المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1136
  • برهوم جرايسي

رغم أن انتخابات أيلول 2019 جرت بعد 161 يوما من سابقتها، إلا أنها حملت الكثير من المؤشرات في الساحة السياسية الإسرائيلية، فهذه الانتخابات أبقت حزب العمل بعيدا بخطوة واحدة عن الزوال، وأسدلت الستار على محاولات إيهود باراك اقتحام السياسة من جديد ولو من بوابة خلفية، كما قالت هذه الانتخابات إن طابع التصويت الطائفي اليهودي ما تزال له جيوب أحيت حركة شاس من جديد. وليس هذا فقط.

 

التصويت الطائفي اليهودي

في ظل أجواء حل الكنيست بعد 50 يوما من انتخابات نيسان 2019، اندمج حزب "كلنا" بزعامة اليهودي الشرقي وزير المالية موشيه كحلون، بحزب الليكود، وعمليا عاد مع غالبية فريقه إلى حزبه الأم. وجاءت هذه الخطوة، بعد أن تلقى كحلون ضربة قاصمة، إذ هبط تمثيله من 10 مقاعد حصل عليها في أول انتخابات يخوضها مع حزبه "كلنا" في العام 2015، إلى 4 مقاعد في نيسان الماضي، ما يعني أنه كان على حافة عدم اجتياز نسبة الحسم. وقد أدرك كحلون حقيقة أنه في انتخابات الإعادة لن يجتاز نسبة الحسم، فهرب عائدا إلى حزبه الليكود الذي نشأ فيه، والذي لم ينفك عن سياسته اليمينية الاستيطانية المتطرفة يوما.
وكنا في تحليلاتنا في العام 2015 نوهنا بأن "كلنا" اقتنص من شاس مقعدين كاملين على الأقل، في حين أن مقعدين آخرين من شاس ذهبا للقائمة التي لم تعبر نسبة الحسم في حينه، برئاسة المنشق عن شاس الوزير الأسبق إيلي يشاي. وفي تلك الانتخابات هبط تمثيل شاس من 11 مقعدا في انتخابات 2013 إلى 7 مقاعد في 2015. إلا أنه لاحقا، كانت التحليلات والاستنتاجات، أن نمط التصويت الطائفي اليهودي، انحصر مع السنين، في جمهور المتدينين المتزمتين "الحريديم". إلا أن انتخابات أيلول 2019، التي جرت بعد 161 يوما من نيسان، أبرزت أن التصويت الطائفي اليهودي الشرقي ما زال قائما، ولو أنه ليس بهذا القدر الذي كنا نشهده بشكل خاص في سنوات السبعين والثمانين، وهذا الآن برز مع حل حزب "كلنا".

فقد كان نمط التصويت هذا واضحا في ارتفاع عدد الأصوات التي حصلت عليها حركة شاس بأكثر من 71 ألف صوت، وحققت 9 مقاعد مع فائض في الأصوات. ولفحص مصادر الزيادة، اتجهنا لفحص نتائج الانتخابات في البلدات اليهودية ذات الغالبية الساحقة من اليهود الشرقيين، ومقارنتها مع نتائج انتخابات نيسان، التي خاضها حزب "كلنا" بقائمة مستقلة.

والبلدات والمدن التي فحصنا نتائجها غالبيتها في الجنوب، وهي أوفكيم، وبئر السبع، وديمونا، ويروحام، ونتيفوت، وسديروت، وكريات جات، وكريات ملاخي. ووجدنا أن شاس زادت قوتها في كل واحدة من تلك البلدات بما بين 30% إلى 50%. وفي بعض البلدات "ابتلعت" شاس كل أصوات حزب "كلنا"؛ وأحيانا أقل، فيما ذهب الباقي، حسب التقدير، لقائمة حزب العمل المتحالف مع حزب "غيشر"، وقد تميزت تلك القائمة بالطابع اليهودي الشرقي. وسنأتي على هذا الجانب هنا بشكل مستقل.

وما يراد قوله إن التصويت الطائفي اليهودي ما زال قائما، وهو يستطيع أن يحرّك ما بين مقعدين إلى 4 مقاعد، على الأقل، في كل انتخابات، حسب التقدير الذي ارتكز على فحص جولات الانتخابات الثلاث الأخيرة.

ولكن هذا يبقى أقل بكثير، وبما لا يقاس، عما كان في عقود سابقة، خاصة في سنوات السبعين والثمانين. فهناك شبه إجماع في قراءة التاريخ على أن اليهود الشرقيين كانوا القوة اليهودية الأساس، التي أنهت تفرّد حزب العمل في الحكم، فهذا الحزب وضع في السنوات الـ 29 الأولى أنماط التمييز العنصري، وليس فقط التمييز ضد العرب، وهو الأساس، وانما أيضا ضد اليهود الشرقيين، في مؤسسات وأروقة الحكم. وعلى الرغم من أنه منذ العام 2001، وحتى الآن، ترأس حزب العمل يهودي شرقي أربع مرات، إلا أن لعنة الشرقيين مستمرة في ملاحقته.

ورغم ذلك هناك أسباب أخرى لحقيقة أن غالبية أصوات جيوب التصويت الطائفي، في الانتخابات الأخيرة، انجرفت نحو شاس الدينية المتزمتة وليس لحزب العمل. فهذا ينبع من ثلاثة أسباب حسب التقدير: الأول الميول اليمينية لدى اليهود الشرقيين، لكونهم ما زالوا شريحة أضعف من اليهود الأشكناز، رغم تقلص الفجوات بين الجمهورين بقدر كبير جدا، وفق التقارير الاقتصادية الاجتماعية التي تصدر تباعا في السنوات الأخيرة. إلا أن البلدات التي عرضناها هنا ما يزال فيها مستوى المعيشة أقل من معدلات المعيشة لدى اليهود. وثانيا، أن هذا الجمهور يريد أن يكون قريبا من دائرة الحكم، ليحقق مطالب، وهو يرى بحركة شاس أن فرصها للانخراط في الحكومة، أكثر من فرص حزب العمل. والسبب الثالث ممكن أن يكون عدم ثقة بحزب العمل الذي، كما ذكر، وضع منذ سنوات الخمسين كل نهج وسياسات التمييز ضد اليهود الشرقيين، حينما كان ينفرد بالحكم تقريبا، حتى العام 1977؛ ولم يغر هذا الجمهور أن قائمة حزب "العمل- غيشر" يقودها ثلاثة يهود شرقيين مميزين.

العمل وميرتس

وجهت انتخابات نيسان 2019 ضربتين قاصمتين لحزب العمل، وهي الأشد، ولحزب ميرتس. إذ انهار حزب العمل في انتخابات نيسان، حين كان برئاسة آفي غباي، إلى 6 مقاعد، بعد أن كان قد تمثل في الولاية الـ 20 التي سبقت بـ 19 مقعدا، داخل كتلة "المعسكر الصهيوني" التي كان لها 24 مقعدا. وهذا حضيض غير مسبوق، وعكس وضعية الحزب، الذي دخل مرحلة الموت السريري في سنوات الألفين، ولكنه لم يستغل الفرصة التي حصل عليها في انتخابات 2015، ليتقدم إلى الأمام، بل واصل نهج التلعثم في الخطاب السياسي، وعدم طرح نفسه كبديل واقعي للحكم.

كما أن حركة ميرتس هي أيضا هبط تمثيلها من 5 مقاعد في انتخابات 2015، إلى 4 مقاعد في نيسان الماضي. وهناك وجه مشابه في كلا الحزبين، وهو أنه في كل واحد منهما انقض على رئاسة الحزب من لا يحظى بإجماع عليه في كوادر الحزب. آفي غباي في حزب العمل الذي انضم إليه قبل 8 أشهر من انتخابات رئاسة الحزب التي جرت في صيف 2017، وفاز برئاسته. وتمار زاندبرغ، التي رغم أنها نشأت في ميرتس، إلا أنها فازت بأغلبية محدودة، وحملت معها توجهات من شأنها أن تحرف حركة ميرتس عن توجهاتها.

في أعقاب حل الكنيست، بعد انتخابات نيسان بـ 50 يوما، لم يكن أي من الحزبين قد ضمّد جراحه، وسارع لتلمس طريقه، كي يبتعد عن خطر عدم اجتياز نسبة الحسم، التي تعادل 4 مقاعد كحد أدنى، إلا أن ما جرى في هذين الحزبين من تحالفين ليسا متجانسين، كان السبب في مراوحتهما عند ذات القوة، مع ميول لخسائر أكبر لاحقا، رغم أن الحزبين حققا معا زيادة بحوالي 58 ألف صوت، ومقعد واحد لقوتيهما مجتمعتين.

فقد كان السياق الطبيعي للتحالفات أن يكون التحالف بين العمل وميرتس، ثم تنضم لهما أحزاب، مثل الحزب الذي أسسه إيهود باراك، تمهيدا لانتخابات أيلول، حزب "إسرائيل ديمقراطية"، وحتى حزب "غيشر" الذي أسسته النائبة أورلي ليفي- أبكسيس وحققت في نيسان ما يعادل مقعدين، ولم تجتز نسبة الحسم.

إلا أن رئيس حزب العمل الجديد- العائد عمير بيرتس، فرض على حزبه تحالفا أحاديا مع "غيشر". ورغم كل ما كان يقوله بيرتس في تلك الأيام، فإنه لا يغطي على حقيقة أن بيرتس راهن على حصان خاسر. فقد لجأ للشرقية ابنة الوزير الأسبق دافيد ليفي، دون سواها، معتقدا أنه بهذا سينقض على قوة حزب "كلنا" المنحل، التي باتت "مشاعا" بنظره. وهذا التحالف خلق بلبلة في حزب العمل تبعتها استقالات. فالنائبة شيلي يحيموفيتش استوعبت الخطة قبل الإعلان عنها وانسحبت من السياسة، فيما انسحبت النائبة البارزة ستاف شافير لتنضم إلى قائمة ميرتس.

وكما ذكر هنا من قبل، فإن العمل لم يستفد من هذا التحالف غير المنطقي، من ناحية التوجهات السياسية وقاعدة مصوتيه. كذلك، وعلى الرغم من أن النائبة أورلي ليفي هي على رأس حزب "غيشر" وحصلت في انتخابات نيسان على حوالي 75 ألف صوت، إلا أن هذا التحالف حصل على قرابة 22 ألف صوت زيادة على ما حصل عليه حزب العمل في انتخابات نيسان. بمعنى أن هذا التحالف لم يحقق قفزة نوعية، وأبقى حزب العمل وحليفه مع ذات عدد المقاعد التي حصل عليها العمل وحده، 6 مقاعد، ما يعني أن تمثيل حزب العمل في الولاية الـ 22 هبط من 6 مقاعد إلى 5 مقاعد، إذ أن المقعد السادس للنائبة ليفي التي حلت ثانية في القائمة. وقد يرى البعض أن ليفي أحضرت معها أكثر، في حين أن العمل خسر بعضا من أصواته التي حصل عليها في نيسان، ولكن هذا يصعب حصره.

وهذا يعني أن حزب العمل بات حاليا على حافة نسبة الحسم، كتلة صغيرة، أقصى ما يمكن أن تلعبه في الكنيست إما أن تكون بيضة قبان لحكومة ما، أو متذيلة لحكومة واسعة، أو في أطراف المعارضة البرلمانية، ولا يلوح في الأفق أي احتمال لنهوض جديد للعمل في المستقبل المنظور، فالأجيال القديمة، التي كانت تصوت للعمل تقليديا، تقلصت إلى أقصى الحدود، في طريقها للغياب بعامل الجيل، والأجيال الجديدة لا ترى بهذا الحزب وتركيبته عنوانا لها.

والحال ليست أفضل في حركة ميرتس التي لجأت اضطرارا لتحالف مع إيهود باراك، والنائبة ستاف شافير المنشقة عن حزب العمل، ففي حين تمثلت ميرتس في انتخابات نيسان بـ 4 مقاعد، فإن تمثيلها المباشر هبط إلى 3 مقاعد، من أصل كتلة تضم 5 نواب. والاثنان الآخران هما النائبة شافير، والنائب يائير غولان عن حزب باراك، وقد كان حتى العام الماضي نائبا لرئيس أركان الجيش.

عمليا ميرتس كانت أمام خيار اللا مفر الذي فرضه عليها عمير بيرتس برئاسته لحزب العمل، والأخير هو من أغلق كل أبواب التفاوض. والتحالف الجديد لحركة ميرتس حقق لها قرابة 36 ألف صوت جديد، ومقعد إضافي عما حققته لوحدها في نيسان.

لكن في الحقيقة أن ميرتس حصلت على قرابة 60 ألف صوت جديد، لأن الحزب خسر قرابة 23 ألف صوت من فلسطينيي الداخل، من أصل 37 ألف صوت حصل عليها من الفلسطينيين في انتخابات نيسان، التي عاقب فيها الكثير من العرب الأحزاب الناشطة بينهم، بسبب عدم تشكيل القائمة المشتركة، وانشقاقها إلى قائمتين، رأى كثيرون أنهما ليستا متجانستين.

أما في أيلول، فإن الناخبين العرب عادوا إلى حضن المشتركة، أولا لأنها تشكلت من جديد، وثانيا عاقبوا ميرتس لتحالفها مع إيهود باراك، الذي ينظر له بأنه المسؤول الأول عن العدوان على مظاهرات هبة القدس والاقصى (هبة أكتوبر 2000) التي سقط فيها 13 شهيدا من فلسطينيي الداخل. ولم ينفع اعتذار باراك الذي أطلقه عند تقديم القوائم لانتخابات أيلول، إذ لاقى رفضا واسعا من القوى الفاعلة بين العرب، والجمهور عامة.

إسدال الستار على باراك سياسياً

الجانب الثالث الذي نعرضه هنا، ضمن مؤشرات انتخابات أيلول 2019، هو أن هذه الانتخابات أسدلت الستار كليا على محاولات إيهود باراك العودة إلى الحلبة السياسية من الباب الخلفي. فقد سعى باراك لهذا قبل انتخابات نيسان، ولكنه سرعان ما استنتج وضعيته وانسحب قبل أن يُقدم على أي خطوة فعلية، ولكنه تمهيدا لانتخابات أيلول، قرر خوض الانتخابات وأقام حزب "إسرائيل ديمقراطية"، مع تفاعل واسع جدا في شبكات التواصل ووسائل الإعلام. وكانت استطلاعات الرأي تمنح حزب باراك وحده ما بين 12 إلى 14 مقعدا، ولكن سرعان ما تفرقعت الفقاعة، وعرف باراك حقيقته، واختار التحالف مع ميرتس. وكما يبدو قرر الانسحاب إلى مقعد رمزي (العاشر) في محاولة لبث رسالة بأنه يريد التغيير فقط، ولكن ليس العودة المباشرة إلى دائرة الحكم. ولاحقا كانت استطلاعات الرأي تمنح تحالف "المعسكر الديمقراطي"، الذي ضم "إسرائيل ديمقراطية" وميرتس، ما بين 8 إلى 9 مقاعد، ثم بدأت عملية التراجع، على ضوء المنافسة الحادة بين تحالف "أزرق أبيض" وحزب الليكود.

لا يمكن رؤية باراك يواصل لاحقا أخذ دور في السياسة، وليس واضحا ماذا سيكون مصير حزبه، إلا أن الشخصية التي حملها إلى الكنيست، يائير غولان، يبث رسائل أولية، قد تكون أقرب إلى ميرتس، وحتى لحزب العمل، فرغم عقليته العسكرية، إلا أنه يهاجم بحدة اليمين الاستيطاني المتطرف. وفي الأيام الأخيرة كرر ما قاله قبل أقل من عامين، وهو ما زال في موقعه العسكري، إذ قارن بين النازيين في ألمانيا وممارسات عصابات المستوطنين. وقال قبل أيام "إن النازيين وصلوا أيضا إلى الحكم بطريقة ديمقراطية"، محذرا من غض الطرف عن ممارسات عصابات المستوطنين ومنحهم شرعية.

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات