اعتماد إسرائيل الحلول العسكرية والتكنولوجية للتهديدات والتحديات الماثلة أمامها يعمي أبصارها ويحول دون بلورة سياسة أمن قومي شاملة ودون إطلاق مبادرة سياسية، وخصوصاً في مسألة الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني. وأحد الشروط الضرورية المركزية لتحقق هذا هو ترميم التماسك الداخلي في المجتمع الإسرائيلي- هذا هو أحد الاستنتاجات المركزية التي خلصت إليها أبحاث ومداولات ورشة "المائدة المستديرة" التي نظمها "مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل"، بالتعاون مع حركة "مستقبل أزرق أبيض"، في أواخر شهر شباط الأخير تحت عنوان "تلخيص عقد مضى وتحديات العقد المقبل في المستوى السياسي ـ الأمني" وفي محاولة للإجابة على السؤال المركزي التالي: ما الذي يخبئه العقد المقبل لدولة إسرائيل؟ وذلك بمشاركة نخبة من كبار المسؤولين السابقين في الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ومن الخبراء والباحثين في قضايا الأمن القومي ومجالاته المختلفة.
يقول "مركز مولاد" في التقديم لورقة الموقف الصادرة في ختام أعمال هذه الورشة إن "المائدة المستديرة نُظمت في مستهل العقد الجديد في محاولة لاستشراف الآتي من خلال التمعن بما مضى، وسعياً إلى إجراء نقاش تعلّمي يرمي إلى البحث، في الواقع الاستراتيجي الراهن الذي تعيشه إسرائيل، عن نقاط العمى والتحديات التي تغيب عن أعين المستويين السياسي والعسكري".
وقد توزع البحث والنقاش على ثلاثة مواضيع، من خلال التعمق في جوانب مختلفة ومكملة: الأول ـ مناقشة نقدية للتهديدات التي تواجه الأمن القومي الإسرائيلي، بمعناها الأوسع والأشمل. الثاني ـ الحلبة الفلسطينية، بكل مميزاتها وخصائصها الفريدة، باعتبارها حجر أساس في مستقبل إسرائيل. الثالث ـ نظرة موسعة إلى العقد المقبل وإلى النقاط التي يتعين على إسرائيل التركيز عليها.
توسيع الاستيطان خطر على أمن المواطنين
اتفق المشاركون في مداولات "المائدة المستديرة" على أن العقد المنصرم كان "عقداً ضائعاً مهدَراً" على الصعيد السياسي، إذ لم يتم خلاله دفع أية مبادرة سياسية للمدى البعيد، بل ظل ينوء تحت تلال الشعارات الأمنية الفارغة من أي مضمون. وخلافاً للصورة المشوهة التي تحاول الحكومة عرضها على الجمهور، فإن التهديد المركزي على إسرائيل ليس من إيران، وإنما من حقيقة أنه بين البحر والنهر يعيش نحو 14 مليون إنسان، وهو واقع "قد يقود إلى نهاية المشروع الصهيوني إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسي".
وأجمع هؤلاء أيضاً على أن توسيع الاستيطان في الضفة الغربية يعرّض أمن المواطنين في إسرائيل لمخاطر جدية وعلى درجة غير مسبوقة من الخطورة. وقال عامي أيالون، قائد سلاح البحرية الإسرائيلي السابق ورئيس جهاز "الشاباك" السابق أيضاً، إن النقاش العام في إسرائيل "لا يقيم التمييز اللازم والصحيح بين الأمن والمستوطنات"، مضيفا: "جميع الجهات الأمنية الإسرائيلية تعارض، بحزم، ضم مناطق (فلسطينية) من جانب واحد". أما خطة ترامب "للازدهار الاقتصادي" (أي، "صفقة القرن") فمن شأنها فقط تعقيد المشكلة وتعميق الأزمة، ذلك أن هذه الخطة ـ بمنظور المسؤولين الأمنيين وخلافاً للموقف الذي تعرضه الحكومة ـ ستؤدي إلى تعزيز "العناصر الراديكالية المؤيدة للإرهاب بين الفلسطينيين، إضعاف العناصر البراغماتية والمس بأمن المواطنين الإسرائيليين".
وقد لخصت أعمال الورشة هذه الرسالة المقتضبة، الواضحة والحازمة، التالية: ليس ثمة شيء اسمه "إدارة الصراع". الحلول العسكرية والتكنولوجية لم تعد كافية وحدها لمواجهة التهديدات والتحديات الماثلة أمام إسرائيل، بل ثمة حاجة إلى سياسة أيضاً!
خمس سنوات من دون حرب عسكرية كبيرة!
في "المسألة الإيرانية"، أشار المشاركون في أعمال المائدة المستديرة إلى نجاحات هامة، في رأيهم، تحققت خلال العقد المنصرم: فقد أعاق الاتفاق النووي، الذي أصبح موضع خلاف حاد خلال السنوات الأربع الأخيرة بوجه خاص، تقدم إيران نحو إنتاج قنبلة نووية. واعتبر المشاركون أن "الجهود الإسرائيلية والأميركية التي بُذلت للجم تطلعات إيران لبسط هيمنتها الإقليمية قد حققت نجاحات وإنجازات لا بأس بها". ومن ضمن المشاريع الإيرانية التي تمت إعاقتها و/ أو وقفها، "مشروع التدقيق" الرامي إلى تزويد حزب الله بكمية كافية من الصواريخ الدقيقة. وفي نهاية 2018، كانت إسرائيل قد انتزعت من يدي حزب الله ثروة استراتيجية هامة جدا بالنسبة له، وذلك حين كشفت ودمرت ستة أنفاق هجومية تم حفرها تحت الحدود بين لبنان وإسرائيل.
على الصعيد الإقليمي، مرت على إسرائيل خمس سنوات ونصف السنة من دون حرب عسكرية كبيرة وجدية، إذ كان عدوان "الجرف الصامد" على قطاع غزة الحرب الجدية الأخيرة، ناهيك عن أنها جرت على نطاق ضيق، نسبياً. وبدلاً من هذه (الحروب الكبيرة والجدية)، صبّ الجيش الإسرائيلي جل تركيزه على "المعركة ما بين حربين" التي تضمنت، بصورة أساسية، سلسلة من الضربات ضد إيران ومبعوثيها في المنطقة.
وشدد المشاركون على أنه "ستمر سنوات عديدة قبل أن تصل إسرائيل إلى نقطة تجد فيها نفسها مضطرة إلى مواجهة خطر جدي وحقيقي يشكله جيش نظامي تقليدي. وهو أمر مرهون بمدى قدرة الحيش السوري على النهوض من أزمته وإعادة ترميم نفسه، وحتى حين يحقق هذا، يبقى من المشكوك فيه ما إذا سيكون معنياً بخوض مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل. وستبقى التنظيمات الإرهابية والعصاباتية هي التهديد المركزي على دولة إسرائيل، على مدى السنوات المقبلة، بما في ذلك تهديد الصواريخ والقذائف غير المسبوق على الجبهة الداخلية، المدنية، الإسرائيلية".
ورسم المشاركون في "المائدة المستديرة" صورة محسنة للميزان الاستراتيجي في المنطقة، إلى جانب واقع سيظل عرضة للانفجار في أية لحظة. وفي هذا السياق، اعتبر هؤلاء أن "الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تواصل تأدية دورها ومهامها باعتبارها بوليصة التأمين والضمان: في الحروب، لا تزال إسرائيل غير مهزومة، تقريباً. أما التخوف الأكبر والأعمق في هذا السياق فهو "تعمق الصدوع باستمرار في الحائط الحديدي، نتيجة الخلافات والصراعات الداخلية الحادة بين من وصفهم رئيس الدولة، رؤوفين ريفلين، بالأسباط المختلفة في المجتمع الإسرائيلي".
الصورة الإقليمية لا تدعو إلى التفاؤل!
أفرد المشاركون حيزاً لا بأس منه من مداولاتهم للتطورات في مجال السايبر والحرب السيبرانية ولاكتمال قدرات هجومية من شأنها جرّ الدولة إلى حافة الانهيار الاقتصادي، تشويش النظام الداخلي واللجوء إلى المناورة في معرض وصف الواقع الحقيقي. وتحدث المشاركون عن "التلويث" العقلي والاستخباراتي من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وما يتدفق فيها من معلومات خاطئة، مشوهة وكاذبة، يأتي بعضها من روسيا وهدفه إعاقة وتخريب الأنظمة والعمليات الديمقراطية في الدول الغربية. وتطرق هؤلاء إلى الصعوبة المتزايدة التي يصطدم بها المواطنون في معرض محاولاتهم سبر غور الواقع على حقيقته، الفصل بين الحقيقة والكذب والاعتماد على "رواة الحقيقة" التقليديين، أي الصحافة ووسائل الإعلام والجهاز القضائي. مثل هذه الظروف ـ أكد المشاركون ـ تزيد من خطر الخطأ في الحسابات، بما يقود إلى تصعيد أمني غير مخطط.
واعتبر المشاركون إن "الصورة الإقليمية لا تدعو إلى التفاؤل". ففي غضون خمس سنوات، سيزداد عدد سكان العالم العربي ليصل إلى نحو نصف مليار إنسان، أكثر من نصفهم هم أبناء 30 عاماً أو أقل. وستزداد، أيضا، نسبة الشبان المتعلمين والعاطلين عن العمل. وقد تصبح منطقة الشرق الأوسط قنبلة موقوتة اقتصادية، من دون أسواق كافية ومن دون أماكن عمل كافية. أما العقد الاجتماعي الذي بفضله صمدت أغلبية أنظمة الحكم في المنطقة ـ عمل للمواطن مقابل الهدوء والاستقرار ـ فهو في سيرورة آيلة إلى الانهيار. والنتيجة المتوقعة على مدى العقد القريب المقبل هي: شرق أوسط أكثر انقساماً وتقاطباً، أكثر فقراً، يرغب ملايين اللاجئين في الخلاص منه والوصول إلى دولة غربية. وفي الأثناء، يتراجع ويقل إصغاء الدول العظمى لما يعتمل في هذه المنطقة (الشرق الأوسط)، على خلفية التحولات الحاصلة في سوق الطاقة وتعلق الولايات المتحدة، الآخذ في التراجع والتناقص، بالنفط العربي.
وحذر بعض المشاركين من أن هذا الواقع لا يبشر بخير لإسرائيل، إذ أن "الوقت في الشرق الأوسط يعمل في صالح من يتخذ مبادرة سياسية ومن المفضل القيام بذلك من موقع القوة".
تدخل دول المنطقة ـ حيويّ!
رأى المشاركون في "المائدة المستديرة" أن تدخل دول المنطقة هو أمر حيوي، لا بل ثمة من ذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إن تلك الدول هي "العنصر المقرر الذي سيحرك العملية السياسية والقادر على جر الفلسطينيين إلى داخل هذه العملية. وهذا، بالرغم من فقدان الاهتمام الاقتصادي بالقضية الفلسطينية في العالم العربي. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال نقطة الارتكاز الأبرز لخطة ترامب ـ أي أن العالمين العربي والإسلامي مستعدان للتسوية مع إسرائيل ويعرضان استعدادهما لتقديم تنازلات بعيدة الأثر حتى قبل الشروع في مفاوضات رسمية. وينبغي لهذه المبادرة أن تشكل القاعدة المتينة لأية مفاوضات مستقبلية، مع بعض الملاءمات والتعديلات بما ينسجم مع مصالح دولة إسرائيل".
إحدى القضايا المركزية والحاسمة هي الاستيطان والمستوطنات ونشر الوعي بين الجمهور الواسع على أن ثمة تمييزاً واضحاً بين المستوطنات والأمن، رغم أن الجيش الإسرائيلي "لا ينظر إليها بهذا المنظار، منذ عقود، وليس ثمة أية وثيقة رسمية قدمتها الأجهزة الأمنية تقول إن للمستوطنات أهمية ومكانة من الناحية الأمنية".
من شأن هذا الفهم الرسمي من جانب إسرائيل أن يسهل على أية مفاوضات مستقبلية، من ناحية الشرعية الجماهيرية. وكذلك في يوم "ما بعد أبي مازن"، سيلقى الاستعداد الإسرائيلي للتفاوض على أساس المبادرة توجهاً إيجابياً، على الأرجح، من جانب حركة "فتح". إلا أن التبادلية التي يبدي العالم العربي اهتماماً بها، هي على النقيض التام من التوجه الأحادي الجانب الذي تعتمده خطة ترامب (صفقة القرن)، ومن سياسة إسرائيل، التي تضع حركة "حماس" في موقف الرابح والمستفيد.
غياب استراتيجية حيال الفلسطينيين خطر جسيم على أمن إسرائيل
أكد المشاركون أن معالجة موضوع غزة على انفراد وبمعزل عن التطورات والخطط على الجبهات الأخرى، هي خطأ جسيم، ذلك أن قطاع غزة هو جزء من القضية الفلسطينية برمتها، لا يجوز ولا يمكن فض الرابطة ما بينه وبين الضفة الغربية.
وفي التحصيل الأخير، يمكن القول إن غياب استراتيجية إسرائيلية حيال الفلسطينيين ومستقبل العلاقة معهم هو بمثابة خطر جسيم على الأمن القومي الإسرائيلي. ينبغي على دولة إسرائيل أن تقرر إلى أين وجهتها وإلى أين تريد أن تصل. في الإجابة على هذا السؤال، ثمة توجهات بارزة هي: الأول ـ هو التوجه الذي يقوده بنيامين نتنياهو ومؤداه: سنعيش على الحراب، إلى الأبد. الثاني ـ هو التوجه الداعي إلى التوصل إلى تسوية سياسية، رغم أنه من الواضح اليوم أنه إذا كانت هذه التسوية ممكنة، فمن الضروري أن تتحقق في إطار إقليمي وعبر عملية طويلة المدى. ما يحرك إسرائيل في هذه المرحلة، بكل قوة وإلى حد بعيد، هو "عقدة الهولوكوست": رغم أن إسرائيل تمتلك الجيش الأقوى في الشرق الأوسط، إلا أن صناع القرار فيها لا يزالون يفكرون بمصطلحات التهديد الوجودي وخطر الإبادة! والنتيجة هي فقدان القدرة السياسية على تحديد وتشخيص الفرص والالتصاق، في المقابل، بوضع قائم ومعروف، رغم الثقة التامة بأنه يقود إلى مفاقمة المخاطر وتعقيدها. وهذا ما يُترجَم بتصريحات عن "إدارة الصراع". "إدارة الصراع" في الحالة الإسرائيلية تفاقم الأخطار على المدى البعيد ومثل هذا الأداء يسبب مزيداً من التدهور في وضع دولة إسرائيل ومكانتها.
ولاحظ الخبراء المشاركون في "المائدة المستديرة" أن "الجمهور الإسرائيلي منقسم على نفسه في الموضوع الفلسطيني" وأنه "بدون دفع من الخارج (رئيس أميركي آخر أو حرب كبيرة)، لن يغير آراءه ومواقفه بصورة دراماتيكية. والأسوأ من هذا، أن المواطن المتوسط في هذه البلاد، سواء الفلسطيني أو الإسرائيلي، وحتى منهم الذين لا يزالون يؤيدون حل الدولتين، لا يؤمنون بأن هذا الحل قابل للتطبيق". غير أن تجارب الماضي والوضع القائم في الميدان يشيران إلى حقيقة بسيطة هي: صحيح أنه من غير الممكن التوصل إلى حل الدولتين بين ليلة وضحاها، إلا أنه من غير الممكن عدم التوصل إليه في نهاية المطاف. إنه الحل الوحيد الذي يضمن بقاء واستمرار المشروع الصهيوني.
أربع دوائر من التهديدات المركزية وخمسة تبصّرات أساسية
رأى المشاركون في أعمال "المائدة المستديرة" أن إسرائيل تواجه سلسلة من التهديدات والأخطار الأمنية من أصناف ومصادر مختلفة، مثلما كانت تواجه في السابق أيضاً، على مدار السنوات منذ إنشائها حتى اليوم.
وقد صنّف هؤلاء هذه التحديات والأخطار في أربع دوائر، على النحو التالي:
الدائرة الأولى ـ التهديد غير التقليدي، أي المشروع النووي الإيراني، إضافة إلى السلاح الكيماوي المتوفر في سورية الذي قد يكون ذا أهمية قصوى في المستقبل.
الدائرة الثانية ـ التهديد التقليدي، الذي يمكن القول إنه الامتحان الأساس أمام الجيش الإسرائيلي، رغم أن الجيش الخصم الأساسي ـ السوري ـ غير قائم البتة، تقريباً.
الدائرة الثالثة ـ التهديد التقليدي الفرعي، الذي تشكله وتقوده "قوة فيلق القدس"، حزب الله، "حماس" وتنظيمات إضافية أخرى، مع التشديد على الأسلحة المنحنية المسار، المجال تحت الأرضي والإرهاب.
الدائرة الرابعة ـ التهديد السيبراني.
أما التهديد الذي اعتبرته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الأول والأخطر منذ نحو عقد من الزمن فهو المشروع النووي الإيراني وتطلع إيران نحو بسيط هيمنتها على المنطقة. وإضافة إلى المسألة الإيرانية، ثمة عدد من الظواهر والوجهات التي لها انعكاسات وآثار جدية وهامة على خارطة التهديدات. فالهزة الإقليمية التي تعرضت لها المنطقة، من خلال "الربيع العربي"، زرعت دماراً اجتماعياً، اقتصادياً وثقافياً هائلاً، إلى جانب موجات اللاجئين الجديدة والانقلابات السلطوية التي لا يبدو سوى أنها ستزداد تفاقماً وستبقى تتردد أصداء آثارها على إسرائيل وبيئتها القريبة أيضاً. كما أدى ضعف الدول العربية، أيضاً، إلى تعزيز قوة ومكانة القوى العظمى الإقليمية غير العربية، وعلى رأسها بالطبع تركيا وإيران. ومن المهم، أيضاً، الإشارة إلى مسألة تدخل الدول العظمى في منطقة الشرق الأوسط، إذ تعمق روسيا تدخلها وتواجدها في المنطقة باعتبارها الدولة ذات الحضور الأبرز في المنطقة، مقابل سعي الولايات المتحدة إلى سحب قواتها وخفض مستوى تدخلها. وبين هاتين، نلاحظ اختراقات صينية لافتة وجدية في المنطقة.
تبقى الساحة الفلسطينية هي الأكثر عرضة للانفجار بشكل عام، على الرغم من الفصل والتمييز بين الضفة الغربية وقطاع غزة. أما ظاهرة "الدولة الإسلامية" ("داعش")، فعلى الرغم من تراجع هذا التنظيم الحاد حد التفكك وفقدان السيطرة، إلا أنه لا يزال يشكل تهديداً جدياً على دولة إسرائيل وعلى أهداف إسرائيلية ويهودية في مختلف أنحاء العالم، وخصوصاً حيال تعاظم قوة بعض المجموعات الجهادية السلفية على طول الحدود بين إسرائيل ومصر (في سيناء)، الأردن، قطاع غزة والضفة الغربية.
أما التبصرات الأساسية الأبرز التي طرحتها مناقشات "المائدة المستديرة" ومداولاتها بصورة أكثر حدة وأكثر إسهاماً في النقاش العام، لا سيما في فترة انتخابات برلمانية كالتي مرت على إسرائيل مؤخراً، فقد أوجزتها الورقة في الخمسة التالية:
1. دور الأجهزة الأمنية ووظيفتها ينحصران، بطبيعتهما، في التركيز على النصف الفارغ من الكأس ـ أي، على المخاطر والتهديدات. على هذه الخلفية، يبرز غياب أية استراتيجية سياسية لدى دولة إسرائيل. فقد اعتادت، على ضوء تفوقها وبسببه، على البحث عن جواب تكنولوجي لأي تهديد. منهجية العمل هذه تفتقر إلى النجاعة وهي محكومة بالفشل على المدى البعيد. وتشكل تجربة قطاع غزة التجسيد الأبرز والأوضح لاستنفاد الحلول العسكرية والتكنولوجية ذاتها وقدرتها على التأثير بصورة ناجعة. ليس ثمة بديل للحلول السياسية. تنقص إسرائيل اليوم منظومة وآليات منظمة ومعتمدة للبحث المنهجي، المنظم والمتتابع في الخيارات السياسية الممكنة لمواجهة وحل التحديات العسكرية، في الأيام العادية وفي فترات الطوارئ.
2. يعتقد قطاع واسع من الجمهور الإسرائيلي بأن العقد المنصرم كان، في سياق الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، ممتازاً جداً بالنسبة لإسرائيل، حتى أن هؤلاء يتمنون أن يكون العقد المقبل كذلك أيضاً. لكن الحقيقة هي أن العقد المنتهي كان خسارة كبيرة ومليئاً بإهدار الفرص. خطة ترامب (صفقة القرن) هي دليل إضافي آخر على التوجه الأحادي الجانب الذي تعتمده دولة إسرائيل حيال القضية الفلسطينية على مدى العقود الأخيرة، وخصوصا العقد الأخير على وجه التحديد، مما يعمق من خطورة الوهم الإسرائيلي بأن عدم التحرك والمبادرة إلى أي فعل حقيقي وجدي يأتي بنتائج إيجابية وطيبة في نهاية المطاف.
3. ثمة خطأ كير خطير في مناقشة موضوع غزة على انفراد وبمعزل عن مناقشة القضية الفلسطينية برمتها. ذلك أن قطاع غزة هو جزء لا يتجزأ من المسألة الفلسطينية كلها ومن المستحيل فض العلاقة ما بين قطاع غزة والضفة الغربية أو الفصل بينهما. صحيح أنه من غير الممكن التوصل إلى حل الدولتين بين ليلة وضحاها، لكن من غير الممكن بالتأكيد عدم التوصل إلى هذا الحل في نهاية المطاف. إنه الحل الوحيد الذي يمكنه ضمان استمرار المشروع الصهيوني.
4. المشكلة الأكثر صعوبة في إسرائيل 2020 هي غياب الرؤية القومية والابتعاد المتواصل عن القيم الأساسية الواردة في وثيقة استقلال دولة إسرائيل، مع التأكيد على الهوة ما بين اليهودية والديمقراطية. وتبقى مسألة التماسك الاجتماعي ذات علاقة وثيقة بالرؤية. ثمة تصدعات عميقة جدا في المجتمع الإسرائيلي ويقوم السياسيون ـ للأسف الشديد ـ بصب الزيت على هذه النار، لجني مكاسب سياسية قصيرة المدى. وفي مواجهة ذلك، ينبغي تشجيع النقاش العام الرامي إلى توضيح وتأكيد القاسم المشترك الأساس والأدنى الذي يمكن من خلاله وعلى أساسه توحيد المجتمع الإسرائيلي ـ ابتداء من الجمهور اليهودي نفسه، مرورا بالعلاقات بين اليهود والعرب مواطني الدولة وانتهاء بالعلاقة بين الإسرائيليين والشعب الفلسطيني.
5. لا بديل عن الحلول السياسية. تفتقر إسرائيل اليوم إلى منظومة متماسكة وثابتة للبحث المنهجي، المنظم والمتتابع في الخيارات السياسية الممكنة لمواجهة وحل التحديات العسكرية، الأوضاع العادية الروتينية والأوضاع في حالات الطوارئ. فعليا، تفتقر إسرائيل اليوم إلى رؤية مبلورة في مجال الأمن القومي، علماً بأن التحديث الرسمي المتفق عليه والأخير، حتى الآن، هو الذي وضعه دافيد بن غوريون. وينبغي الانتباه إلى أنه لا تزال ثمة أهمية كبيرة للاتفاقات السياسية بوصفها وسيلة ناجعة لإكمال المركّب العسكري. وبالنسبة للسلاح الكيماوي السوري، كما الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى أيضاً، فإن القضية الأهم هنا ليست عسكرية فحسب، وإنما هي قضية سياسية، ثقافية، اجتماعية، نفسية وغيرها. وفي نهاية المطاف، فإن اتخاذ مبادرة انطلاقاً من موقع القوة، في جميع التحديات التي تواجه إسرائيل، هو أمر مرغوب وضروري، وخصوصاً في المستقبل القريب. ويبقى السؤال الأبدي الأهم والأبرز في الشرق الأوسط هو: في صالح من يعمل الوقت؟ أما الجواب فهو: لصالح من يبادر ويتخذ الخطوات الصحيحة.