لم تكن الادعاءات التي تناقلتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، سواء عن ألسن محللين أمنيين أو مسؤولين سياسيين إسرائيليين، بشأن "عجز الشرطة" عن مواجهة ومعالجة ووقف ما وصفته بـ "الاضطرابات وأعمال خرق النظام" التي شهدتها القرى والبلدات الفلسطينية في داخل إسرائيل، وفي مقدمتها المدن التي تسمى "مدناً مختلطة" وقد أصبح اليهود يشكلون فيها أغلبية السكان في أعقاب النكبة الفلسطينية - لم تكن تلك الادعاءات سوى ذر للرماد في العيون ضمن مسعى تعتيميّ على قرار الشرطة الواضح، والمتجسد بصورة لا يشوبها أي غموض في ممارساتها الميدانية التي ألقت الحبل على غاربه لقطعان المستوطنين المنقولين، في سفريات منظمة، من الضفة الغربية إلى داخل المدن الإسرائيلية ليعيثوا فيها اعتداءً وتخريباً ضد المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم، تحت أبصار الشرطة وأسماعها دون أن تبذل الحد الأدنى من محاولة ردعهم، منعهم أو الحؤول دون تنفيذ اعتداءاتهم الإجرامية.
فالحقيقة، التي اضطر بعض الصحافيين الإسرائيليين إلى إشهارها على نحو متأخر في الأيام القليلة الماضية، هي أن الشرطة الإسرائيلية لم تبدِ أي عجز في سياق الأحداث الأخيرة التي شهدتها المدن والقرى العربية المختلفة ـ فهي (مدعومة بوحدات "حرس الحدود" التي تم استقدامها من مناطق الضفة الغربية) لم تعجز عن قمع هبّة الفلسطينيين التضامنية مع القدس والأقصى والشيخ جراح وقطاع غزة، بكل ما أوتيت من وسائل القمع والإرهاب، سواء بالاعتداء على المتظاهرين العرب وتفريقهم بالقوة وسط استخدام مفرط للعنف بحقهم أو بالاعتقالات التعسفية الواسعة التي طالت المئات من الشبان والصبايا الفلسطينيين، من جهة، ولا هي عجزت عن توفير غطاء الدعم والحماية لقطعان المستوطنين وسوائب العنصريين الذين انفلتوا يعتدون على الفلسطينيين وبيوتهم وممتلكاتهم، سواء بغض الطرف عنهم وعن ممارساتهم أو بالتحرك الفعلي لحمايتهم، من جهة أخرى.
كان واضحاً تماماً أن الشرطة غير عاجزة، إطلاقاً، بل تستطيع أن تنهض بكامل المهام الملقاة على عاتقها ميدانياً، تبعاً للقرار السياسي الذي يحدد هذه المهام ويوجهها: قمع وحشي واعتداءات إرهابية واعتقالات ترهيبية ضد الفلسطينيين ومظاهراتهم ومسيراتهم ونشاطاتهم الاحتجاجية التضامنية، في الجانب الأول، وعدم الاكتفاء بالتزام الصمت و"الحياد" حيال قطعان المستوطنين والعنصريين اليهود وإفساح المجال لهم لتنفيذ اعتداءاتهم على المواطنين الفلسطينيين وبيوتهم وممتلكاتهم، بل توفير الحماية الفعلية لهم، في الجانب الآخر.
لكنّ هذه الادعاءات استُخدِمت على ألسن بعض المسؤولين الرسميين في إسرائيل للتغطية على موقف الشرطة الإسرائيلية وتوجهاتها المبدئية وممارساتها الميدانية كما أوضحناها أعلاه من خلال ادعاء "عجزها" عن مواجهة الوضع الناشئ ومعالجته، فيما يشكل تبرئة تامة لها من كل ما اقترفته، على الصعيدين المذكورين. وإمعاناً في تبرئة الشرطة من خلال هذا الاستغلال لهذا الادعاء (الخاص بالعجز المزعوم)، طُرحت أيضاً فكرة استقدام وحدات من الجيش الإسرائيلي إلى داخل المدن "المختلطة"، وفي مقدمتها مدينة اللد، لتسدّ الفراغ وتعوّض عن "العجز الشُّرَطيّ" المزعوم.
فقد أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، خلال الجلسة الطارئة التي عقدها المجلس الوزاري المقلص (الكابينيت)، مساء الأربعاء 12 أيار، أن "الشرطة فقدت السيطرة على مجريات الأحداث"، ولذلك فهو "يعمل على الدفع بتشريع قانوني خاص يمكّن من استخدام جنود الجيش الإسرائيلي لتقديم العون للشرطة في حالات الضرورة القصوى، كتلك التي نشهدها في الأيام الأخيرة، وخصوصاً في مدينة اللد"، مضيفاً أن "جنود الجيش الذين سيتم استجلابهم لهذا الغرض سيحصلون على التأهيل الخاص والمناسب كي يكونوا قادرين على تنفيذ هذه المهمة".
إلا أن "رئيس الحكومة البديل" ووزير الدفاع، بيني غانتس، رفض هذا "الحل" معلناً، خلال الجلسة نفسها، أنه "يعارض، بالمطلق، إدخال جنود الجيش إلى المدن الإسرائيلية وشوارعها". وأوضح: "هذه ليست وظيفة الجنود. لهذه المهمة هنالك الشرطة وحرس الحدود". وهو الموقف ذاته الذي تبناه غانتس أيضاً في قضية "فرض الإغلاق إبان جائحة كورونا"، إذ أصرّ على إلغاء قرار كانت الحكومة قد اتخذته آنذاك وقضى بـ"إعارة مئات من جنود الجيش للشرطة الإسرائيلية لمساعدتها في فرض الإغلاق في الشوارع". فقد عارض غانتس "إقحام" الجنود في فرض الإغلاق.
رغم ذلك، واصل نتنياهو طرح فكرة هذا التشريع القانوني الخاص وأجرى حولها سلسلة من المشاورات وانضم إليه في توجهه هذا ثلاثة وزراء آخرون (اثنان من الليكود هما: أوفير أكونيس وغيلا غمليئيل، ووزيرة من حزب غانتس نفسه، "مناعة لإسرائيل"، هي بنينا تمنو شاتا). غير أن نتنياهو اضطر إلى التراجع عن مسعاه هذه بعد أن تأكد له أن ثمة إشكاليات قانونية جدية تعترض هذا المسعى وتحول دون التقدم في هذا المسار.
"خطر" الصدام المباشر بين الجيش والمواطنين
في موازاة هذه المشاورات الرسمية التي أجراها رئيس الحكومة مع الجهات الرسمية المختصة حول إمكانية تشريع قانون خاص يتيح إدخال وحدات من الجيش الإسرائيلي إلى داخل المدن والبلدات الإسرائيلية ونشرها في شوارعها "في حالات الطوارئ الضرورية"، أعدّت مجموعة من الباحثين في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" ورقة خاصة تضمنت رأياً استشارياً مهنياً حول الموضوع، قدّمته في رسالة خاصة إلى كل من رئيس الحكومة، نتنياهو، ورئيس الحكومة البديل وزير الدفاع، غانتس، ووجهت نسخاً عنها إلى كل من وزير الأمن الداخلي، أمير أوحانا، المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، ورئيسة لجنة الأمن والخارجية التابعة للكنيست، عضو الكنيست أورنا بربيباي؛ وقد نشرها "المعهد" يوم 16 أيار الجاري تحت عنوان "تكليف قوات الجيش الإسرائيلي بالتصدي لأعمال خرق النظام في المدن المختلطة ـ بأقصى درجات الحذر"، وخلصت في توصيتها الأخيرة إلى التأكيد على ضرورة "بذل كل الجهود من أجل تجنب إقحام قوات الجيش الإسرائيلي في مهمات تطبيق القانون، والتي من شأنها وضع هذه القوات في مواجهة مباشرة مع مواطنين إسرائيليين. وإذا ما كان هذا الخيار هو المخرج الوحيد المتاح، فمن الضروري اتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها تقليل المخاطر الجدية المتوقعة من خطوة كهذه".
يستهل الباحثون البروفسور عميحاي كوهين، د. عيديت شفرن جيتلمان والعميد (احتياط) المحامي ليرون ليبمان، من "مركز الأمن القومي والديمقراطية" في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، رأيهم الاستشاري هذا بالتأكيد على أن "أحداث الأيام الأخيرة في اللد، في عكا، في بات يام وفي مدن أخرى توجب اتخاذ خطوات عملية حازمة بغية إعادة النظام إلى نصابه وتجنب تعريض سلامة الجمهور وأمن الممتلكات والأرواح إلى الخطر". لكن، إلى جانب هذه الضرورة الموجبة لهذه الخطوات، يشدد الباحثون على أنه "يجدر بذل أي مجهود من أجل تجنب إدخال قوات الجيش الإسرائيلي إلى دائرة العمل في مجال فرض القانون وتطبيقه، الأمر الذي قد يضعهم في صدام مباشر مع مواطنين إسرائيليين". لهذا، بالذات، وإن كان هذا هو المخرج الوحيد، فمن الضروري اتخاذ إجراءات عملية لتقليص الخطر الجدي الكامن في هذه الخطوة والمتوقع أن يترتب عليها، سواء على أنظمة الحكم الديمقراطية السليمة، على المكانة الرسمية للجيش وثقة الجمهور به، أو على مستقبل العلاقات بين اليهود والعرب مواطني إسرائيل.
تعيد رسالة الباحثين التذكير بعدد من "المبادئ الأساسية"، كما تصفها، ومنها: 1. أن الجيش الإسرائيلي، وفق ما نص عليه "قانون أساس: الجيش"، هو "جيش الدولة ومكلّف بالدفاع عنها وبتحقيق أهدافها الأمنية ـ القومية"، بينما الشرطة الإسرائيلية مكلّفة بمنع مخالفات وانتهاكات القوانين، إلقاء القبض على المخالِفين وتقديمهم إلى المحاكمات، كما أنها مكلّفة بالمحافظة على النظام العام وأمن الأرواح والممتلكات، كما يتضح من نص "أمر الشرطة" من العام 1971. معنى هذا أن الجيش مسؤول، "على مدار أيام السنة كلها وفي هذا الأيام بشكل خاص، حيث تدور معركة ضد حماس والتنظيمات الإرهابية الأخرى في قطاع غزة"، عن حماية إسرائيل من الأعداء الخارجيين، بينما الشرطة "مسؤولة عن ضمان أمن الأرواح والممتلكات والنظام العام في داخل المدن والبلدات الإسرائيلية"؛ 2. المسألة هنا ليست مسألة توزيع مسؤوليات بالمفهوم القانوني الرسمي، وإنما هي الاختلاف في الوظائف والمهمات والذي تجسد، فيما تجسد، في اختلاف المبنى التنظيمي لكل منهما، اختلاف شكل وحجم الرقابة على كل منهما، والأهم: الاختلاف في طرق ووسائل تأهيل كوادر كل منهما وتدريبها، كما في تجربة الذين يخدمون في كل منهما. فالجيش مُعدّ لهزم العدو وحسم المعرك بتحقيق الانتصار، ولذلك يجد الجنود، لا سيما الشبان في الخدمة الإلزامية، صعوبة بالغة في فهم وتذويت طريقة أخرى للعمل وتأدية المهمات ـ طريقة بوليسية تستلزم العمل بصورة محسوبة وتناسبية في بيئة مدنية معقدة ليس فيها ثمة "عدوّ" ينبغي هزمه؛ 3. إذا ما وجدت الشرطة في مواجهة التحديات التي في نطاق مسؤولياتها في هذه الأيام، فمن الأجدر بداية استنفاد إمكانية تقديم الدعم لها في تركيز الجهود في المدن التي تحتاج إلى التواجد الكثيف فيها بغية إعادة النظام والهدوء إلى نصابهما. أما استبدال وحدات "حرس الحدود" العاملة في الضفة الغربية عادةً بوحدات من الجيش كي تستطيع وحدات "حرس الحدود" تعزيز قوات الشرطة في المدن الإسرائيلية فهو خطوة صحيحة، استُخدمت في السابق بنجاح؛ 4. تجنيد قوات الجيش من أجل حفظ الهدوء في داخل دولة إسرائيل قد يعود بضرر كبير على الجيش نفسه، أيضاً. فقدرة الجيش على العمل ضد أعداء إسرائيل منوطة بثقة الجمهور بمكانة الجيش، الرسمية، وبمهنية الاعتبارات التي يتصرف بهديها. أما إقحامه في مهمات شُرطيّة في داخل إسرائيل، فمن شأنه أن يضعه في صدام مباشر مع مواطنين إسرائيليين، الأمر الذي سيُضعف ثقة الجمهور به وسيزّج به في أتون الخلافات والصراعات السياسية ـ الحزبية؛ 5. فوق هذا كله، ينبغي النظر إلى احتمال اندلاع مواجهات عنيفة بين قوات الجيش ومواطنين إسرائيليين في داخل دولة إسرائيل، الأمر الذي سيزعزع مكانة الجيش باعتباره "جيش الشعب" وسيضع علامات استفهام كبيرة على قضية تأدية الخدمة الإلزامية في صفوفه.
أما إذا كان "لا بد من الاستعانة بالجيش" لدعم الشرطة في تأدية مهامها في داخل المدن الإسرائيلية، بعد فشل تحقيق هذا الهدف من خلال رفدها بوحدات "حرس الحدود"، فعندئذ ينبغي الحرص على تقليل احتمالات وفرص الاحتكاك بين الجيش والمواطنين إلى الحد الأدنى، بما يترتب على ذلك من مخاطر جسيمة، وطبقاً للمرجعيات القانونية التي تحدد شكل هذه "المساعدة" وحجمها. فلدى الإعلان عن "حالة طوارئ" مدنية في مدينة إسرائيلية (كما حصل في مدينة اللد مؤخراً، على سبيل المثال)، تستطيع الشرطة، بموجب ما ينص عليه "أمر الشرطة"، الاستعانة بقوات من الجيش، بالطريقة والوسائل التي يحددها وزير الأمن الداخلي أو الحكومة، حيث تكون قوات الجيش تلك تحت قيادة الشرطة وإمرتها، بحكم معرفتها وتجربتها في مجال العمل الشرطيّ عموماً. معنى هذا أن الصلاحيات الاستثنائية التي يخولها القانون في حالة الطوارئ المدنية تبقى محصورة بين يدي القائد العام للشرطة، ضباطها وأفرادها، بصورة حصرية.
في هذا السياق، وكما حصل في تجربة الاستعانة بالجيش في مكافحة جائحة كورونا، مؤخراً، تؤكد رسالة باحثي "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" على ضرورة أن تُناط بقوات الجيش مهمات الدعم والإسناد فقط، من دون العمل الفعلي المباشر في مجال إنفاذ القوانين وتطبيقها بين المواطنين.
فيما يتعلق بنوعية قوات الجيش التي سيتم اختيارها لتقديم العون والمساعدة للشرطة، يقول الباحثون إنه من المفضل استجلاب قوات لديها تأهيل ما، ولو في الحد الأدنى، في كل ما يتعلق بالاتصال المباشر مع المدنيين، مثل وحدات الجبهة الداخلية ووحدات الشرطة العسكرية. ذلك أن هذه الوحدات تستطيع مساعدة الشرطة أيضاً في حفظ الأمن المروري وسلامة المواطنين لدى تنقلهم في الشوارع. وفي كل الأحوال ـ ينوه الباحثون ـ ينبغي ضمان إعداد وتأهيل أفراد قوات الجيش التي تشارك في تأدية المهمات الشرَطيّة، مسبقاً وبصورة مهنية.
في نهاية رأيهم الاستشاري هذا، يشدد باحثو "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" على ضرورة عدم التغاضي عن واقع التوتر السائد في العديد من البلدات الإسرائيلية، وخصوصاً في "المدن المختلطة" والصدوع الاجتماعية الآخذة في التعمق في المجتمع الإسرائيلي عموماً، كما يشددون أيضاً على ضرورة عدم إغفال الدلالات الرمزية لوضع قوات من الجيش الإسرائيلي في قلب أحياء عربية وبين المواطنين العرب، بكل ما يحمله الأمر من تعميق لمشاعر انعدام المساواة، إعادة الحكم العسكري الذي رُفع عن الفلسطينيين مواطني إسرائيل في العام 1966 وما يعيده هذا الحال من الشعور بأن الدولة لا تزال تعتبرهم "أعداء" ينبغي استخدام الجيش في التعامل معهم والعمل ضدهم.
وينهي الباحثون الثلاثة رأيهم الاستشاري في رسالتهم إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع بالقول: "نتمنى أن تنتهي هذه الأزمة الحالية قريباً ولكن، مع ذلك، يحتاج ترميم الوضع وتضميد الجراح التي نجمت عنه إلى عمل شاق ولا يجوز تعقيد الأمور أكثر. هذا يتطلب تكليف جنود الجيش الإسرائيلي بمهمات بين السكان اليهود وتجنب، قدر الإمكان، وضعهم في مواجهة المواطنين العرب في إسرائيل. حيال مشاهد العنف الصعبة والمقلقة التي شهدتها العديد من المدن الإسرائيلية، من الطبيعي أن يطلب الجمهور من حكومته اللجوء إلى إجراءات عملية حازمة. وعلى الرغم من أن إدخال الجيش إلى المدن الإسرائيلية قد يبدو "خطوة دراماتيكية" تبث إلى الجمهور رسالة مفادها أن القيادة السياسية تقوم بما يتعين عليها القيام به، فعلاً، إلا أن القيادة الحقيقية تقاس بمدى قدرتها على الصمود في وجه كل الأمزجة الشعبية الحادة والعابرة، من خلال فحص الأمور بتمعن وروية وبهدي مبادئ أساسية تحتمها الإدارة السليمة، الاعتبارات المهنية والموضوعية وضرورة تجنب التسبب بأضرار إضافية لنسيج الحياة المشتركة في دولة إسرائيل".
المصطلحات المستخدمة:
حرس الحدود, المستشار القانوني للحكومة, اللد, بات يام, جيش الشعب, لجنة الأمن, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو