ما بدا لوهلة، في أوائل أيلول الماضي، أنه مجرد بالون مناورة انتخابية أطلقه بنيامين نتنياهو عشية الانتخابات للكنيست الـ 22، التي جرت يوم السابع عشر من ذلك الشهر، يبدو اليوم أنه قد أصبح "مشروعاً سياسياً" إسرائيلياً يتسع ويتعالى الحديث عنه والنقاش حوله والتأكيد على "ضرورة تطبيقه وإخراجه إلى حيز التنفيذ"، الآن وفي أسرع وقت ممكن، وإلاّ فسيكون الأمر بمثابة "إهدار فرصة تاريخية" و"إخفاق خطير" في استثمار التغيير التاريخي الذي حصل في الموقف الأميركي من المستوطنات الإسرائيلية، كما أعلنه وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، مؤخراً. ولكن جهات إسرائيلية أخرى تصرّ على أن الحديث المتسع والمتعالي عن ضم غور
الأردن، الآن في هذه الأيام، ما هو إلا "شارة الافتتاح" في الجولة الانتخابية القريبة، الثالثة في غضون أقل من سنة، التي يبدو أن إسرائيل متجهة نحوها بصورة شبه مؤكدة.
مناورة انتخابية أم مشروع سياسي؟
في يوم العاشر من أيلول الماضي، قبل موعد الانتخابات البرلمانية العامة في إسرائيل بأسبوع واحد بالضبط، وبينما كانت نتائج استطلاعات الرأي العام تفيد بتراجع في قوة نتنياهو وحزبه الليكود الانتخابية وبتعادل متوقع بين قوته وقوة معسكر الخصم بيني غانتس، زعيم تحالف "أزرق أبيض"، خرج نتنياهو بما هيأ له مقربوه وروّجوا، مسبقاً، بأنه سيكون "إعلاناً دراماتيكياً". فقد عقد نتنياهو مساء ذلك اليوم مؤتمراً صحافياً خاصاً ومقتضباً أعلن من خلاله أنه سيبادر إلى ضم منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت وفرض السيادة الإسرائيلية عليها بعيد الانتخابات (في 17 أيلول) مباشرة وتشكيله حكومة جديدة، في حال فاز بالأغلبية اللازمة.
وقال نتنياهو، في مؤتمره الصحافي إياه، إن "فرض السيادة على كل المستوطنات والمناطق الاستراتيجية سيكون بالاتفاق مع الولايات المتحدة، لأن صفقة القرن التي تطرحها الإدارة الأميركية تشكل "فرصة تاريخية" لبسط السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة (الضفة الغربية)"، مشدداً على "ضرورة أن يبقي الجيش الإسرائيلي على تواجده في كل غور الأردن" وعلى أن "الحكومة المقبلة ستضع وتنفذ خطة خاصة لنشر وتعزيز المستوطنات الإسرائيلية في تلك المنطقة"، مؤكداً أن "مناطق غور الأردن وشمال البحر الميت وهضبة الجولان هي الحزام الأمني الهام لإسرائيل في الشرق الأوسط"!
وأشار نتنياهو، أيضاً، إلى أن ضم منطقة غور الأردن سيكون "الخطوة الأولى لحكومتي الجديدة، بعد الانتخابات مباشرة، إذا ما فزنا بها"، في إطار الطموح الإسرائيلي "لبلوغ حدود ثابتة تضمن عدم تحول الضفة الغربية إلى ما يشبه قطاع غزة"، مضيفاً: "كما سنقوم بضم مستوطنات أخرى، بعد نشر خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب" وختم قائلاً: "أعطوني القوة لأعزز إسرائيل وأمنها"!
وفي إطار إعلان نيته هذه، عرض نتنياهو خرائط لمنطقة غور الأردن، قال إنها (الخرائط) "تابعة للأجهزة الأمنية منذ عام 2013 – 2014"، مؤكدا أنها "تمنح إسرائيل السيطرة حتى الجهة الشرقية التي تمتد من طريق ألون حتى وادي أور، وتستمر حتى عين جدي، وتضم كل الوحدات الاستيطانية الموجودة هناك".
وقد رأت قطاعات واسعة، سياسية ـ حزبية وشعبية، في المجتمع الإسرائيلي آنذاك أن نتنياهو لا يطلق "خطته" هذه إلا كمناورة أخيرة قبيل الانتخابات، بمثابة محاولة أخيرة، لدرء خطر خسارة الانتخابات، وذلك من خلال إغراء واستمالة أكبر عدد ممكن من المصوتين الإسرائيليين المؤيدين للاستيطان والمستوطنات وللضم، كي يقرروا التصويت لحزب الليكود ونتنياهو مباشرة. وقد كان التعليق الأكثر انتشاراً من جانب خصوم نتنياهو السياسيين ـ الحزبيين على "بيانه الدراماتيكي" هذا هو ما يمكن إيجازه بالكلمات التالية: "هذا كلام فارغ.. إنه (نتنياهو) يخشى المحاكمة بتهم الفساد ويعمل كل شيء لتجنب الخسارة في الانتخابات ثم تجنب عقوبة السجن التي قد تلي خسارة الانتخابات"!
نتنياهو... قبل وبعد!
الذين يعتبرون إعلان نتنياهو بشأن ضم منطقة غور الأردن مجرد مناورة انتخابية لن توضع موضع التطبيق الفعلي، في المستقبل المنظور على الأقل، هم الذين يشيرون أساساً إلى موقف قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الذين أبدوا ـ وفق تقارير صحافية نشرت آنذاك ـ غضباً شديداً وصريحاً حيال إعلان نتنياهو يوم العاشر من أيلول، وخصوصاً على خلفية عدم إشراكهم في التحضير لذلك الإعلان وعدم إجراء مداولات ونقاشات معمقة حول الموضوع الذي ينطوي على دلالات وإسقاطات أمنية واسعة وعميقة الأثر، ودون فحص ميزان الفوائد مقابل الأضرار المترتبة على هذه الخطوة.
وفي هذا السياق، كان الصحافي بن كسبيت قد كشف، في صحيفة "معاريف" (13/9/2019)، أن "البيان الدراماتيكي" الذي أعلنه نتنياهو يوم 10 أيلول جاء بتأخير نحو ساعتين بسبب محادثة حادة وصاخبة بينه وبين رؤساء الأجهزة الأمنية، وخصوصا رئيس "الموساد" ورئيس "الشاباك" ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وأن نتنياهو كان ينوي في الأصل الإعلان ـ خلال بيانه الدراماتيكي إياه ـ عن ضم فوري لمنطقة غور الأردن، إلا أنه تراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة بسبب معارضة رؤساء الأجهزة الأمنية وانتقاداتهم، وكذلك بسبب موقف المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، الذي أبلغ نتنياهو بأن حكومة انتقالية (كالتي كانت في تلك الأيام) لا تستطيع اتخاذ مثل هذه الخطوة البعيدة الأثر.
كما يشير هؤلاء إلى موقف نتنياهو السابق الذي كان رافضاً بقوة لخيار ضم منطقة غور الأردن وبسط السيادة الإسرائيلية عليها، بل كان يؤمن ويعلن، طوال سنوات عديدة، أنه لا يعتبر الاستيطان في تلك المنطقة "أمراً حيوياً"، وفق ما هو مثبت في العديد من الوثائق والتسجيلات. ويذكر هؤلاء، بشكل خاص، أن وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جون كيري، كان قد حاول في العام 2014 دفع مبادرته للسلام وأن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، بنيامين نتنياهو، "وافق على التنازل عن مستوطنات الغور، على إخلائها وعلى الإبقاء على الحضور الأمني الإسرائيلي فقط هناك". أما الموضوع الوحيد الذي كان موضع خلاف ونقاش آنذاك فهو، كما يؤكد هؤلاء، هو الفترة الزمنية التي سيستمر فيها التواجد الأمني المذكور.
ويذكّر هؤلاء، أيضاً، بأن نتنياهو نفسه أعلن، في خطاب ألقاه في العام 2011 من على منبر الكنيست، عشية زيارة قام بها إلى الولايات المتحدة، أنه "يصرّ فقط على تواجد أمني إسرائيلي في منطقة غور الأردن"! وأضاف: "الدولة الفلسطينية ستقوم فقط من خلال تسوية سلمية لا تمس بأمن إسرائيل. هذه الدولة يجب أن تكون منزوعة السلاح، مع ترتيبات أمنية جدية في الميدان، بما فيها وجود عسكري إسرائيلي طويل الأمد على طول نهر الأردن".
ويؤكد هؤلاء أن موقف نتنياهو هذا مثبت في العديد من الشهادات التي أدلى بها أشخاص عايشوا المرحلة وتفاصيلها عن كثب، كما أنها مثبتة أيضاً في مذكرات جون كيري نفسه.
وغداة إدلاء نتنياهو بـ "بيانه الدراماتيكي" يوم 19 أيلول، نشر مارتن إنديك، المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط والسفير الأميركي الأسبق في إسرائيل، تغريدة على حسابه على موقع "تويتر" أكد فيه أن "نتنياهو هو الذي كان يعتقد ويكرر أن ضم منطقة غور الأردن ليس ضرورياً".
وكذّب إنديك ادعاء حزب الليكود في إحدى دعاياته الانتخابية آنذاك (في انتخابات أيلول 2019) بأن بيني غانتس، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في تلك الفترة (2013 – 2014)، كان يعارض ضم غور الأردن. وأوضح إنديك إن وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أعد مسودة أولية لاتفاقية سلام تقضي بـ"الإبقاء فقط على وجود عسكري إسرائيلي، علني وخفي، في المناطق (الفلسطينية)، وكذلك في غور الأردن". وأضاف: "الوحيد الذي عارض المسودة وتنازل إسرائيل عن غور الأردن هو موشيه يعلون، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع. وقد منع يعلون غانتس من الحديث عن هذه الخطة مع أي من المسؤولين الأميركيين".
نتنياهو يعود إلى مناورته/ مشروعه!
ما أن أدلى وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، ببيانه "التاريخي" ـ كما وصفته إسرائيل ـ الذي قال فيه، يوم 18 تشرين الثاني الجاري، إن الولايات المتحدة لا تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية) وفي غور الأردن "انتهاكاً للقانون الدولي"، وهو ما يتناقض تماماً مع إعلان الإدارة الأميركية في عهد الرئيس جيمي كارتر، في العام 1987، بأن المستوطنات غير شرعية وتتناقض مع القانون الدولي ـ حتى سارع نتنياهو إلى "دعوة بيني غانتس لتشكيل حكومة وحدة قومية يكون في طليعة مهامها ضم غور الأردن إلى إسرائيل وفرض السيادة الإسرائيلية على هذه المنطقة"، إلى جانب إطلاق العنان لمبادرات تشريعية في الكنيست لسن قانون خاص لضم غور الأردن إلى إسرائيل.
فقبيل إعادة غانتس التفويض بتشكيل حكومة جديدة إلى رئيس الدولة وقبل إعلان المستشار القانوني للحكومة قراره تقديم لائحة اتهام ضد نتنياهو، توجه الأخير، يوم 19 تشرين الثاني الجاري، إلى زعيم تحالف "أزرق أبيض"، بيني غانتس ودعاه إلى تشكيل "حكومة وحدة قومية" تقوم "بضم غور الأردن وترسم الحدود الشرقية لدولة إسرائيل".
وقال نتنياهو، في شريط مصور نشره على صفحات التواصل الاجتماعي: "القرار التاريخي الذي أصدرته الإدارة الأميركية يوم أمس يمنحنا فرصة لمرة واحدة من أجل ترسيم حدود دولة إسرائيل من الشرق، وذلك من خلال ضم غور الأردن". وأضاف: "ولهذا، أدعو بيني غانتس إلى تشكيل حكومة وحدة قومية يكون الموضوع الأول على جدول أعمالها، في يومها الأول، ضم غور الأردن إلى إسرائيل"! وختم بالقول: "الشعب والتاريخ لن يغفرا لمن يهدر هذه الفرصة التاريخية"!
وفي موازاة ذلك، وكجزء من الاستعداد للمعركة الانتخابية الجديدة، الوشيكة، أطلق نتنياهو العنان للمساعي التشريعية في الكنيست لسن قانون يقضي بضم غور الأردن إلى إسرائيل. فقد أعلنت عضو الكنيست شارون هاسكيل، من الليكود، أن رئيس الحكومة، نتنياهو، حثها على تسريع البحث في الكنيست حول مشروع القانون الذي كانت تقدمت به لهذا الغرض قبل نحو أسبوعين. وقالت هاسكيل إنه في أعقاب إعلان الإدارة الأميركية أن "المستوطنات الإسرائيلية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) شرعية"، توجهت إلى اللجنة المختصة في الكنيست لتقصير إجراءات التشريع، على أن يكون الموعد المراد لإنجاز عملية سن هذا القانون هو الأسبوع المقبل، حداً أقصى. وقالت إنها تبني على "التعهد الذي قطعه حزب أزرق أبيض إبان الانتخابات الأخيرة بأن يسعى إلى سن قانون لضم غور الأردن إلى إسرائيل". وتوقعت هاسكيل أن يحظى اقتراح القانون هذا بتأييد "لا أقل من 80 عضو كنيست".
يذكر أن هاسكيل كانت وضعت اقتراح القانون على طاولة الكنيست الـ 20، للمرة الأولى، ثم عادت وطرحته الآن، من جديد، رغم الانسداد الحاصل على جبهة المحاولات لتشكيل حكومة جديدة.
من جهة أخرى، قدمت عضو الكنيست أييلت شاكيد، رئيسة حزب "اليمين الجديد" ووزيرة العدل السابقة، الأسبوع الماضي، اقتراح قانون "لبسط السيادة الإسرائيلية" (أي، ضمّ، لكن من دون استخدام كلمة "ضم"!) على "مناطق غور الأردن، غوش عتصيون ومعاليه أدوميم، بما فيها أيضاً المناطق التجارية والصناعية، المواقع الأثرية، الشوارع وأراضي الدولة التي تقع بين المستوطنات في المنطقة ج". وقالت شاكيد: "أمامنا الآن فرصة سياسية وجاهزية عالية من جانب الولايات المتحدة لإنجاز إجراءات الضم هذه، وهي فرصة لن تتكرر. ولذا، ممنوع التردد أو التلكؤ بل ينبغي الاستغلال الفوري والسريع لهذه الفرصة والشروع في عملية بسط السيادة الإسرائيلية على هذه المناطق".
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, الموساد, تلي, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, موشيه يعلون