذ ذلك الوقت مع ما تنبّأ به.

يشير كيمرلينغ في ذلك المقال إلى أن ثمة من يقول إن الحرب الحالية ضد الفلسطينيين هي "حرب سلامة المستوطنات" بقيادة أريئيل شارون، لكنها من ناحية عملية أكثر من ذلك بكثير؛ إذ إن الاستيطان في الأراضي المسماة "ييشع" ("يهودا والسامرة وغزة") ليس غاية في حد ذاتها، وإنما هو في منظور الأيديولوجيا الدينية- القومية والأيديولوجيا القومية- العلمانية على حدّ سواء وسيلة ستتشكل في نهايتها مجموعة ذات ثقافة سياسية من المفروض لها أن تستوطن في قلوب جميع اليهود، وأن تحوّل إسرائيل إلى دولة يهودية تُقصي من داخلها كل من، وكل ما هو غير مُعرَّف كـ"يهودي" وفقاً لرؤيتها وفهمها. ومعظم هذه الثقافة ترى في الحرب الدائمة ليس فقط شرّاً لا بدّ منه، وإنما حالة طبيعية، بل وسامية، كما عبَّر عن ذلك مؤخراً الزعيم الجديد للحزب القومي- الديني (المفدال) إيفي إيتام. ولكن، مثلما أن محاولة المصالحة بين اليهود والعرب بشكل عام، ومع الفلسطينيين بشكل خاص، اعتبرت من قبل اليمين في عهد إسحق رابين وإيهود باراك بمثابة حسم في الحرب الثقافية الداخلية في إسرائيل، فإنه يتوجب النظر كذلك إلى سياسة الحكومة الحالية والجيش في السياق الرحب. ربما لم تكن سياسة الحكومة ترمي مسبقاً إلى ذلك، بيد أنها وبالكيفية التي جرت عليها خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيما في أعقاب عملية "السور الواقي" العسكرية، إنما تسعى عملياً لتحقيق حسم استراتيجي مزدوج؛ فالهدف تجاه الخارج هو تدمير البنية السياسية والمؤسسية الفلسطينية، بينما الهدف على صعيد الداخل هو دمار الأسس والمقومات العالمية والإنسانية في المجتمع والثقافة الإسرائيليين.

ووفقاً لكيمرلينغ، تشكّل الحرب، بصورة عامة، مناخاً اجتماعياً مريحاً لإحداث تغييرات اجتماعية تحت غطاء الضرورة الوجودية... وأي صوت أو تفكير انتقاديين يُنحَّيان جانباً بل وينظر لهما في الكثير من الأحيان كخيانة... هكذا بدأت حملة صيد الساحرات ضد كل من لا يتماشى مع النزعات القوموية السائدة بدءاً من الفنانين وصولاً إلى صحيفة ليبرالية مثل "هآرتس"، مروراً بمحاضرين جامعيين يؤيدون تلامذتهم من رافضي الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي لأسباب ضميرية، وبأعضاء الكنيست العرب الذين تجري محاولات لإبعادهم من طريق سنّ القوانين. كما ترتبط بكل هذه الحملة المحاولات الرامية إلى إضعاف مؤسسات لها دور مفتاحيّ في تعزيز الثقافة المدنية، على غرار الجامعات والمحكمة الإسرائيلية العليا وسلطة البث الرسمية. وفي ظل مثل هذا الوضع تنمو كالطحالب أفكار تدعو إلى التطهير العرقي والتطهير الثقافي... وكلما ازداد اليأس، وتداعى الأمن الشخصي، وأصبح "البعبع الديموغرافي" أشد خطراً وتهديداً، نجد أن مثل هذه الأفكار والتخرصات تخرج وتتغلغل من هامش الخطاب إلى مركزه.

كما رأى أن تلك المرحلة من الصراع الذي وصفه بأنه يهودي- فلسطيني أوجدت الظروف للحرب الثقافية المحتدمة في إسرائيل منذ السبعينيات بين "اليمين" و"اليسار". وفي هذا الصراع استطاع اليمين بلوغ ما يتراءى في هذه اللحظة كنقطة تفوّق وحسم... وإذا ما نجح اليمين العلماني والديني بالفعل في إحراز حسم لصالحه (في هذا الصراع) فإن هذا الحسم سيقود أيضاً إلى محاولة للسيطرة مجدداً على كامل مساحة "أرض إسرائيل" وفي الوقت ذاته على الثقافة السياسية (الإسرائيلية). وإذا كان قد خُيِّلَ في العقد الماضي أن المجتمع الإسرائيلي أضحى أكثر انفتاحاً وليبرالية وميلاً نحو التعددية الثقافية، وأقل نزعة عسكرية وقومية، فإنه يمكن القول إن الأمور انقلبت الآن رأساً على عقب وإن إسرائيل تسير في طريق التحول إلى مجتمع فاشي، يتم فيه التضحية بالفرد وبحقوقه الأساسية من أجل أفكار جماعية آثمة يمكن لها أن تقود الدولة والمجتمع إلى أسوأ تهلكة.

وختم كيمرلينغ القول إن مثل هذا الحسم "النهائي" غير ممكن، نظراً إلى استحالة تغيير الواقع الديموغرافي، الإثني والطبقي القائم في إسرائيل والمنطقة. كما أنه يمكن برأيه حلّ السلطة الفلسطينية وتصفية قادتها وسجنهم وطردهم، ولكن لا يمكن خنق مقاومة استمرار الاحتلال، والتطهير العرقي الذي كان ممكناً في عالم العام 1948 غير مُمكن في الوقت الراهن فضلاً عن أنه سيتسبب بدمار أخلاقي وسياسي لمن يرتكبونه وسيؤدي إلى "تحويلنا إلى أمة من مجرمي الحرب".

وكان كيمرلينغ، في سياق مقالة مطولة حول إسرائيل والمسألة الفلسطينية والعربية نشرها في أواسط العام 2005، أحد السبّاقين في التلميح إلى أن هناك موضوعاً واحداً أضحى طاغياً على جدول أعمال معظم الناخبين اليهود الإسرائيليين، ولا سيما عقب فشل محادثات مؤتمر القمة في "كامب ديفيد" العام 2000 وإعلان ألـ "لا شريك" الذي أطلقه إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، وهذا الموضوع هو: كيف يمكن التخلص من المواطنين العرب، أو على الأقل كيف يمكن التخلص من غالبيتهم، وترسيخ "الطابع اليهودي" لإسرائيل؟ وراح يبحث عن جذور طغيان هذا الموضوع/ الهاجس ليس في ما استجد بعد العام 2000 فحسب، بل أيضاً في ثنايا الفكر العنصري الصهيوني منذ أول تجلياته التي غلب عليها كذلك "هاجس" التخلص من العرب الفلسطينيين عموماً. ولدى بلوغه ما حدث في إبان النكبة العام 1948 أشار إلى أنه على الرغم من أن السكان العرب الذين بقوا في إسرائيل حصلوا على مواطنة (جنسية) إسرائيلية وعلى حقوق مواطنة كأفراد، فإنه اشتبه بهم دوماً بعدم الولاء للدولة، وبأنهم طابور خامس أو حصان طروادة. ولغاية العام 1966 كانت المناطق الريفية (القروية) العربية خاضعة إلى الحكم العسكري الإسرائيلي، ولم يسمح حتى العام 1965 بقبول العرب أعضاء في نقابة العمال العامة (الهستدروت)، وكان السبب هو قناعة وإيمان الدولة والسكان اليهود بأن المواطنين العرب يشكلون تهديداً أو خطراً أمنياً على الرغم من أنه لم تتوفر موضوعياً أي إثباتات حقيقية لهذا الادعاء. وبعد إلغاء الحكم العسكري (في العام 1966) ظل المواطنون العرب خاضعين لنظام مراقبة وملاحقة بوليسيّة صارمة، ترافق مع إتباع سياسة مصادرة لمساحات واسعة من الأراضي العربية بمرور الأعوام، وجرى تنفيذها تحت مسميات متعددة منها "تهويد الجليل"، ومثل هذه التعابير ميّزت نظرة الدولة ومؤسساتها إزاء المواطنين العرب في إسرائيل. وفي المظاهرات التي جرت في 30 آذار 1976 ("يوم الأرض") قتل برصاص الشرطة الإسرائيلية ستة مواطنين عرباً، وفي "أحداث" تشرين الأول 2000 (هبة التضامن مع انتفاضة الأقصى والقدس) ذُبِحَ 13 مواطناً عربياً وجُرِحَ المئات (برصاص قوات الشرطة الإسرائيلية). وقد سبق ذلك كله مذبحة كفر قاسم في 29 تشرين الأول 1956، التي قتل فيها 49 شخصاً من أهالي القرية معظمهم من النساء (إحداهن كانت حاملاً) والأطفال على يد وحدة تابعة لشرطة "حرس الحدود" الإسرائيلية، وكما هو معروف اكتفت المحكمة الإسرائيلية بإصدار عقوبات رمزية فقط على الضالعين في ارتكاب المذبحة!

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات