بعد شهرين من الآن تكون قد مرّت 26 عاما على بدء العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية- الصينية، وخلال العام الجاري تم التوقيع على اتفاقية التجارة الحرّة بين الجانبين، على وقع تقارير تؤكد أن التبادل التجاري بينهما في ازدياد مستمر. لكن ما هو بارز في السنوات القليلة الأخيرة، هو تزايد استثمارات الصينيين في الاقتصاد الإسرائيلي، ولربما أن العنوان الأبرز لهذه الاستثمارات، كان شراء شركة صينية لشركة "تنوفا" للألبان، التي اعتبرت ذات يوم أضخم شركة اقتصادية للحركة الصهيونية منذ ما قبل النكبة.
ويتراوح التبادل التجاري بين الصين وإسرائيل ما بين 10 مليارات إلى 11 مليار دولار، ويميل الميزان لصالح الصين، بشكل كبير جدا، إذ شكّل الاستيراد من الصين في العام الماضي 2016، ما نسبته 5ر13% من اجمالي البضائع المستوردة إلى إسرائيل، وبلغت قيمتها 9ر7 مليار دولار، ما يعني أن الميزان التجاري يميل بنسبة 5ر77% لصالح الصين.
وحجم التبادل التجاري هذا مرشح للارتفاع أكثر في السنوات المقبلة، مع دخول اتفاقية التجارة الحرّة مع الصين إلى حيز التنفيذ بشكل كامل. ويرى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن التوقيع على اتفاقية التجارة الحرّة مع الصين، من شأنه أن يساهم في النمو الاقتصادي، إذ حسب قوله فإن في تلك الاتفاقيات احتمالات كبيرة لزيادة الصادرات الإسرائيلية إلى الصين، بموازاة عمل الحكومة الإسرائيلية ككل على فتح المزيد من الأسواق الآسيوية امام البضائع الإسرائيلية، بحسب قوله.
وكان تقرير إسرائيلي في الشهر الماضي قد أشار إلى أن الصادرات الإسرائيلية إلى الصين في الأشهر الثمانية الأولى من العام الجاري، سجلت ارتفاعا بنسبة 31%، مقارنة مع ذات الفترة من العام الماضي 2016، لتصل إلى مستوى 13ر2 مليار دولار، مقابل 63ر1 مليار دولار في نفس الفترة من العام الماضي، وسط مؤشرات إلى أن يسجل العام الجاري ذروة في الصادرات الإسرائيلية إلى الصين.
وحسب ما نشر، فإن الصادرات إلى الصين كانت قد سجلت في العام 2015 ذروة وبلغت قيمتها 1ر3 مليار دولار، إلا أن الصادرات سجلت تراجعا في العام 2016، إذ بلغ حجمها في حدود 3ر2 مليار دولار، ومن المتوقع لها أن ترتفع هذا العام إلى أكثر مما سجلته في 2015.
ويستدل من المعطيات أن الحصة الأكبر في الصادرات إلى الصين هي من القطاع التكنولوجي، إن كان على مستوى المركبّات الدقيقة، أو على مستوى المعدات، وتحل في المرتبة الثانية المواد الكيميائية على مختلف أنواعها. وقال تقرير أخير إن إسرائيل تطمح كذلك في تعميق صادراتها الطبية إلى الصين.
كذلك أقرت الحكومة الإسرائيلية هذا العام، استقدام 20 ألف عامل من الصين، ليعملوا في قطاع البناء، الذي يعاني من قلة العاملين. وبحسب ما نشر، فإن إسرائيل تعهدت للحكومة الصينية بعدم تشغيل العمال في مستوطنات المناطق المحتلة الفلسطينية والسورية منذ العام 1967. وحسب تقارير لاحقة فإن هذا القرار لم يدخل بعد إلى حيز التنفيذ كليا. واختيار الصين دون سواها لاستقدام العمال هو مؤشر اضافي إلى العلاقات النوعية بين الجانبين.
ويقولون في وزارة الخارجية الإسرائيلية إن العلاقات مع الصين تتطور في كافة الاتجاهات: السياسية والاقتصادية والثقافية والسياحية، وإنه في السنوات الأخيرة تم فتح عدد من القنصليات والممثليات الإسرائيلية في الصين، إلى جانب السفارة في بكين، والقنصلية المركزية في شنغهاي، وبموازاة ذلك تزايد عدد الموظفين الدبلوماسيين الإسرائيليين في الصين. في حين قالت تقارير إسرائيلية إن العديد من الشركات الإسرائيلية فتحت لها ممثليات وفروعا في الصين، لغرض تسهيل العلاقات الاقتصادية.
ويقول البروفسور إسحاق شاحور، من الجامعة العبرية "إن الصين ليست حليفة لإسرائيل بالمفهوم التقليدي، وهي لن تكون كذلك لأنه أولا وقبل كل شيء، هي لا تريد هذا". ويضيف "إن الصين تحاول الحفاظ على علاقات جيدة في الجهات الأخرى في المنطقة، ولكنها لن تأخذ على عاتقها مسؤولية خلق ارتباط وثيق مع إسرائيل، بشكل يتم تفسيره على أنه سيكون على حساب العلاقات مع العرب والفلسطينيين". وأشار الى أنه حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، فإن تصويت الصين في الهيئات الدولية، فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، لم يتغير.
واضاف شاحور أنه ومن ناحية إسرائيل، فإن الصين ليست بديلا للولايات المتحدة الأميركية، وأيضا ليست بديلا لتأثير يهود الولايات المتحدة، ولا سيما "من ناحية القدرة على التجاوب مع رغبة إسرائيل بضمان دعم سياسي وعسكري لها". ويرى شاحور أن مصلحة الدولتين الآن بالأساس هي دفع العلاقات الاقتصادية والثقافية، والحفاظ على الاستقرار الاقليمي والعالمي، ومكافحة الارهاب. ورغم ذلك يقول شاحور "إن اهتمام الصين بإسرائيل هو كاهتمامها بكل دولة أخرى تخدم تعاظم قوتها الاقتصادية، على الرغم من ادعاء البعض بأن للصين مصالح استراتيجية مع إسرائيل".
استثمارات الصين
في العام 2014 ضجت إسرائيل حينما اشترى مستثمرون صينيون شركة الألبان والأجبان الإسرائيلية الاضخم "تنوفا"، التي كانت ذات يوم معلما من معالم اقتصاد الحركة الصهيونية في فلسطين، كشركة تعاونية بين المستعمرات الزراعية في ذلك الحين، وبعد العام 1948 تحولت إلى شركة شبه احتكارية لهذا القطاع الاساسي، حتى بدأت تظهر شركات صغيرة نسبيا تنافسها. وقال تقرير في الشهر الماضي إن احتكار تنوفا هبط لأول مرّة منذ 70 عاما عن نسبة 50% وبات 49%، بعد أن كانت الشركة تسيطر على 90% من السوق حتى قبل ثلاثة عقود.
وكانت الضجة نابعة من أنه لأول مرّة تباع السيطرة كليا لشركة أجنبية، إذ سبقت الشركة الصينية في شراء "تنوفا" شركة هولندية، إلا أنه كان في هذه الأخيرة شريك إسرائيلي. وحاول بعض النواب المبادرة إلى مشروع قانون لمنع بيع شركات ذات صبغة، كتلك التي كانت لشركة "تنوفا"، إلا أن تلك المبادرة لم تدخل مسار التشريع وغابت عن جدول الأعمال.
وفي الأسابيع الأخيرة تعددت التقارير التي تحدثت عن ازدياد في اهتمام مستثمرين كبار من الصين بالاقتصاد الإسرائيلي في شتى المجالات، ومن بين ذلك دخول مستثمرين إلى قطاع شركات التأمين التقاعدي وتأمينات الحياة. ولكن التركيز هو على قطاع التقنيات العالية، بادعاء أن هذا القطاع ليس متطورا في الصين بالمستوى القائم في إسرائيل، ولذا فإن مستثمرين صينيين معنيون بالشراكة ما بين اقتصادهم والتقنيات الإسرائيلية.
ومن بين هؤلاء، الذين "تحتفي" بهم الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية، الثري جونغ تشيانغ، الذي يُعد واحدا من كبار أثرياء العالم، مع ثروة تقدر بـ 20 مليار دولار. وقد بدأ كصاحب شركة مشروبات خفيفة صغيرة، سرعان ما تحولت إلى واحدة من أضخم شركات المشروبات الصينية. وفي السنوات الأخيرة أقام شبه دفيئة تكنولوجية من ضمن اهتماماتها أيضا أبحاث تكنولوجية.
وقبل نحو شهر أبرم تشيانغ اتفاقية مع جامعة حيفا، لإقامة معهد تكنولوجي في الدفيئة التي اقامها في الصين، وبالتعاون مع خبراء صينيين. وقالت صحيفة "ذي ماركر" إنه "بذلك يكون تشيانغ قد انضم إلى سلسلة من الشركات الصينية التي تستثمر في إسرائيل في السنوات الأخيرة. ومبادرة تشيانغ تعكس الحضور المتزايد للصين في الاقتصاد الإسرائيلي، بما في ذلك التعاون التكنولوجي بين الدولتين".
ويقول تشيانغ لـ "ذي ماركر" إن الأمر الأصعب بالنسبة للصينيين هو أن لدينا بنية ضعيفة جدا في مجال العلم والتكنولوجيا، فهو ليس متطورا كما هي الحال في إسرائيل والدول الغربية الأخرى، ولهذا السبب فنحن نتوجه لإسرائيل وللجامعات الإسرائيلية، من أجل أن نطور سوية التكنولوجيا العصرية المتطورة.
ويقول رئيس جامعة حيفا رون روبين للصحيفة ذاتها "إن المعهد التكنولوجي في جامعة حيفا سيكون مرتبطا بالدفيئة التكنولوجية في الصين، وأيضا بالاكاديميا الصينية، ما قد يثمر تعاونا تجاريا عالميا".
وعلى صعيد الصادرات العسكرية والأمنية الإسرائيلية إلى الصين، لا توجد معطيات دقيقة حول حجم الصادرات الإسرائيلية، ولكن حسب التقديرات فإنها تتراوح سنويا ما بين بضع عشرات ملايين إلى بضع مئات ملايين الدولارات سنويا، وعلى الأغلب فإنها صادرات تتعلق بمعدات وبتقنيات عالية، إذ أن إسرائيل حذرة في التعاون العسكري مع الصين. فهذا الملف خلق في سنوات التسعين الأخيرة، وسنوات الالفين الاولى، أزمة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، التي اعترضت على صفقات بيع، منها ما تضمن طائرات من دون طيار، وأخرى قطع الكترونية.
وجاء في تقرير لمجلة الجيش في تموز 2015 "أن الحكومة الصينية أدركت أهمية إقامة علاقات وطيدة مع واشنطن، مع علمها أن هذه العلاقات عرضة لكثير من التقلبات والاضطرابات. ولذلك اعتمدت إلى حد كبير على اللوبي اليهودي، فكلما احتدمت الخلافات بين بكين وواشنطن، تتحرك القوى الخفية لتبريد سخونة الخلافات أو إبعادها عن الأضواء تمهيدًا لحلّها. ومع انتخاب جورج بوش الابن رئيسا لأميركا، كان احتواء الصين والحدّ من نفوذها المتنامي في طليعة اهتماماته. وأصيبت إسرائيل بالهلع إزاء هذه السياسة، ذلك أن العداء بين أميركا والصين يعني بداية النهاية للتعاون القائم بين بكين وتل أبيب في كل المجالات، ولا سيّما العسكرية منها. لكن أحداث 11 أيلول 2001 وفّرت الحل الملائم لإسرائيل. فقد سارعت الصين للإعلان عن تضامنها مع أميركا واستعدادها للدخول في تحالف معها في وجه الإرهاب".
وأضافت المجلة أنه على الرغم من العلاقات القائمة بين الصين وإسرائيل، ثمة معلومات تمنع وصولها إلى مراحل متقدمة. وأبرز هذه الكوابح التحفظ الأميركي من جهة والتخوف من تأثر العلاقات العربية- الصينية بشكل سلبي، من جهة أخرى. فالصين بحكم مصالحها الهائلة والمتشعبة مع العالم العربي، لا تستطيع تجاهل تأثير تعاونها مع إسرائيل على علاقاتها مع العرب، التي تضرب جذورها عميقًا في التاريخ، وترتكز على أسس تجارية وثقافية وسياسية متينة.
وتختم المجلة ذاتها بأن ما يدفع الصين إلى الحفاظ على علاقتها مع إسرائيل والسعي لتطوير التعاون معها، هو حاجتها إلى تحديث قوتها المسلحة والنهوض باقتصادها عبر الاستفادة من التقنية الإسرائيلية ورؤوس الأموال اليهودية، واستغلال وجود اللوبي اليهودي في أميركا من أجل التخفيف من العداء للصين في السياسة الأميركية. والصين تبحث اليوم عن حليف قوي أو حلفاء أقوياء تستعين بهم في أوقات الشدة. أما بالنسبة لإسرائيل، فإن الأسباب الحقيقية لتوجهها نحو الصين، ما زالت غير واضحة تماماً.