أعاد قرار وزير التربية والتعليم الإسرائيلي يوآف غالانت بعدم السماح بمنح "جائزة إسرائيل للعام 2021" للبروفسور ذائع الصيت في علوم الحاسوب والرياضيات، والباحث في معهد وايزمان للعلوم، عوديد غولدرايخ، إثارة الجدل في الأوساط الأكاديمية والإعلامية حول المعايير الواجب توفرها في من يحق له تلقي الجائزة، او بالأحرى ما المعيار الحاسم الذي يمنع شخصا ما من تلقي هذه الجائزة التي تعتبر الأهم والأكثر قيمة من بين كافة الجوائز في إسرائيل، وهو نقاش يعكس في جوهره الميل المتزايد نحو اليمين ذي النزعة الفاشية الذي تغلغل في مفاصل الدولة، ويرى نفسه وقيمه على أنها التعبير الحصري والأمثل عن حالة "الإجماع" والخط السياسي السليم والوفي لقيم الصهيونية.
جائزة اللون الواحد
"جائزة إسرائيل" هي أرفع جائزة تقدمها الحكومة الإسرائيلية في مجالات متنوعة علمية وأدبية وفنية وبحثية بالتزامن مع موعد إعلان الاستقلال، وقد أطلقت لأول مرة في العام 1953 من قبل وزير التعليم بن تسيون دينور، الذي أصبح بعد خمسة أعوام أحد الحاصلين عليها، والذي لم يجتهد فقط في ابتداع الفكرة، بل شدد على توقيتها وأن يتزامن مع قيام إسرائيل، وأن تقدم من قبل قادة الدولة أنفسهم.
لم يترك الوزير دينور، في تلك المرحلة المبكرة من عمر دولة الاحتلال، مسألة المعايير الواجب توفرها في الشخص الذي يفترض أن يستحق الجائزة معلقة أو مفتوحة، ولا اكتفى بالدلالات الرمزية المتمثلة في الذكرى وارتباطها (بقيام الدولة)، بل شدّد على أنها جاءت "لتؤكد العلاقة بين (استقلال الدولة) والمعاني والقيم المستمدة من هذا الاستقلال" وأنها حكر على الإسرائيليين "المواطنين المجنسين المقيمين في إسرائيل" وهي معايير لا تحتمل الاجتهاد والتأويل في حقيقة هوية النموذج أو الرمز المثال الذي يراد له أن يطبع في ذهن الجمهور، ويشكل له الحالة الملهمة الأجدر بالتماهي، لكنها تقبل بل وتستدعي التشدد والمغالاة في بقية صفات ومواقف هذه الشخصية وذلك وفق الفترة التاريخية والتيار السائد.
هذا التشدد في انتقاء النماذج المُراد لها أن تعمم، إنما يعكس بشكل عميق طبيعة فكر وتوجهات النخب التي هيمنت في الحقب التاريخية المختلفة، بعيدا عن الادعاءات والشعارات بحيث يمكن الاستدلال على ذلك ببساطة عند معرفة أن من بين 620 فائزا بالجائزة منذ تأسيسها حتى العام 2005 فازت 90 امرأة فقط، وحتى العام 2008 فاز عشرة يهود من أصول شرقية في مجال الآداب من بين 158 فائزا، وحتى 2011 حصلت ست شخصيات عربية من فلسطينيي الداخل على الجائزة بينما هم يمثلون في حينها ما يقرب من 18% من سكان الدولة، وهي أرقام دفعت الناقد والمحرر الصحافي بيني تسيبر إلى التساؤل في العام 2007 إن كان "من المعقول أن لا يتم إيجاد من بين 15 فئة مرشحة لنيل الجائزة مكان واحد لمرشح غير أشكنازي".
تعززت هذه المعايير الصارمة والربط الأوتوماتيكي بين الدولة وقيمها وفق تعريف الفئة السائدة، وما بين المرشحين للحصول على الجائزة عبر السنين وأصبحت أكثر وضوحا وصلة ليس بالانتماء الإثني أو العرقي والجنس فقط، بل طالت الأفكار والمواقف السياسية، كما عبر عن ذلك الكاتب حاييم شاين في صحيفة "يسرائيل هيوم" على ضوء الجدل حول ترشيح لجنة الجائزة للبروفسور غولدرايخ، حين اعتبر أن الجائزة "تعبير عن تقدير رسمي لشخصيات نموذجية" بالمفهوم الأيديولوجي والسياسي، وليست تلك المتميزة في مجالها البحثي أو الأكاديمي بالضرورة، لأن "التميز العلمي ليس هو المعيار، ومهما كان العالم موهوبا فإن توقيعه على عريضة تطالب بمقاطعة إسرائيل أكاديميا" يعد سببا كافيا لحرمانه من الجائزة.
عبّر عن هذا الموقف الحدي والحاسم والذي يضع الأفكار والمواقف السياسية المتماهية مع أفكار المؤسسة الحاكمة وتوجهاتها كمعيار أساس في اختيار المرشحين للجائزة الوزير غالانت بوضوح، ليس في قراره بحرمان البروفسور غولدرايخ من الجائزة فقط، بل بمنشور خاص نشره على صفحته على الفيسبوك قال فيه إن "من لا يفتخر بإسرائيل ولا يعتبر قوانينها شيئا ثمينا لا يستحق الجائزة" مضيفا أن البروفسور غولدرايخ "بصق في وجه الدولة" عندما قرر أن يدعم بشكل غير مباشر الحركات الداعية لمقاطعة إسرائيل، وهو الأمر الذي أثار حفيظة مؤسسات مهمة مثل رؤساء الجامعات الذين خاطبوا الوزير غالانت معتبرين أن "عدم منح شخص ما جائزة إسرائيل بسبب آرائه السياسية يشكل مساً عميقاً وخطيراً بحرية التعبير وبحرية التفكير. وأن "مَن يسير في التلم" فقط هو الذي يستحق المكافأة والتقدير، بينما يكون العقاب من نصيب كل مَن يجرؤ على التعبير عن رأي سياسي يقع خارج نطاق الإجماع".
وكل من انتظر أن تقوم المحكمة العليا بإعادة الاعتبار للجائزة الأهم في إسرائيل وأن تنزهها عن السياسة ومحاكم الأفكار والتخوين بسبب المواقف النقدية، وأن تبقيها بعيدة عن حالة التحريض التي يمارسها اليمين ضد كل من يعارضه، خاب أمله سريعا. فبعد اعتراض وزير التعليم على ترشيح غولدرايخ تقدمت لجنة الجائزة المكونة من قضاة مستقلين بالتماس إلى المحكمة العليا من أجل البت في صلاحية الوزير التدخل في قرارها، ومنع أسماء ترشحها من نيل الجائزة، ذلك أن التقاليد جرت أن تتم المصادقة بشكل أوتوماتيكي على الأسماء التي تقدمها. قرار المحكمة جاء فيه أنه "لا يحق للعالم نيل الجائزة" وأن من صلاحية الوزير التدخل، وهو ما اعتبر شرعنة للتدخل في أفكار ومواقف الإسرائيليين وحصر الجائزة على الموالين لحكم اليمين.
عقّب المحامي ميخائيل سفراد، الذي ترافع عن لجنة الجائزة ومثل البروفسور غولدرايخ، على القرار لموقع واينت لحظة صدوره فوصف خطوة وزير التعليم والمستشار القانوني للحكومة بأنها "مكارثية" تهدف إلى منع أصحاب الموقف المعارض للاحتلال وسرقة الأراضي والأبارتهايد من الحصول على الجائزة، وهو ما يعني "إقصاء معسكر سياسي كامل" عن الجائزة وتحويلها الى "جائزة لليمينيين فقط".
استياء مكبوت
على الرغم من عملية الإقصاء العلنية وغير المستترة لأصحاب الموقف النقدي الرافض للاحتلال من قبل الجهات الرسمية المشرفة على جائزة إسرائيل، لم نجد رد فعل قويا وضجة في الأوساط الأكاديمية والنخب المثقفة إزاء هذا الاستخدام المفضوح للجائزة.
عبّر الكاتب ديفيد شفربار عن تخوفه من هذا الصمت وغياب ردة الفعل القوية في مقال رأي نشره على موقع "عيرف راف" بتاريخ 19 نيسان مستذكرا الفيلسوف يشعياهو ليبوفيتش والضجة التي أثارها ترشيحه للجائزة وكيف واجه المصير نفسه وهو ما دفعه للتنازل عنها وإطلاق مقولته الشهيرة بأنه "يتنازل عن الجائزة كي يوفر على نفسه قرف مصافحة وغدين رئيسيين هما رئيس الحكومة ووزير التعليم".
قلق شفربار نابع من انصياع الفائزين الآخرين الذين "جلسوا بصمت وصافحوا دون احتجاج" اليد التي عاقبت زميلهم، معتبرا أن الاحتجاج "مهما كان هشا" مهم وله دور لأنه يقوض فكرة المسلمات والمفهوم ضمنا ويهز "خطاب الهيمنة" ولأن هذا هو المتوقع من الأكاديميين ورجال الثقافة "القادرين على صياغة موقف مختلف".
يرى شفربار أن انعدام الاحتجاج وخاصة من قبل المؤسسات الأكاديمية يقدم دلالة إضافية على أن دور "عالم الأكاديميا آخذ في التقلص والانغلاق بعد قتل روح المعارضة إزاء كل رأي مختلف وأصلي".
حتى موقف رؤساء الجامعات الذين بعثوا برسالة لوزير التعليم نشروها في وسائل الإعلام ظهر ضعيفا وهشا وقصيرا جدا، وهو لا يختلف عن موقف المجمع الإسرائيلي القومي للعلوم والآداب الذي نُشر على شكل بيان في الرابع عشر من نيسان وعبّر عن القلق والأسف جراء "خلط السياسة في القرارات التي لها صلة بالجائزة وهو ما يمس بمكانتها" وفق تعبيرهم.
وزير التعليم الحالي في حكومة نتنياهو وعضو الكنيست عن حزب الليكود غالانت هو في الأصل جنرال سابق شغل موقع قائد الجبهة الجنوبية وخدم في وحدات مختارة وشارك في عمليات اغتيال خارج حدود إسرائيل أشهرها عملية اغتيال القيادي في حركة فتح ومسؤول أمنها الداخلي علي حسن سلامة، وهو يعتبر التجسيد العملي للنهج الإقصائي والعسكرتاري في التعامل مع الآراء المعارضة. وقف غالانت وبيده السلطة ومن فوق رأسه هالة الإجماع اليميني وحالة التحشيد، في وجه الأكاديمي اللامع صاحب الرأي النقدي والذي تحلى بشجاعة مطالبة البرلمان الألماني بالتراجع عن اعتبار حركات المقاطعة على أنها حركات لا سامية ووقع على عريضة تطالب بمقاطعة جامعة أريئيل المقامة على أراض محتلة وفق القانون الدولي.
سخر موقع "سيحاه مكوميت" اليساري من جهل غالانت وطريقته العنيفة في مواجهة غولدرايخ، وتساءل في مقالة نشرت في الحادي عشر من نيسان: "ماذا كان سيكون موقف غالانت من عالم مثل أينشتاين؟ وهل كان سيحرمه من الجائزة بسبب آرائه التي اعتبر فيها بيغن إرهابيا وعبر فيها عن عدم رضاه وعن اللا حاجة لقيام دولة يهودية؟"
اعتبر الموقع أن غالانت هو تجسيد حي لثقافة "عبادة القوة وتمجيد العنف التي رعتها الدولة".
عودة الى الأصل
يعد إقصاء البروفسور غولدرايخ وحرمانه من جائزة إسرائيل عمليا نوعا من الوفاء لفكرة الجائزة وعودة إلى فكرتها الأساسية التي أنشئت من أجلها، وهي خطوة تزيل الغشاء الرقيق من التضليل الذي حاول أن يصورها على أنها جائزة أكاديمية علمية تمنح للمتفوقين.
الأصل من وراء فكرة الجائزة أنها تمنح من المؤسسة الحاكمة لمن يتماهى مع خطها العام ويبرر وجودها وممارستها، ولا مكان لأي شخص مهما بلغت عبقريته وإنجازاته أن ينالها طالما أنه يقف على يسار المؤسسة.
إنها جائزة حصرية تأتي في ذكرى خاصة وتقدم من قبل رؤساء المؤسسة للمواطنين الذين يعتزون بها ويتماهون مع قيمها وممارساتها، وهذا التعريف بالذات هو الذي شجع البروفسور عوديد مودريك على أن ينشر مقال رأي في صحيفة "غلوبس" الاقتصادية في 1 نيسان وقبل قرار المحكمة لا يعبر فيه عن تأييده لقرار حجب الجائزة عن البروفسور غولدرايخ، بل واستهجانه من "إقدام الدولة على منح الجائزة الأكثر احتراما لشخص يحقرها من خلال دعمه غير المباشر لحركات تدعو لمقاطعتها اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا" معتبرا أن مثل هذه الخطوة "لا تعتبر عملية كم أفواه" أو انتقاصا من الحقوق المدنية للمرشح، كونه سلوكا طبيعيا ومفهوما ضمنا ومنسجما مع روح وفكرة الجائزة والغاية الرئيسة منها.