لا يتطلّب الأمر أكثر من يومٍ واحد من العيش هنا لكي نحسّ ونفهم أنّ هذا المكان الذي هو وطني مصمّم طوال الوقت لأجل جماعة واحدة من البشر هم اليهود بينما نصف البشر الذين يعيشون هنا بين النهر والبحر فلسطينيّون. الهوّة السحيقة بين أحوال حياة هاتين الجماعتين - تلك التي أقيم المشروع لأجلها وتلك التي تُسحق لكي ينجح المشروع - حاضرة في كلّ مكان على هذه الأرض، تملأ الأجواء وتنزف.
لا أقصد هنا فقط التجليّات الرسميّة التي تمسّ جذر المسألة - وهذه منها الكثير، مثال تصريح رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أنّ "إسرائيل ليست دولة جميع مواطنيها" أو قانون أساس القوميّة الذي ينصّ على أنّ "الدولة تعتبر تطوير الاستيطان اليهوديّ قيمة قوميّة". أحاول هنا التدليل على الإحساس العميق بشأن من المرغوب فيه هُنا ومن لا يُرغب في وجوده وأن أصف ما تنبّهت إليه واستبطنته تدريجيّاً منذ طفولتي في حيفا، وأن أفصّل معالم صورة أخذت تتّضح تدريجيّاً.
نحن نحيا هنا مجموعتين متساويتين تقريباً في العدد، فلسطينيّين ويهود، لكنّ حياتنا منظّمة بحيث أنّ معظم القوّة السياسيّة وموارد الأرض والحقوق والخيارات في يد نصفنا فقط. ليس من السّهل إدارة وضع تُسلب فيه الحقوق بهذا الشكل الجارف ولكنّ الأصعب من ذلك تسويق هذا الوضع على أنّه ديمقراطيّة (داخل الخطّ الأخضر) وفي جوارها احتلال مؤقت (وراء الخط الأخضر). إلّا أنّ النجاح الدعائي شيء والحقائق شيء آخر: لا يوجد هنا نظامان منفصلان وإنّما نظام واحد يسيطر على الأرض كلّها ويحكم السكّان كلّهم من النهر إلى البحر، نظام يعمل وفق مبدأ ناظم واحد قوامه تحقيق وإدامة تفوّق جماعة (نحن / اليهود) على جماعة أخرى (هُم / الفلسطينيّون) - إنّه أبارتهايد.
الدّرس الأساس الذي تعلّمته إسرائيل من كيفيّة انتهاء نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا هو أن تتجنّب قدْر الإمكان تجلّي الحقيقة بشكل صارخ بالغ الوضوح لأنّ ذلك قد يجلب عليها أحكاماً أخلاقيّة بل قد يعرّضها ’لا سمَح الله‘ لدفع الثمن. لذلك فضّل النظام الإسرائيليّ أن يشكّل الواقع متدرّجاً في سيرورة تراكميّة من فرض الوقائع على الأرض وفي الوقت نفسه التشدّق بتصريحات وأقوال تُرضي المعايير الدوليّة. إلى ما قبل سنّ قانون أساس القوميّة وتصريحات الضمّ الرسميّ - وهي تطوّرات طرأت خلال السّنتين الأخيرتين - تمكّنت إسرائيل من التستّر على حقيقتها بنجاح نسبيّ إذ خلافاً للأبارتهايد في جنوب أفريقيا تجنّب النظام هنا الكشف عن بعض عَوْراته. نعم، تُسمع هنا عبارات صريحة مؤنّقة مثال "الحفاظ على الطّابع اليهوديّ" ولكن لا تُرى مقاعد كُتب عليها "للبيض فقط".
بهذا الشكل أو ذاك يبقى الجوهر واحداً: نظام يعمل على تحقيق وإدامة تفوّق جماعة على جماعة أخرى. حقيقة أنّ التمييز في إسرائيل لا يحدث وفق لون البشرة وإنّما وفق الانتماء الإثني - القوميّ لا تغيّر شيئاً ولا تنتقص من هذا الجوهر. لو قلبتم الأرض هنا حجراً حجراً لن تجدوا حتى سنتيمتراً مربّعاً واحداً يعيش فوقه اليهودي والفلسطينيّ متساويين. المكانة الأعلى (صنف أ) محفوظة لليهود فقط ونحن نتمتّع بها داخل خطوط 1967 وخارجها. أمّا الفلسطينيّون فمقسّمون إلى جماعات ذات مكانات مختلفة تقيم في مناطق معزولة عن بعضها البعض - لكنّهم موحّدون في أمر واحد: لكلّهم مكانة منقوصة نسبة إلى اليهود.
في ما يلي أعمدة الأساس لتحقيق وإدامة التفوّق اليهوديّ بين النهر والبحر، في كافّة الأراضي التي نسيطر عليها:
(*) نحن نصمّم الهندسة الديمغرافيّة للمكان بواسطة توجيه الجهود لزيادة عدد اليهود وتقليص عدد الفلسطينيّين. نحن نتيح لليهود الهجرة - والمواطنة تلقائيّاً - إلى أيّ مكان في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل، بينما نمنع عن عُموم الفلسطينيّين الحصول على مكانة في هذه المناطق حتى إذا كانت عائلاتهم من هنا في الأصل.
(*) نحن نصمّم الهندسة السياسيّة للمكان بواسطة منح الحقوق السياسيّة أو سلبها. جميع المواطنين اليهود يمكنهم المشاركة في الانتخابات (وجميع اليهود يمكنهم أن يحصلوا على جنسية هنا) أمّا الفلسطينيّون المقيمون هنا تحت سيطرة إسرائيل فلا يشارك منهم في الانتخابات سوى أقلّ من الرّبع. في الانتخابات الوشيكة، وهي الرّابعة خلال سنتين، لن نشهد "عرساً ديمقراطيّاً" بل يوماً آخر مثل بقيّة الأيّام يقف فيه الفلسطينيّون مسلوبو الحقوق جانباً وينظرون إلى ذوي الحقوق كيف ينتخبون ويقرّرون بذلك مستقبلهم هُم أيضاً.
(*) نحن نصمّم الهندسة الجغرافيّة للمكان بواسطة مصادرات هائلة للأراضي التي يملكها الفلسطينيّون ثمّ تخصيصها لبناء البلدات والمستوطنات لليهود. نحن نفعل ذلك داخل الخطّ الأخضر منذ قيام الدّولة ونفعل ذلك أيضاً في الضفة الغربيّة (بما يشمل ما ضُمّ منها إلى القدس) منذ احتلالها بعد ذلك بـ 19 عاماً. والنتيجة في كلّ مكان بين النهر والبحر هي دَحْر الفلسطينيّين إلى بلدات مكتظّة لا تملك أيّ أفق للتطوير المستقبليّ حيث المنازل مهدّدة بالهدم طوال الوقت، جرّاء بنائها بدون ترخيص نظراً لانعدام الخيارات الأخرى.
(*) نحن أيضاً نصمّم مسارات حركة الفلسطينيّين بواسطة فرض قيود تعسّفيّة جارفة. من ذلك أنّنا فرضنا على الرّعايا الفلسطينيّين أن يكون تنقّلهم داخل معازلهم أو بينها وسفرهم إلى الخارج مرهوناً بالحصول على تصاريح إسرائيليّة والمرور عبر الحواجز. الفلسطينيّون سكّان قطاع غزّة ممنوعون أصلاً من مغادرته: غزّة ليست فقط ’بانتوستان‘ بل جعلتها إسرائيل أحد أكبر السّجون المفتوحة في العالم.
*****
وُلدت في حيفا التي شهدت حتى العام 1948 واقعاً ثنائيّ القوميّة قوامه المساواة العدديّة. ولكن من الـ70.000 فلسطينيّ لم يبق في حيفا بعد قيام الدّولة سوى 7000 فلسطينيّ أو أقلّ. ذاك الواقع مرّت عليه قرابة 73 سنة واليوم نشهد في إسرائيل/ فلسطين واقعاً ثنائيّ القوميّة قوامه المساواة العدديّة. وُلدت هُنا، وأنا أريد وأعتزم البقاء هنا، ولكنّني أريد - وأطالب - بمستقبل مغاير جدّاً لنا جميعاً.
يعجّ الماضي بالنكبات والكوارث والظلم، والحاضر ملؤه ندوب الجراح المتعاقبة إثر تواصُل غياب العدل لكنّ المستقبل لا بدّ أن يكون مغايراً. يجب رفض نظام التفوّق اليهوديّ استناداً إلى الالتزام المشترك بالعدالة والإنسانيّة. هذه الخطوة نحو تسمية الواقع باسمه الصّحيح - أبارتهايد- لا تنمّ عن يأس وإنّما العكس تماماً: إنّها لحظة الوضوح الأخلاقيّ وخطوة أولى على طريق طويل مرصوف بالأمل. انظروا إلى الواقع بعين يقظة وأسموه باسمه دون وجَل، بذلك تشاركون في صُنع مستقبل عادل.
_________________________
(*) المدير العام لـ"بتسيلم"- مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.
هذا المقال نشر اول مرة بالانجليزية في الچارديان https://www.theguardian.com/commentisfree/2021/jan/12/israel-largest-human-rights-group-apartheid