المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
من وقفة  تضامنية مع إسرائيل لعناصر في "مناهضو ألمانيا الألمان".
من وقفة تضامنية مع إسرائيل لعناصر في "مناهضو ألمانيا الألمان".
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1891
  • عبد القادر عزّام

حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" (Antideutsche Deutschen) هي واحدة من حركات اليسار الراديكالي الألماني ولكنها تتميز عن غيرها من حركات اليسار الألماني والعالمي الأخرى بدعمها المطلق وغير المشروط لإسرائيل ولسياساتها بدون أية تحفظات على سياسات الاحتلال الإسرائيلي الكولونيالية والقمعية. وبلغة اليسار الشيوعي، يتغاضى دعم حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" المطلق هذا لإسرائيل عن عنصرية الدولة الإسرائيلية وعن دورها العدواني في المنطقة. بالفعل، تبرز مفردات المعجم اليساري هذه موقع هذه الحركة على خارطة اليسار الألماني والعالمي بخصوصيته واستثنائيته.

بالنظر إلى سير هذا الدعم الأعمى لإسرائيل القادم من أقصى اليسار- منطلقا من دوافع تخص تاريخ ألمانيا نفسه في القرن العشرين- بالتوازي مع الدعم اليميني للحركة الأفينجلية الأميركية لإسرائيل ولسياساتها الاستيطانية على وجه الخصوص- انطلاقا من دوافع مسيانية أفينجلية بحتة- يجدر بنا الالتفات إلى قراءة لهذه الحركة على الرغم من صغر حجمها وتأثيرها الضئيل على المستويين الشعبي والرسمي الألمانيين. تشكّل هذه القراءة، أولا، نافذة للإطلال من خلال مثل هذه الحالة الشاذة لحركة "مناهضو ألمانيا الألمان" على قلب مشهد بلورة القومية الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد توحيد المانيا، عامةً. ثانيا، تمنحنا هذه القراءة إطلالة من نوع آخر على مجمل العلاقات الألمانية مع إسرائيل والفلسطينيين، وكذلك على الموقع الذي أعدّته هذه التركيبة المعقدة بخصوصياتها للقضية الفلسطينية.

سأقوم فيما يلي بتقديم لحركة "مناهضو ألمانيا الألمان" في سياق التطورات الدقيقة التي رافقت قيامها وتطوّرها منذ سقوط المعسكر الاشتراكي، وذلك على مستوى اليسار الراديكالي الألماني ومناهضته لإسرائيل كمشروع إمبريالي- استعماري بالتوازي مع تضامنه مع حركة التحرر الفلسطينية، وعلى المستوى السياسي الشرق أوسطي. ومن ثم، سأقدم شرحا قصيرا للمرجعية المفاهيمية للحركة، قبل أن أنتقل إلى تقييمها والوقوف على إسقاطاتها على حركة التحرر الفلسطينية.

اليسار الأممي/ الألماني: مناهضة إسرائيل كمشروع إمبريالي- استعماري والتضامن مع حركة التحرر الفلسطينية

تعتبر النظرية الماركسية- اللينينية الكلاسيكية الإمبريالية أعلى درجات الرأسمالية. وبحسبها تسعى الدول الرأسمالية إلى تأمين المواد الخام الرخيصة لصناعاتها وأسواق جديدة لمنتجاتها، وهو الأمر الذي يقودها إلى استعمار شعوب العالم وإلى الحروب فيما بينها. وعلى هذا الأساس، تقف حركات اليسار الشيوعية الأممية والمناهضة للإمبريالية، من جهة، متضامنة مع مختلف حركات التحرر الوطني للشعوب المستعمَرة في سعيها للتحرر من الاستعمار فيما هي تحاول شق طريقها من خلال الدولة القومية نحو بناء مجتمع اشتراكي جديد. أما في المقابل فتظل حركات اليسار الأممية مناهضة للقوى الإمبريالية ولحلفائها من القوى والأنظمة الرجعية التي تقف عقبة أمام تقدم قوى التحرر نحو الاشتراكية. وينطبق الأمر بالطبع على فهم إسرائيل كذراع للإمبريالية الفرنسية والبريطانية ومن بعدها للإمبريالية الأميركية الأمر الذي يجعل منها قوة استعمارية، تناهضها من الطرف الآخر الدول العربية التقدمية التي سلّحها الاتحاد السوفييتي وحركة التحرر الوطني الفلسطينية التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، وفازت بدعم وتضامن حركات اليسار الألماني الراديكالية منذ ستينيات القرن الماضي.

بروز حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" في أوساط اليسار الراديكالي الألماني

بزغ نقد مفهوم معاداة الإمبريالية وظهور الحركات المضادة له في صفوف اليسار الراديكالي بعد انهيار المعسكر الاشتراكي لأول مرة. فبالنسبة لمجموعة من الراديكاليين اليساريين لم يعد اعتبار الموقف الشيوعي الأرثوذكسي للنظام النازي من حيث كونه عبارة عن ديكتاتورية تخدم المكونات الأكثر عدوانية من الرأسمالية كافياً، وذلك بسبب تجاهله للمكوّن العنصري المعادي للسامية على وجه الخصوص في النازية. وعندما لاحت إعادة توحيد ألمانيا في الأجندة السياسية خلال 1989-1990، أخذت بالتشكّل مجموعات "معادية لألمانيا" أو "معادية للقومية" تخشى تحوّل ألمانيا الموحدة إلى "الرايخ الرابع". لقد اعتقدت هذه المجموعات بأن هجوما إمبرياليا وحرب إبادة ضد المجموعات العرقية الأجنبية سيتبع سعي الألمان نحو إعادة توحيد البلاد لا محالة. لكن لا يمكننا الحسم ههنا إذا ما كان هذا اعتقاد قد تولّد عند هذه الجماعات نتيجة لاعتبارها أن هذه الآلية ناجمة عن إرث تاريخي-ثقافي ألماني أو وحتى عن عيب جيني- بيولوجي عند الألمان. وفي جميع الأحوال، وفي عام 1990، حمل التحالف المسمّى "اليسار الراديكالي" الشعار "لا لألمانيا أبدا" مطالبا بالتخلي عن الوحدة، وبحل الشعب الألماني إلى مجتمع متعدد الثقافات. وفيما بعد ذلك، اتخذت الإهاجة التحريضية "المناهضة للألمان" نزعات غريبة. فعلى سبيل المثال، تسببت الجماعات "المناهضة لألمانيا" بإثارة الغضب خلال إحياء ذكرى قصف دريسدن في ربيع العام 1945 لاستخدامها شعارات مثل "لا تذرفوا الدموع على درسدن" و "الجناة الألمان ليسوا ضحايا" واستخدامها حتى الشعار "هاريس – اقصف من جديد" ("Bomber-Harris - do it again")، في اشارة إلى السير آرثر هاريس، الضابط الرئيس في قيادة القصف الجوي للقوات الجوية أثناء حملة القصف الإستراتيجي الأنجلو- أميركي ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.

إلى جانب هذا المصدر التكويني لـ"مناهضو ألمانيا الألمان" نلقى مصدرا ثانيا لمواقف هذه الحركة والذي كان قد تكوّن على خلفية الغضب الناجم عن لامبالاة "متظاهري السلام" من اليساريين الراديكاليين حيال هجمات الصواريخ العراقية على إسرائيل خلال حرب الخليج الأولى في شتاء 1991. فقد قام جزء من "الرابطة الشيوعية" المنهارة في المجلة الشهرية اليسارية الراديكالية "كونكريت" بتبني موقف "عدواني حربي" يفيد بدفاعهم عن العمل العسكري للولايات المتحدة وحلفائها ضد العراق انطلاقا من موقف مؤيد لإسرائيل ومعادٍ للفاشية. وبهذا رفضت هذه المجموعة مفهوم "معاداة الإمبريالية" اليساري التقليدي من حيث جانبه "المعادي للصهيونية". وفي السنوات التي تلت ذلك تطورت الجماعات "المعادية لألمانيا" و"المعادية للقومية" في صفوف الماركسيين الاستقلاليين (Autonomen) بشكل خاص. وعلى الرغم من توجهات هذه الجماعات المؤيدة لإسرائيل فقد ظلت تصّر على التأكيد على أهداف اليسار الراديكالي وإنّما بنغمات جديدة وغير مألوفة. فبحسبهم تنحو الظروف السائدة في الدول الإسلامية نحو تطوّر للديمقراطية الرأسمالية الغربية، وهو الأمر الذي يمثل شرطا مسبقا وضروريا لتأسيس الشيوعية في وقت لاحق. أما إسرائيل، وبصفتها ملجأ للناجين من الهولوكوست، فعبارة عن محاولة من طرف اليهود لتحقيق الشيوعية وهم على قيد الحياة. وتتمة لذلك، أدت العمليات العسكرية الفلسطينية في نهاية عام 2000 وخلال الانتفاضة الثانية ضد المدنيين الإسرائيليين إلى تصاعد حدة التهييج المناهض لألمانيا. واستخدمت نشرة "البهاما" المرتبطة بالجماعات المناهضة لألمانيا تعبير "الفاشية الإسلامية" بصفتها مناهضة لأميركا ومناهضة للسامية. ومن ثم، اشتدت حدة الصراع بين "مناهضي ألمانيا" وبين "مناهضي الإمبريالية" بعد التدخل العسكري الأميركي- البريطاني ضد العراق في ربيع 2003 والذي تجلّى بتعارك أنصار الطرفين بالأيدي خلال "مظاهرات السلام" وهو الأمر الذي وقف من ورائه قيام نشطاء حركة مناهضي ألمانيا برفع العلمين الأميركي والإسرائيلي خلال هذه المظاهرات. وهكذا تمّ التعبير عن هذا الموقف الغريب كالتالي: "ألمانيا هي الشر، إذن إسرائيل هي الخير؛ العراق ضد إسرائيل، إذن صدام هو هتلر؛ الولايات المتحدة الأميركية ضد صدام، إذن الحرب هي النضال ضد الفاشية." (Junge Welt، 18.10.2003).

منذ ذاك الوقت، تمايزت جماعة "المعادين لألمانيا" داخل اليسار الراديكالي في ألمانيا والمكونة من جناح "التضامن مع إسرائيل" غير المشروط ونشرتي "الباهاما" (Bahamas) و"عالم الغابة" (jungle world) ومعه مجموعات صغيرة أخرى تدور في فلكه. لقد تحوّل الانحياز الأعمى إلى جانب إسرائيل لهذه الحركة إلى هوس من نوع ما، والذي يقابله من الجهة الأخرى تصورات منغرسة بقوة لما تم تسميه "العصابات الإسلامية" كعدو. وبهذا لا تكلف حركة المناهضين لألمانيا نفسها عناء التمييز بين الإسلام والإسلاموية أبدا.

مناهضة ألمانيا: المرجعية المفاهيمية

كما قدّمنا، يعتبر "مناهضو ألمانيا الألمان" أنفسهم شيوعيين، وعلى هذا فإنهم يسندون آراءهم إلى نقد أيديولوجي مناهض لألمانيا والذي يتخذّ من ماركس أصلا أولا له، إلا أنهم، وبشكل خاص، يقفون على أرضية مسألة نقد الموضوع (Subjektkritik) في إطار فهم معين للجدل السلبي لأدورنو والذي يجعل من الفيتشية السلعية كما فسّرها أدورنو أساسا للقومية باعتبارها البنية الأيديولوجية لمعاداة السامية.

يعتمد أدورنو مفهوم الديالكتيك، مرورا بماركس، من هيغل. لكنه يعزف عن تعريفه الإيجابي، أي عن فهمه لحركة التناقضات التاريخية نحو تحييدها التصاعدي (نفي النفي) والوصول إلى نتيجة إيجابية هي غاية هذا التاريخ منذ لحظة تمظهره الأولى. يحرك الهولوكوست هذا العزوف: فغائية الديالكتيك الهيغلي تستشرف مستقبلا حتميا محددا وتعتبر أن "كل ما هو واقعي عقلاني"، أي أنها تسوّغ الواقع وتمنح شرعية للمعاناة الإنسانية بصفتها ضرورة تحتمها صيرورة التاريخ. نقدا ورفضا لهذه الغائية، يستبدل أدورنو ديالكتيك هيغل الإيجابي بالديالكتيك السلبي وهو ما يعني عمليا أن الضرورة تحكم المضي من الماضي إلى الحاضر ولكن المستقبل يظل مفتوحا وغير محكوم لغائية التماثل. إذن، رفض الغائية الهيغلية هو رفض لفهم الهولوكوست في إطار غائية تاريخية تبرر تمثّل المعاناة الإنسانية في هذا الحدث الجلل، ومن هنا ينحت أدورنو الأمر الداعي إلى "توجيه الفكر والفعل حتى لا يعيد أوشفيتز نفسه". على هذا الأساس، وتأويلا للنظرية النقدية، سرعان ما تم إعادة تفسير نقد رأس المال كما لو كان نقدا لليهودية، التي ادعى النازيون بأنها جشع. وهكذا أمكن عمليا التطهر من جميع الصور السياسية لحملها في أصلها استحقاقات شمولية لدى عرض "معاداة السامية البنيوية" التي تحملها.

"مناهضو ألمانيا الألمان": تقييم واسقاطات

حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" عبارة عن حركة صغيرة جدا وراديكالية في أوساط اليسار الراديكالي الألماني من حيث أعداد المنتمين إليها أو المتعاطفين معها. وقد قدّرت الدويتشة فيله العام 2006 حجم الحركة بأعداد تتراوح بين 500 و3000 شخص فقط. وبحسب تقديرات أخرى فإن هذه الحركة بمثابة ظاهرة يمكن تحديد عدد أتباعها، فهي عبارة من مجموعات صغيرة بلا أتباع وإنما تكوّنها النخب فحسب. ومع ذلك، وإذا ما اعتمدنا التقييمات الألمانية للحركة فيمكن موافقتها على أن تأثير الحركة بمنظور ألماني يتجاوز المشهد اليساري الراديكالي. فمن منظور ألماني عام، يقف زخم هذا التيار اليساري الراديكالي الألماني في مواجهة مع الراديكالية اليسارية التقليدية موجها الأنظار إلى تاريخ الجريمة النازية وكاشفا عن المعايير المزدوجة الراسخة عند اليسار التقليدي بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان وذلك من خلال فصل الأخير بين "مناهضة الإمبريالية" و"مناهضة الفاشية" كما فصّلنا فيما سبق. فبالنسبة لوجهة النظر الألمانية السائدة، فإن الحضور الواضح للطابع العنصري المعادي للسامية في الأيديولوجية النازية من خلال أيديولوجية الحركة "المناهضة لألمانيا" لهو أمر يستحق التقدير، لأن تجاهل معاداة السامية يمثل بالنسبة له أحد أخطر الإخفاقات الأيديولوجية لــ"مناهضة الفاشية" عند اليسار الراديكالي. ومن جهة أخرى، نجد أن الربط غير المتناسب بين الإسلام وبين العنف الإسلاموي الذي تعتمده هذه الحركة يلقى نقدا واسعا على مستويات عدة نظرا إلى دوره في تعزيز العداء الجماعي للإسلام بشكل عام وللأقليات المسلمة في ألمانيا وأوروبا. وينطبق الأمر ذاته على ادعاء الحركة الذي ينص على أن "الألمان"، بما هم ألمان يمتلكون قدرة كامنة خاصة بهم على العنف المتطرف ضد الآخرين بسبب تأثيرات عقلية تاريخية وثقافية وجماعية، أو وحتى جينية. وفيما عدا ذلك، نلمس في التقييم الألماني الرسمي لهذه الحركة تعاطفا مع ما يسمى كشف أو حتى فضح هذه الحركة للعناصر المعادية للسامية في المواقف المعادية للصهيونية التي قد نجدها رائجة في أوساط اليسار الراديكالي التقليدي. كما نلقى في مثل هذا التقييم تفهما مبطنا لتعاطف الحركة مع إسرائيل في مقابل حركة التحرر الوطني الفلسطينية، من جهة اعتبار إسرائيل في نهاية المطاف ما يسمّى "الديمقراطية الوحيدة القائمة في الشرق الأوسط" التي تواجه "حركات إرهابية"- والتي يدعمها معسكر "مناهضي الإمبريالية" في اليسار الراديكالي الألماني التقليدي- كمثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة حماس.

يشكّل ظهور التيار "المناهض لألمانيا" بأوجهه المختلفة أحد أكثر التطورات إثارة للاهتمام في صفوف اليسار الراديكالي الألماني منذ أمد بعيد. يبدو للمراقب الألماني أن الأطراف الفاعلة داخل هذه الحركة وكأنها تقف على أرضية الخط الفاصل بين المشاركة في الديمقراطية الألمانية لأجل التضامن مع العالم الثالث وبين مناهضة التطرف اليميني/معاداة السامية، والتي كان اليسار الراديكالي من قبل قد قام بفصلها إلى الجزأين: "مناهضة الإمبريالية" من جهة و"مناهضة الفاشية" من جهة أخرى.

أما من وجهة نظرنا، فيمثل صعود هذه الحركة في أوساط اليسار الراديكالي تعبيرا عن الأزمة الجذرية التي وقع فيها اليسار العالمي، والأوروبي خصوصا، منذ سقوط المعسكر الاشتراكي وحتى اليوم، لتشكّل بذلك تحديا كبيرا أمام فهمنا لحركة التضامن، أو "معاداة الإمبريالية"، مع حركة التحرر الفلسطيني، أو وبالأصح ما تبقى منها، نحو إعادة تخيّلها وكتابتها بصورة تخرجها سالمة من سطوة تعريفات المركزية الأوروبية عليها.

ينبع التحدّي الذي يضعه صعود حركة مثل حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" أمام القضية الفلسطينية من جهة التضامن الأوروبي معها من وقوع القضية الفلسطينية في منطقة الحد الفاصل بين تعريفات اليسار الراديكالي الأوروبي لمنطقة مناهضة الفاشية، أو أوروبا/الغرب، ولمنطقة مناهضة الإمبريالية، أو العالم الثالث. يمكننا تعريف السؤال الذي تطرحه هذه التعريفات التي تقسّم العالم، وكأنما وبشكل طبيعي، إلى أوروبا/الغرب المركز وإلى البقية/الهوامش، كالتالي: هل تقع المسألة اليهودية/الهولوكوست في النطاق الأوروبي فقط، هو نطاق مناهضة الفاشية، أم أنها تقع خارجه (أيضا)، أي في نطاق مناهضة الإمبريالية، الذي تحدده، فيما لو عدنا إلى معجم اليسار الكلاسيكي الذي افتتحنا به حديثنا هذا، حدود أسواق الدول الرأسمالية ومصادر مواده الخام في المستعمرات الواقعة خارج حدود الدول الرأسمالية الأوروبية؟ أو، وبلسان آخر، هل الهولوكوست عبارة عن حدث أوروبي/فاشي فقط أم أنه يجنح نحو الخارج، نحو تخوم الفعل الإمبريالي في المستعمرات؟ بصدد هذا السؤال، فكأن حركة "مناهضو ألمانيا الألمان"، ومثلها حكومات وأحزاب وحركات ومثقفين في أوروبا، تخلط الحابل بالنابل وتنحو بالمسألة اليهودية متجاوزة حدود أوروبا، التي رسّمها اليسار الأوروبي التقليدي من قبل بصفتها الحدود بين مناهضة الفاشية ومناهضة الامبريالية، نحو فلسطين التاريخية، أي نحو القضية الفلسطينية. إذن، وبالنظر إلى تاريخ الهولوكوست ودوره في الفهم الذاتي الإسرائيلي وذاك الألماني وتداخلاتهما فيما بعد الحرب العالمية الثانية يصبح الحق الفلسطيني محكوما لعمليات التكوين والتحوير الحاصلة لدى هذين الفهمين الذاتيين، ويصبح مشدودا للدوران في مداريهما وكأنما بمحض الصدفة. باختصار، تظل مواقف حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" الداعمة لإسرائيل، وغيرها، محكومة لحساسيات ألمانية بحتة، وتمثّل بالنظر إلى مجمل العلاقات الألمانية- الإسرائيلية حجر الأساس في تكوين الهويتين القومية الألمانية والألمانية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. لا يسعنا في هذا المقام الوقوف على تفاصيل واسقاطات مثل هذا التكوين. لكن يجدر بنا التذكّر أن هذا هو السبب الذي دفعني في تقديمي أعلاه إلى ذكر التوازي البنيوي القائم بين تعاطف حركة "مناهضو ألمانيا الألمان" وبين الدعم اليميني للحركة الأفينجلية الأميركية لإسرائيل، وشتان ما بينهما، من حيث كونهما يعتمدان فهما كونيا كاملا يضع كل واحد منهما في المركز ويجعل من المشروع الصهيوني امتدادا لهذا المركز بشكل يجعل الوجود الفلسطيني زائدا أو غير ذي أهمية من وجهة نظر حتمية تاريخية كونية دينية (أفينجلية) وحتمية مثلها مُعلمنة (ماركسية- يسارية). من هذا المنظور، يبدو وكأنّ التحدّي الذي تطرحه هاتان الحركتان، معا وكلا على حدة، يتلخص بمهمة ملقاة على الوعي والوجود الفلسطينيين اليوم مفادها ترميم بقايا مشروع التحرر الوطني الفلسطيني- الذي هشّمته وهمّشته إسقاطات أفول المعسكر الاشتراكي كما فعلت باليسار الراديكالي الألماني والعالمي التقليدي- من خلال الخروج الآمن من إملاءات "الوجود بالصدفة" إلى "الوجود بالقوة"، وهو الأمر الذي يقضي، فكريا على الأقل، بالعزوف عمّا تقدّم وباد من مفاهيم مناهضة الفاشية ومناهضة الإمبريالية وما بينهما من مسافة، وتوديع أخير لمنطق المناهضة كما يسطره ديالكتيك أدورنو السلبي.

مصادر:

Antideutsche: https://kulturkritik.net/begriffe/begr_txt.php?lex=antideutsche
"Antiimperialistische" und "antideutsche" Strömungen im deutschen Linksextremismus:
https://www.bpb.de/politik/extremismus/linksextremismus/33626/antideutsche-und-antiimperialisten
https://antideutsch.org/
http://www.cafecritique.priv.at/antideutsch.html
Kurz, Robert, Die antideutsche Ideologie. Vom Antifaschismus zum Krisenimperialismus: Kritik des neuesten linksdeutschen Sektenwesens in seinen theoretischen Propheten. Unrast, Münster 2003.
Hanloser, Gerhard (Hrsg.), „Sie warn die Antideutschesten der deutschen Linken“. Zu Geschichte, Kritik und Zukunft antideutscher Politik. Unrast, Münster 2004.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات