المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 828
  • سليم سلامة

يوم الثلاثاء المقبل، الثاني من آذار، تجرى في إسرائيل انتخابات عامة أخرى لانتخاب الكنيست الـ23، وستكون هذه هي الانتخابات العامة الثالثة التي تجرى في غضون أقل من عام واحد، إذ سبقتها الانتخابات للكنيست الـ 21 في التاسع من نيسان الماضي، 2019، ثم تلتها الانتخابات للكنيست الـ 22 في السابع عشر من أيلول من العام نفسه، 2019.

منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي، لم تُتمّ أية حكومة دورتها القانونية الكاملة، المحددة بأربع سنوات، مما جرّ بالتالي عدم إتمام الكنيست دورته القانونية المحددة، هي الأخرى، بأربع سنوات، وهو ما حتّم إجراء انتخابات برلمانية عامة مرة كل ثلاث سنوات، بالمتوسط، وأحياناً خلال أقل من ذلك. وقد شذّ الكنيست الـ 20 عن هذه "القاعدة"، إذ امتدت دورته نحو أربع سنوات تقريباً ـ منذ انتخابه يوم 17 آذار 2015 وحتى الانتخابات للكنيست الـ 21 في 9 نيسان 2019. غير أن هذا الاستثناء الذي سجله الكنيست الـ 20، لم يحمل أية بشائر بشأن تغلب النظام السياسي في إسرائيل على أزمته المتفاقمة باستمرار جراء عدم الاستقرار الذي أصبح سمة ملازمة للحكومات المتعاقبة وللكنيست في دوراته المتتالية.

وحيال تفاقم هذه الأزمة من "الجمود الحزبي"، سواء في مستوى تشكيل حكومات جديدة في إثر الانتخابات العامة، أو في مستوى المحافظة على هذه الحكومات وصيانة وحدتها وسلامتها بما يضمن نجاعة أدائها في إدارة شؤون الدولة ومواطنيها، وحيال ما تعكسه من عجز الأحزاب وممثليها في الكنيست والحكومة عن حسم الأمور وإخراج النظام السياسي من مأزقه المستمر ووضعه على سكة "الحياة الطبيعية"، بدأت تتعالى في إسرائيل أصوات مختلفة، سواء في بعض الأحزاب السياسية أو في الأكاديميا أو في بعض معاهد الأبحاث السياسية، تدعو إلى تغيير طريقة الحكم في إسرائيل، بما يشمل بالتالي تغيير طريقة الانتخابات أيضاً، في محاولة لإعادة المنظومة السياسية ـ الحزبية في إسرائيل إلى مسار طبيعي يجنبها هذه العودة الاضطرارية المتكررة إلى معارك انتخابية أصبحت تجرى بوتائر غير طبيعية وتكلف خزينة الدولة الإسرائيلية واقتصادها مبالغ طائلة وخسائر فادحة، علاوة على ما ينطوي عليه عدم الاستقرار السياسي ـ الحزبي من أخطار جدية تحدق بنظام الحكم الديمقراطي في إسرائيل.

ويذهب الداعون إلى تغيير طريقة الانتخابات في إسرائيل إلى القول بأن الوضع السياسي المستمر منذ سنوات، وخصوصا في السنوات الأخيرة بصورة أكثر حدة واستدعاء للقلق، يُبرز على السطح حقيقة أن المنظومة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية لم تُشفَ تماماً من مخلفات طريقة "الانتخاب المباشر" التي أحدثت تشتيتاً عميقاً في الخارطة الحزبية في داخل الكنيست، مما أدى إلى إضعاف الأحزاب الكبيرة (أو: الحزبين الأكبرين على وجه التحديد) ووضع قوة لا يستهان بها في أيدي الأحزاب الصغيرة على اختلاف مشاربها وتفاوت قوتها. وقد انعكس هذا التراجع في قوة الحزبين الكبيرين، بصورة واضحة مثلاً، في تحجيم قدرة كل منهما (بتوليه قيادة الائتلاف الحكومي على حدة مع مجموعة من الأحزاب الصغيرة) على السيطرة على الائتلاف الحاكم: فبينما كانت كتلة الحزب الحاكم في الماضي تعادل، في العادة والغالب، أكثر من 50% من عدد أعضاء الكنيست من الائتلاف الحاكم، تراجعت هذه النسبة منذ بدايات التسعينيات ليصبح الحزب الحاكم في وضعية الأقلية باستمرار. ومن نتائج هذا الوضع المستمر والمتفاقم، كما يشير هؤلاء، ظهور صعوبات حادة وخطيرة أمام مهمة تشكيل الحكومات الجديدة في إسرائيل، ثم أمام إدارتها بصورة سليمة وناجعة.

ويعد هؤلاء بأن تغيير طريقة الانتخابات هو المخرج الوحيد الممكن لتجنب اضطرار إسرائيل إلى خوض جولة انتخابية رابعة، قريبة، على خلفية ما من المرجح أن تفرزه الانتخابات القريبة (في 2 آذار القريب) ـ استمرار حالة "التعادل" بين الحزبين الكبيرين والمعسكرين الأساسيين، بما سيعمق مأزق المنظومة السياسية ـ الحزبية (والبرلمانية) وسيفاقم أزمة الحوكمة في إسرائيل.

مقترحان لتغيير طريقة الانتخابات في إسرائيل

من بين المقترحات المركزية التي عُرضت مؤخراً وتطرح مخرجاً من أزمة الحوكمة المتفاقمة ومن مأزق الخارطة السياسية ـ الحزبية في إسرائيل ولوضعها على مسار "الأداء الطبيعي"، نعرض هنا لمقترحين هما الأبرز والأشمل كما عرضهما "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" و"مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل".

مقترح "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"

يدعو المقترح الذي أعده خبراء "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" إلى إجراء جملة من التغييرات الجوهرية الحيوية، في مقدمتها تغيير طريقة تشكيل الحكومة الإسرائيلية، على نحو يعيد المنظومة السياسية ـ الحزبية إلى الوضع السابق، حين كان الحزبان الكبيران يشكلان البديل السلطوي الأنسب من خلال تحالفهما معاً وتشكيل ائتلاف حكومي مشترك "يكون قادراً على تسيير دفة الأمور في الدولة لدورة كاملة وبدرجة عالية من النجاعة، عوضاً عن وضع قوة غير تناسبية في أيدي الأحزاب الصغيرة وتمكينها من أخذ زمام المبادرة والقرار وحسم الأمور في كل ما يتعلق بعمر الحكومة وفترة دورة الكنيست"، كما ورد في تسويغات هذا المقترح.
يشمل مقترح "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" العناصر الأساسية التالية:

1. سن قانون "رئيس القائمة الأكبر" ـ رئيس القائمة الأكبر (هي القائمة الحزبية ـ الانتخابية التي تفوز في الانتخابات البرلمانية العامة بالعدد الأكبر من المقاعد في البرلمان ـ العدد الأكبر من الأعضاء في الكنيست. وفي حال التعادل في عدد أعضاء الكنيست، تكون القائمة الأكبر هي التي حصلت على العدد الأكبر من الأصوات في الانتخابات) هو الذي يجري تكليفه بعد الانتخابات، بصورة أوتوماتيكية، بتشكيل حكومة جديدة ورئاستها، دون أية حاجة إلى أية توصيات من جانب الكتل البرلمانية الأخرى الممثَّلة في الكنيست وأحزابها السياسية. ويحسب المقترح، فإن هذا التشريع سيشجع الناخبين على التصويت للأحزاب الكبيرة مباشرة، كما سيشجع على التحاق أحزاب صغيرة بالحزب الكبير أو بقائمته الانتخابية، حتى قبل الانتخابات. وبهذا، تتعزز قوة "المركز الحزبي" مقابل تراجع قوة القوى الطرفية، غير المركزية في الخارطة السياسية ـ الحزبية.

2. إلغاء تصويت الثقة على الحكومة الجديدة لدى عرضها على الكنيست ـ يتكئ المقترح في هذا على ما هو قائم في عدد من الدول ذات النظام الديمقراطي البرلماني المشابه للنظام القائم في إسرائيل، حيث من المتبع والمقبول هناك أن يقوم رئيس الحكومة بعرض حكومته الجديدة على البرلمان دون أية حاجة إلى تصويت ثقة عليها (أي تصويت البرلمان لمنح الحكومة الجديدة ثقته). ويقترح "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" تبني هذا النموذج واعتماده في إسرائيل أيضاً، بما فيه من تحجيم لقدرة الأحزاب السياسية الصغيرة على المساومة لقاء انضمامها إلى الحكومة (كما يجري في إسرائيل اليوم) وتسهيل لمهمة تشكيل الحكومة الجديدة.

3. إلغاء القانون الذي يوجب حل الكنيست في حال عدم المصادقة على ميزانية الدولة ـ من أجل تعزيز قدرة الحكومة على الحكم ورفع مستوى الحوكمة، إلى جانب توسيع دائرة الخيارات والإمكانيات السياسية ـ الحزبية المتاحة أمامها وتعزيز قدرتها على التوصل إلى اتفاقيات سريعة وطارئة لسنّ قانون محدد أو لتمرير قانون الميزانية العامة للدولة، يوصي "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بإلغاء النص القانوني الذي يوجب حل الكنيست (والذهاب، بالتالي، إلى انتخابات تشريعية جديدة قبل انتهاء الدورة القانونية) في حال عدم مصادقة الكنيست على قانون الميزانية العامة للدولة.

4. الإبقاء على إمكانية تغيير الحكومة بواسطة تصويت الثقة البنّاء ـ البنود الثلاثة التي وردت أعلاه تزيد من إمكانية تشكيل حكومة أقلية (تعتمد على أغلبية برلمانية ضئيلة)، ولذا يعتقد خبراء "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بضرورة الإبقاء على الإمكانية القائمة اليوم لتغيير الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، في تركيبة الكنيست نفسها (من دون الحاجة إلى حل الكنيست وإجراء انتخابات جديدة)، وذلك من خلال تصويت الثقة البنّاء ـ أي، بتأييد 61 عضو كنيست وما فوق، فقط. في مثل هذه الحالة، إذا كان رئيس الحزب الأكبر ـ الذي حصل على عدد الأعضاء الأكبر في الكنيست أو على عدد الأصوات الأكبر في الانتخابات ـ يقف على رأس كتلة برلمانية ما، بينما تمتلك الكتلة المناوئة/ المعارضة 61 عضواً (في الكنيست) أو أكثر، يكون بالإمكان عندئذ تغيير رئيس القائمة الأكبر واستبداله برئيس حكومة من الكتلة المناوئة، بواسطة تصويت الثقة فقط.

5. تشديد شروط انفصال الكتل البرلمانية وانقسامها ـ تشريع قانون "رئيس القائمة الأكبر"، كما ورد في البند 1 أعلاه، إضافة إلى رفع نسبة الحسم (كما جرى عشية انتخابات العام 2015)، هما خطوتان تشجعان تحالف قوائم انتخابية صغيرة وانخراطها في قائمة انتخابية واحدة عشية الانتخابات. وهذا، في نظر خبراء "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، تطور إيجابي ومحمود. غير أن قائمة تحالفية كهذه تستطيع، وفقاً للأنظمة القائمة والمعمول بها اليوم، الانقسام والانفصال إلى كتل، كعدد الأحزاب التي تشكلها وتشارك فيها، فور انتهاء الانتخابات مباشرة، ما يعني أن عمليات الانقسام والانفصال قد تزداد في الكنيست بشكل ملحوظ. ولهذا، يقترح "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" تشديد الشروط وتصعيب إمكانيات انقسام قائمة انتخابية مركبة من عدة أحزاب وانفصالها إلى كتل برلمانية متعددة. ويقضي هذا الاقتراح بحرمان الكتلة المنفصلة، في أية عملية انقسام وانفصال تحصل خلال السنتين الأوليين من عمل الكنيست الجديد بعد انتخابه، من مخصصات تمويل المصروفات الجارية المستحقة لها من ميزانية الدولة عادة.

ويورد "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" اقتراحاً آخر، أكثر راديكالية، يقضي باعتبار أي انفصال يحصل خلال السنتين الأوليين من دورة الكنيست الجديدة بمثابة "اعتزال". وفي هذه الحالة، فإن أي انفصال ـ سواء كان انفصال أحزاب قائمة أو انفصال أكثر من ثلث أعضاء الكتلة ـ يعتبر "اعتزالاً" تُفرض عليه العقوبات المشددة المفروضة اليوم على الانفصال عن كتلة برلمانية قائمة. وتشمل هذه العقوبات:
• عدم جواز تعيين أعضاء الكنيست المنفصلين وزراء أو نواب وزراء خلال دورة الكنيست العينية؛
• عدم جواز انضمام أعضاء الكنيست المنفصلين إلى كتلة أخرى في الكنيست خلال دورتها العينية، ثم عدم أحقيتهم بالتالي في الحصول على تمويل مصروفات جارية خلال دورة الكنيست العينية؛
• عدم جواز ترشح أعضاء الكنيست المنفصلين، خلال الانتخابات الجديدة، التالية، ضمن قائمة انتخابية تحالفية مع حزب كان ممثلاً في دورة الكنيست العينية.

6. إلغاء البند الذي يتيح للكنيست حل نفسه إبان عملية تشكيل حكومة جديدة ـ بغية إفساح المجال أمام استنفاد أية محاولة لتشكيل حكومة جديدة، حتى النهاية، بعيداً عن "سوط" التهديد الدائم بحل الكنيست، يوصي "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" بإلغاء النص القانوني (بند في قانون الكنيست) الذي يتيح للكنيست "التغلب" على عملية تشكيل حكومة جديدة بواسطة حل نفسه (والذهاب إلى انتخابات برلمانية جديدة). ويقضي هذا الاقتراح بعدم تمكين الكنيست من سن قانون لحل نفسه والذهاب إلى انتخابات جديدة (كما هي الحال اليوم) طوال الفترة الممتدة من تكليف المرشح بتشكيل حكومة جديدة (في ظل "قانون رئيس القائمة الأكبر" ـ من لحظة نشر النتائج الرسمية لانتخابات الكنيست) وحتى موعد عرض الحكومة الجديدة على الكنيست.

مقترح "مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل"

ينطلق هذا المقترح، الذي أعده أبراهام (رامي) ريطوف، من "الشعور السائد في الحيز العام الإسرائيلي بأن طريقة الانتخابات الحالية غير سليمة"، إذ أن الصراعات الائتلافية لا تسمح بدفع وتنفيذ إصلاحات وإجراءات جدية وجوهرية؛ الجولات الانتخابية المتتالية، بوتائر مرتفعة، لا تؤدي إلى اختراقات واضحة ولا تفضي إلى قرارات حاسمة؛ تراجع وضعف الهوية الحزبية، بما يشجع السياسيين ـ النجوم على الانسحاب من الأحزاب الكبيرة والانفصال عنها "نحو إقامة شظايا أحزاب وتعيين أعضاء كنيست مطيعين مذعنين". والنتيجة: أزمة حوكمة عميقة وهبوط حاد جدا في نوعية منتخَبي الجمهور وممثليه في الكنيست.

يستعرض هذا المقترح عددا من الطرق الانتخابية البديلة المعمول بها في دول أخرى في العالم ويخلص، في ختام عملية محاكاة للوضع الإسرائيلي استنادا إلى نتائج الانتخابات البرلمانية العامة في نيسان 2019، إلى استنتاج قاطع بأن طريقة الانتخابات المعتمدة في إيرلندا (والتي يطلق عليها اسم طريقة "الصوت الوحيد المتحرك") تلبي، مع بعض التغييرات والمواءمات، احتياجات المجتمع الإسرائيلي بصورة تامة تقريباً.
وبعد أن يستعرض المقترح طرق الانتخابات المعتمدة في عدد من الدول في العالم، بما في كل واحدة منها من أفضليات ونواقص، إيجابيات وسلبيات، إضافة إلى بحث مدى ملاءمة كل منها للواقع الإسرائيلي، بتمايزاته المختلفة، يخلص إلى الاستنتاج بأنه كان من المفضل للكنيست الإسرائيلي تبني طريقة الانتخابات المعتمدة في إيرلندا واعتمادها في قانون خاص يتم سنه لهذا الغرض.

يؤسس الباحث استنتاجه هذا على جملة من التسويغات من بينها، بصورة أساسية: الأول ـ تشجع هذه الطريقة جمهور الناخبين على تقصي كل ما يتعلق بالمرشحين، فرداً فرداً، وعدم الاكتفاء بكونهم مرشحين في قائمة حزبية، في إطار حزبي. وبهذا، فهي تفيد وتساعد في محاصرة وتقليص ظاهرة انتخاب مرشحين يفتقرون إلى القدرات القيادية والتمثيلية وإلى المؤهلات السياسية في الحد الأدنى، كما هو حاصل في إسرائيل تكرارا، لمجرد كون هؤلاء المرشحين مطيعين للقائد الحزبي ومنفذين لإرادته، السياسية والاجتماعية والحزبية، وهو ما يمكن أن يساهم، في نهاية المطاف، في تحسين القوى البشرية في الكنيست. الثاني ـ تتيح هذه الطريقة التعبير عن موقف مركب حيال المرشحين، بما في ذلك إمكانية التصويت لمرشحين من قوائم انتخابية (حزبية) مختلفة. ومن شأن انتخاب كهذا أن يحفز المرشحين على طرح مواقف براغماتية من أجل الفوز بأصوات مجمل الناخبين، بمن فيهم مصوتو الأحزاب الأخرى، المنافسة. والثالث ـ أن هذه الطريقة تلغي الحاجة إلى إجراء انتخابات داخلية تمهيدية (برايميرز) في الأحزاب المختلفة، إذ أن المرشحين من الحزب نفسه يتنافسون بالتوازي ويستطيع عضو الحزب الناخب ترتيب المرشحين وتدريجهم كما يرتئي، دونما حاجة إلى انتخابات تمهيدية داخلية.

ثم يشرح الباحث كيف يمكن أن يبدو تبني هذه الطريقة الانتخابية (الإيرلندية) وتطبيقها في إسرائيل، بما في ذلك التقسيم إلى مناطق (دوائر) انتخابية، وذلك من خلال محاكاة تقوم على أساس النتائج الحقيقية التي أسفرت عنها انتخابات نيسان 2019 ثم انتخابات أيلول 2019. ويوضح أن مدى تأثير طريقة المناطق الانتخابية مرهون، إلى حد بعيد ووثيق جدا، بعدد الممثلين الذين تنتدبهم المنطقة المحددة لعضوية البرلمان: كلما كان عدد ممثلي المنطقة (الدائرة) الانتخابية أقل، كانت الأفضلية أكبر للأحزاب الكبيرة. وعلى هذا، أخضع الباحث ثلاثة تقسيمات محتملة للفحص، على النحو التالي: الأولى ـ تقسيم الدولة إلى خمس مناطق (دوائر) انتخابية، بحيث تمكون كل دائرة ممثلة بواسطة 22 حتى 99 عضواً في الكنيست. الثانية ـ تقسيم الدولة إلى 12 دائرة انتخابية، بحيث تكون كل دائرة ممثلة بـ 8 حتى 13 عضواً في الكنيست. والثالثة ـ تقسيم الدولة إلى 120 دائرة انتخابية، بحيث تكون كل دائرة ممثلة بعضو واحد في الكنيست. في المرحلة التالية، ينبغي ترجمة النتائج الحقيقية التي أسفرت عنها الانتخابات في كل دائرة انتخابية وتدريجها في لائحة حسب تفضيلات الناخبين للقوائم الانتخابية (الحزبية)، بافتراض إنها تتوزع بصورة تناسبية بين الأحزاب الأخرى التي احتار بينها الناخبون.

تبين نتائج هذه المحاكاة أن تقسيم البلاد إلى خمس مناطق (دوائر) انتخابية، مع 22 ممثلاً على الأقل لكل دائرة، هو الخيار الأنسب والأكثر ملاءمة للواقع في إسرائيل. ففي هذه الإمكانية، تتعزز قوة الأحزاب الكبيرة بصورة معتدلة، من دون إحداث تغيير جوهري في موازين القوة بين الكتل الكبرى، علاوة على فوز جميع الأحزاب التي تجاوزت عتبة نسبة الحسم بتمثيل في الكنيست، دون أي استثناء. وبهذا، تم حفظ التوازن الحيوي ما بين الرغبة في خلق منظومة سياسية ـ حزبية أكثر تركيزاً، من جهة أولى، وبين الحاجة إلى الإبقاء على الكنيست بتركيبة تمثل، بصورة حقيقية، جميع القطاعات السكانية وأطيافها السياسية. وينوه الباحث هنا إلى حقيقة أن الانتقال إلى هذه الطريقة الانتخابية لا يمثل تغييرا دراماتيكيا، من الناحية البراغماتية على الأقل، تزيد من احتمالات تبنيها وتطبيقها، من الوجهة السياسية.

يشير معد هذا المقترح إلى أنه بعد فترة تأقلم لهذه الطريقة الانتخابية الجديدة، يتعرف الناخبون وأحزابهم خلالها على المنظومة الجديدة وإسقاطاتها المختلفة، سيكون بالإمكان زيادة عدد المناطق (الدوائر) الانتخابية إلى 12، مع تحديد وتقييد عدد ممثلي كل دائرة انتخابية بـ 13 عضو كنيست فقط. وبعد تكريس هذا التغيير وتحوله إلى "منهج طبيعي"، يصبح التنافس بين الأحزاب وقوائمها الانتخابية أشد صعوبة وضراوة، مما يحتم عليها انتشاراً جماهيريا واسعاً، على عكس ما هو قائم اليوم إجمالاً.

يشدد المقترح على أن الدوائر الانتخابية ذات عدد ممثلين أقل من ثمانية أعضاء في الكنيست هو خيار غير محبذ، لأن المجتمع الإسرائيلي متنوع كثيراً ومتقطب، وهو (التنوع والتقاطب) ما لا يمكن أن يجد له تعبيراً حقيقيا وملائما في دائرة انتخابية صغيرة جدا. ففي الخيار الأكثر تطرفاً من بين البدائل الثلاثة المذكورة أعلاه (120 دائرة انتخابية مع ممثل واحد في الكنيست عن كل دائرة) ستكون الانعكاسات سلبية جدا، بل خطيرة، على الخارطة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية، إذ ستبقى أحزاب مثل شاس، العمل، "إسرائيل بيتنا" واتحاد أحزاب اليمين بدون أي تمثيل في الكنيست، وهو ما يعني ـ في رأي معد المقترح ـ حرمان قطاعات واسعة من السكان في إسرائيل من التمثيل السياسي ـ البرلماني، في مقدمتها: المهاجرون من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، الحريديم الشرقيون والصهيونيون المتدينون، علاوة على فوز "اليسار الصهيوني" بتمثيل الحد الأدنى. وإضافة إلى ذلك، ينبغي الانتباه إلى أن نظام الحكم في إسرائيل يقوم، عمليا، على الحكم الائتلافي، وفي غياب دستور (كما هي الحال في إسرائيل حتى اليوم) أو ثقافة سياسية ـ حزبية راسخة ومتينة، يبقى التوازن الأساس في مواجهة قوة الحكومة وسلطتها محصورا في الاتفاقيات الائتلافية. أما الانتقال السريع جدا لنهج الدوائر الانتخابية الصغيرة جدا فقد يفضي إلى فوز حزب واحد بأغلبية مطلقة في الكنيست، ثم بحرية مطلقة في السيطرة على مقاليد الحكم وإدارة شؤون الدولة والمواطنين. وقد بينت المحاكاة لتي جرت في هذا السياق أن حزب الليكود يقترب جدا من هذا الاحتمال، بفوزه بأغلبية 58 مقعدا في الكنيست.

ختاماً، يشدد هذا المقترح على أن هذه الطريقة الانتخابية (المعتمدة في إيرلندا) هي الأكثر ملاءمة للواقع الإسرائيلي ومن شأنها ضمان أفضل صورة من التمثيل لمختلف الآراء والمصالح في المجتمع الإسرائيلي، لكنها تؤدي ـ في المقابل وفي الوقت نفسه ـ إلى تقييد الأحزاب وتقليص قدرتها على الانقسام والانفصال (كما يحصل اليوم)، كما تقلص من حجم القوة الفائضة التي يمتلكها السياسيون من "النجوم". ورغم أنه من الصعب التكهن بما سيغدو عليه الواقع السياسي ـ الحزبي الإسرائيلي في أعقاب تبني هذه الطريقة، إلا أن بالإمكان الترجيح، بحذر شديد، بأن الأحزاب القائمة على نجومية القائد الفرد سوف تتأذى بصورة واضحة، نظرا لميلها الجارف عادة إلى انتخاب مرشحين عديمي الخبرة في إدارة حملات مستقلة بعيداً عن القائد وبمعزل عن توجيهاته. في المقابل، من المتوقع أن تستفيد الأحزاب الكبيرة من هذه الطريقة ولكن ـ كما ورد أعلاه ـ ليس على حساب الأحزاب والقوائم الانتخابية التي تمثل قطاعات معينة من السكان، مثل القائمة المشتركة ويهدوت هتوراه (الحريديم الغربيون). أما التغيير الأهم الذي قد تدفع الطريقة الجديدة باتجاهه، فهو تغيير صورة الأحزاب نفسها. فبدلاً من أحزاب النجوم، من غير تاريخ أو منظومات وهيئات حزبية، تحتم هذه الطريقة على السياسيين من مختلف الدرجات والمستويات التعاون والعمل المشترك على صعيد قُطري، وليس محلياً فقط، وهو ما من شأنه أن يحول الأحزاب السياسية إلى أداة حكم على درجة عالية من الكفاءة والنجاعة، إلى تجمع حقيقي من السياسيين والقادة.

 

المصطلحات المستخدمة:

الكتلة, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات