بدأت تظهر على سطح الأحداث السياسية في الأسابيع الأخيرة، ملامح توافق معقول بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وحكومة إسرائيل السادسة والثلاثين برئاسة الثنائي نفتالي بينيت ويائير لبيد، ومع أن رئيس الحكومة بينيت لم يكن قبل شهور قليلة خلت من الشخصيات التي يمكن لأي طرف المراهنة عليها لاستبدال بنيامين نتنياهو، إلا أن ذلك ما حصل في الواقع بحيث صار هذا الشخص عنوانا لمرحلة جديدة في العلاقات الأميركية- الإسرائيلية. فقد تضافرت عوامل وأسباب كثيرة دفعت هذا السياسي اليميني إلى رأس مؤسسة الحكم في إسرائيل، فما كان من بايدن إلا المسارعة إلى تهنئته بحرارة "باسم الشعب الأميركي" مؤكدا حرصه على متانة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى دفع مسيرة السلام والأمن للإسرائيليين والفلسطينيين للأمام، وعلى استمرار التشاور في كل القضايا المتصلة بالأمن الإقليمي بما في ذلك بالملف الإيراني.
تقاطعات في المواقف
تبرز علامات التوافق في تقاطع المواقف الأميركية والإسرائيلية وتقاربها بشأن مختلف الملفات، ومن بينها الالتزام الأميركي الدائم بدعم إسرائيل ودعم أمنها وتفوقها العسكري بالإضافة إلى دعم مسيرة التطبيع. وفي الملفين الخلافيين الرئيسيين، وهما الملف الإيراني الذي تبدو الإدارة الأميركية مصممة فيه على المضي قدما لتوقيع اتفاق جديد بشأن النشاط النووي الإيراني، وملف القضية الفلسطينية الأكثر تعقيدا، يتضح فيه أن إدارة بايدن ليست معنية بالانقلاب على ما قدمه ترامب لإسرائيل، ولكنها قد تعيد النظر في موضوعات أقل إثارة بحيث تجدد للدور الأميركي حيويته وفاعليته من دون أن تصطدم بشكل حاد مع إسرائيل مثل موضوع إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، واستئناف المساعدات المالية للفلسطينيين بما فيها الالتزام تجاه وكالة الغوث، وضرورة استنئاف المفاوضات، وإن كانت التوقعات بشأن نتائج استئنافها ليست عالية لدى أي طرف من الأطراف المعنية.
توقف تقرير (مدار) الاستراتيجي الذي يغطي أحداث العام 2020 أمام الفروق بين إدارتي ترامب وبايدن، ورأى التقرير أنه حتى لو أعلن بايدن نيته عدم المضي في خطى ترامب تجاه الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، فإنه لن يسعى للتراجع عن قرارات ترامب فيما يخص الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، أو إعادة السفارة لتل ابيب، أو سحب الاعتراف بضم الجولان. ولخص التقرير الذي أعده خالد عنبتاوي، أسباب التخوف الإسرائيلي من إدارة بايدن من انه لا يتعلق بسحب الدعم الأميركي لإسرائيل، وإنما من "وقف مسار التماهي بين مواقف الإدارة الأميركية ومواقف اليمين الإسرائيلي"، وبالتالي من وقف مسار الدعم الذي بدأه ترامب لإنهاء القضية الفلسطينية وفرض مخطط الضم وتشريع الاستيطان.
مطالب بدون ضغوط على إسرائيل
وفي الملف الأكثر إشكالية وإثارة وهو موضوع الاستيطان الذي يحتل مكانة مركزية في برنامج وتوجهات رئيس الحكومة نفتالي بينيت وشركائه اليمينيين، اكتفت الإدارة الأميركية بمطالبة إسرائيل بعدم توسيع الاستيطان في الضفة والامتناع عن اتخاذ أية خطوات أحادية الجانب في الأغوار وفي القدس، وهي مطالبات تبقى نظرية وغير مقترنة بفرض أي نوع من الضغوط بحيث يمكن للحكومة الإسرائيلية الحالية التعايش معها بدون الوصول إلى صدام مع إدارة بايدن، تماما كما فعلت كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مع الإدارات الأميركية على امتداد العقود الثلاثة الماضية.
ما زال بينيت قليل الكلام في القضايا الإشكالية والمثيرة، لكن شركاءه في الحكومة يفعلون ذلك، فالتصريحات المتكررة لكل من رئيس الحكومة المناوب ووزير الخارجية يائير لبيد، ووزير الدفاع بيني غانتس الذي صرح مرارا أن على إسرائيل دعم السلطة الفلسطينية وسائر القوى المعتدلة في المنطقة ( وقد وردت هذه الأفكار في تقرير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي الذي صدر مؤخرا وقدم لرئيس الدولة)، تتفق مع تصريحات المسؤولين الأميركيين وبخاصة المبعوث هادي عمرو، وجوهرها "تحريك" الجمود في العملية السياسية، والعمل من المداخل الإنسانية والاقتصادية لتحسين حياة الفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة، ومنع تدهور الأوضاع والحيلولة دون "اشتعال الغابة الجافة"، أما الوصول إلى حل سياسي وتحديدا حل الدولتين، فليس مطروحا على بساط البحث العملي لا من قبل الإدارة الأميركية التي ما زالت مقتنعة به نظريا، دونما أية فرصة واقعية لتجسيده في المدى القريب، ولا من قبل حكومة بينيت - لبيد ولا أي من أطرافها حتى تلك التي تصنف نفسها أنها وسطية ومعتدلة، والتي تؤيد حل الدولتين نظريا ولكنها لا ترى أي إمكانية لتطبيقه، بل تحمل الفلسطينيين مسؤولية فشل وتعطيل جهود التسوية كما يفعل دائما عرّاب هذه الحكومة ومهندس تشكيلها يائير لبيد.
يخصص تقرير معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي المذكور أعلاه مساحة لاقتراح أولويات السياسة الخارجية لإسرائيل والمهام الملحة لهذه السياسة، والتي بموجبها على القيادة الإسرائيلية أن تتعامل مع عالم تتنافس فيه الأقطاب الكبرى والقوى العظمى، وهو ما يفترض التعامل مع جميع هذه الأقطاب وليس مع الولايات المتحدة فقط، كما يلحظ التقرير أن مجيء إدارة بايدن حمل متغيرات مهمة في ما يخص الأجندات الأميركية تجاه العالم كما في القيم والأساليب المتبعة، وأن هذا التغيير سيدفع الإدارة الجديدة إلى العمل على استعادة النظام الليبرالي والتنسيق عبر الأطلسي. كما يقترح التقرير إعادة توثيق العلاقات مع الإدارة الجديدة والحزب الديمقراطي ومع يهود الولايات المتحدة مع الحفاظ على العلاقات الجيدة مع الحزب الجمهوري.
المهم رحيل نتنياهو
فُهم الترحيب الحار بالحكومة الإسرائيلية الجديدة، لدى كثير من المراقبين بأنه تعبير عن احتفاء الإدارة الأميركية الديمقراطية بأفول حكم نتنياهو الذي تميّز عن جميع رؤساء حكومات إسرائيل الذين سبقوه، بأنه الوحيد الذي خرق الأعراف والتقاليد السياسية والدبلوماسية بما في ذلك أعراف العلاقات الخاصة والمميزة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فأعلن انحيازه السافر والصريح للرئيس السابق دونالد ترامب، واصطدم بإدارة الرئيس باراك أوباما، حين كان بايدن نفسه نائبا للرئيس، في محطات متعددة أبرزها الموقف من الاتفاق النووي مع إيران، ولجوء نتنياهو إلى تحريض قوى الضغط الأميركية على الاتفاق، وتمادى في الأمر إلى درجة إلقاء خطاب أمام الكونغرس في آذار 2015 دون أدنى تنسيق مع إدارة الرئيس أوباما.
ومن الوقائع ذات الدلالة الرمزية على الأزمة التي يجدر إيرادها في هذا السياق أن الرئيس بايدن وبعد تنصيبه الرسمي، تأخر في الاتصال بنتنياهو لأكثر من ثلاثة أسابيع، وقد ارجأ هذا الاتصال البروتوكولي إلى ما بعد أكثر من عشرة زعماء آخرين من أصدقاء الولايات المتحدة وخصومها على السواء بمن فيهم رؤساء روسيا والصين والمكسيك، على غير عادة الرؤساء الأميركيين الذين يسارعون فور تنصيبهم للاتصال برئيس الحكومة الإسرائيلية الذي لم يتحمس هو الآخر لتهنئة بايدن في إثر تنصيبه، وتأخر في الأمر أكثر من 12 ساعة على إعلان بايدن حسم النتيجة، خلافا لزعماء الدول الصديقة والمهتمة بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة، بينما سبق نتنياهو في التهنئة وزير الدفاع بيني غانتس. كما تأخرت الإدانة الإسرائيلية لأحداث الشغب والفوضى التي رافقت اقتحام أنصار ترامب للكونغرس الأميركي في الوقت الذي سارع قادة العالم لإدانة هذه الأحداث.
ومهما كانت توقعات الإدارة الأميركية بشأن بقاء حكومة بينيت- لبيد أو فرص انهيارها السريع، وهو أمر يعود بالطبع للتفاعلات والتطورات الداخلية الإسرائيلية، فإن مجرد نجاح هذه الحكومة في امتحان الثقة، حتى لو كان ذلك لفترة وجيزة جدا، يحمل مجموعة من الدلالات المهمة ومن بينها أنه يوجد في إسرائيل بدائل لنتنياهو يمكن التعاطي معها بسلاسة من دون أن تتأثر العلاقات المميزة بين إسرائيل والولايات المتحدة، وأن السياسات الأميركية تحددها القيادة الأميركية بناء على مصالح الولايات المتحدة وحساباتها الكونية وليس بناء على مصالح إسرائيل أو أي طرف آخر، كما أن مرحلة ترامب التي شهدت تماهيا مطلقا بين مواقف الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال تبني ترامب لمواقف اليمين الإسرائيلي الحرفية والتفصيلية، ليست سوى مرحلة استثنائية وعابرة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
قضايا الاحتكاك مؤجلة
لعل من الأسباب التي قد تؤدي إلى قلة الاحتكاك، وبالتالي التعايش والتفاهم بين إدارة بايدن وحكومة بينيت- لبيد، هو أن الاهتمامات الداخلية تقف على رأس أولويات كل من الطرفين، فإدارة بايدن معنية أولا بترميم وإصلاح ما خربه ترامب سواء عبر بث وتعميم أجواء الكراهية والعنصرية التي غذّتها إدارته بين مكونات المجتمع الأميركي، أو في علاقات الولايات المتحدة مع جيرانها وأصدقائها وخصومها. وبالمثل فإن حكومة بينيت- لبيد معنية بالحفاظ على تماسكها ووحدتها أولا، وإصلاح الأضرار التي لحقت بمؤسسات الدولة، والعلاقات بين الحكومة والسلطة القضائية والإعلام وأجهزة الأمن، فضلا عما لحق ببعض القطاعات والشرائح من أضرار بسبب غياب الموازنة العامة، لكل ذلك لا تحتل المبادرات السياسية الخارجية تجاه قضية الشرق الأوسط تحديدا أولوية تذكر لدى الطرفين، ولعل اختيار إدارة بايدن موظفا بمستوى هادي عمرو (نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية، بينما في عهد إدارة أوباما تولى إدارة الملف بنفسه وزير الخارجية جون كيري معززا بفريق من المختصين والخبراء) لمتابعة ملف الشرق الأوسط يدل على تراجع أهمية هذا الملف في نظر الإدارة، حاليا على الأقل. وهكذا لا توجد في الأفق أية دلائل على نية الإدارة الأميركية طرح مبادرات جديدة، أو الانغماس العميق في الملف، ومن المرجح أن يقتصر دور الإدارة على كسر الجمود وتحريك المفاوضات ليس إلا، مع ما يتطلبه ذلك من ضرورات إطفاء الحرائق عند اندلاعها، ونزع الفتائل ما أمكن، كما جرى خلال المواجهات الأخيرة والحرب الرابعة على غزة.
من الطبيعي ألا تتأثر العلاقات الأميركية- الإسرائيلية المتميزة بحالة جفاء بين زعيمي الدولتين اللتين لا تتسم علاقاتهما بأنها علاقات صداقة متينة وتحالف وثيق وحسب، بل يصفها كثيرون بأنها علاقة عضوية تتسم بتشابك المصالح وتداخلها وتكامل الأدوار والعلاقات والدور الوظيفي الخاص الذي تضطلع به إسرائيل في خدمة المصالح الأميركية. كما أنها علاقات تقوم بين مؤسسات الدولتين السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبالتالي فهي تمضي وفق مصالح البلدين العميقة بصرف النظر عمّن يجلس على سدة الحكم. وعلى الرغم من جميع الظروف والتقلبات التي مرت بها العلاقات الأميركية- الإسرائيلية في ظل قيادتي أوباما ونتنياهو، ظلت العلاقات بين مؤسسات الدولتين على حالها بما في ذلك حجم المساعدات المالية والعسكرية وخاصة الأخيرة التي تصل إلى نحو ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار في العام، واستمر التعاون والتشاور في كافة المجالات السياسية والدبلوماسية والأمنية.
فرصة لجسر الهوّة
تميز العلاقات الأميركية- الإسرائيلية وخصوصيتها، لم يمنعا وقوع المشكلات، فقد شهدت هذه العلاقات كما ذكرنا توترات ملحوظة وخاصة بين رئيس الحكومة السابق نتنياهو والحزب الديمقراطي الأميركي، وهو ما امتد بشكل واضح إلى العلاقة مع يهود الولايات المتحدة الذين يميلون في غالبيتهم لتأييد الحزب الديمقراطي حيث يصوت أكثر من 70 في المئة من يهود أميركا لصالح الحزب الديمقراطي ومرشحه للرئاسة وفقا لاستطلاع غلوبس الذي نقله تقرير (مدار) الاستراتيجي للعام 2020. ويميل معظم المراقبين إلى تحميل نتنياهو مسؤولية هذه التوترات التي ظهرت سواء في عهد إدارة أوباما، وخلال الانتخابات الأميركية، كما في الشهور القليلة التي تلت انتخاب بايدن وتنصيبه حتى مجيء حكومة بينيت- لبيد في شهر حزيران الماضي، مع أن أزمة العلاقة مع يهود الولايات المتحدة تعود ايضا إلى أسباب خاصة باليهود أنفسهم واتساع نفوذ التيارات الإصلاحية في صفوفهم في حين أن نتنياهو فضل دائما التحالف مع التيارات الدينية الأرثوذكسية في إسرائيل.
ويرى الجنرال الإسرائيلي المتقاعد عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، أن الزمن الذي كانت واشنطن فيه تؤيد كل ما تفعله إسرائيل، وتفعل كل ما تريده إسرائيل انتهى. وقال خلال مقابلة أجراها معه الصحافي بن كسبيت ونشرتها صحيفة "معاريف" في الرابع من نيسان الماضي، إن الفجوة بين إسرائيل والولايات المتحدة اتسعت بشكل لا سابق له، مشيرا على سبيل المثال إلى أن واشنطن تحت إدارة بايدن تعارض امتلاك إيران لقنبلة نووية، كما تعارض قيادة هذه الدولة لمنطقة الشرق الأوسط، ولن تسمح بازدياد نفوذ "داعش" في المنطقة، ولكنها لن تؤيد فرض عقوبات على المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا كما فعلت إدارة ترامب بناء على تطابق مواقفه مع مواقف اليمين الإسرائيلي.
عاد يادلين نفسه وأكد خلال مقال مشترك مع شيرا رودمان نشره في موقع القناة الثانية عشرة، أن مجيء حكومة برئاسة بينيت- لبيد يمثل فرصة لترميم وإصلاح العلاقات مع الإدارة الأميركية والحزب الديمقراطي كما مع يهود الولايات المتحدة، ويقترح سلسلة من الخطوات التي يمكن لها أن تستوعب التباينات مع الإدارة من خلال العلاقة الوثيقة والاتصالات الدائمة، كما يقترح تشكيل طواقم مهنية متخصصة لتنظيم العلاقة وتطويرها مع يهود أميركا.
كان بنيامين نتنياهو يفاخر بعلاقاته الشخصية المتينة والمميزة مع زعماء العالم، ويحرص على التقاط الصور التذكارية مع هؤلاء الزعماء لتوظيفها في تعزيز شعبيته من خلال تقديم نفسه كرجل دولة يمتلك تأثيرا شخصيا على الزعماء الذين أصبحوا من أصدقائه الشخصيين، ويستثمر ذلك لمصلحة إسرائيل كما جرى في مسلسل التطبيع والاختراقات التي حققها في مختلف مناطق العالم، لكن نتنياهو فشل في كسب ثقة وتعاطف أهم الدول على الإطلاق بالنسبة لإسرائيل وهي الولايات المتحدة بقيادتها الديمقراطية، حيث وضع كل ما لديه ولدى إسرائيل من بيض في سلة الحزب الجمهوري ودونالد ترامب. أما الآن فإن حكومة بينيت- لبيد الهشة والضعيفة وغير المتجانسة تملك فرصة جدية لتحسين وترميم العلاقات مع الإدارة الأميركية، وهذا ما يمكن أن يضاف إلى عناصر قوتها وبقائها بالإضافة للعنصر الأهم المتاح حتى الآن وهو رغبة قطاعات واسعة من الإسرائيليين في التخلص من نتنياهو، ورغبة أطراف الحكومة ومركباتها الثمانية في البقاء أطول فترة ممكنة على الحلبة السياسية.
المصطلحات المستخدمة:
باراك, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, يائير لبيد, نفتالي بينيت